فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ}.
والسفر كما نعلم هو خروج عن رتابة الحياة في المواطن، ورتابة الحياة في الموطن تجعل الإنسان يعلم تمام العلم مقومات حياته، لكن السفر يخرج الإنسان عن رتابة الحياة فلا يتمكن من كثير من الأشياء التي يتمكن بها في الإقامة. فهب أنك مسافر، واضطررت إلى أن تستدين، ولا يوجد كاتب ولا يوجد شهيد، فماذا يكون الموقف؟ هاهو ذا الحق يوضح لك: {فرهان مقبوضة}. إذن فلم يترك الله مسألة الدين حتى في السفر فلم يشرع فقط للإقامة ولكن الحق قد شرع أيضا للسفر {فرهان مقبوضة} وهكذا الكتابة، والشهادة في الإقامة والرهان المقبوضة في السفر هدفها حماية الإنسان أمام ظروف ضغط المجتمع.
ولكن هل يمنع الحق سبحانه وتعالى طموحية الإيثار؟ هل يمنع الحق سبحانه وتعالى رجولية التعامل؟ هل يمنع الحق سبحانه وتعالى المروءات من أن تتغلغل في الناس؟ لا. إنه الحق سبحانه يقول: {فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤد الذي اؤتمن أمانته} إنه الطموح الإيماني، لم يسد الله مسألة المروءة والإيثار في التعامل. إن كتابة الدين والإشهاد والرهن ليس إلزامًا لأن الله قال: {فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤد الذي اؤتمن أمانته}.
وأيضا قد نفهم أن الذي اؤتمن هو المدين، وهنا نقول: لا، إن الأمر مختلف، فهنا رهان، وذلك معناه وجود مسألتين، المسألة الأولى هي {الدين}، والمسألة الثانية هي الرهان المقبوضة وهي مقابل الدين. فواحد مأمون على الرهن في يده. والآخر مأمون على الدين. ولهذا يكون القول الحكيم مقصودا به من بيده الرهن، ومن بيده الدين ومعنى ذلك أن يؤدي من معه الرهن أمانته، وأن يؤدي الآخر دينه. وحين نرتقي إلى هذا المستوى في التعامل فإن وازع الإنسان ليس في التوثيق الخارج عن ذات النفس، ولكنه التوثيق الإيماني بالنفس، ولكن أنضمن أن يوجد التوثيق الإيماني عند كل الناس؟. أنضمن الظروف؟. نحن لا نضمن الظروف، فقد توجد الأمانة الإيمانية وقت التحمل والأخذ، ولا نضمن أن توجد الأمانة الإيمانية وقت الأداء فقد يأتي واحد ويقول لك: إن عندي مائة جنيه وخذها أمانة عندك.
ومعنى أمانة أنه لا يوجد صك، ولا شهود، وتكون الذمة هي الحكم، فإن شئت أقررت بهذه الجنيهات المائة، وإن شئت أنكرتها. إن الرجل الذي يفعل معك ذلك إنما يطلب منك توثيق المائة جنيه في الذمة الإيمانية، ومن الجائز أن تقول له لحظة أن يفعل معك ذلك: نعم سأحتفظ لك بالمائة جنيه بمنتهى الأمانة. وتكون نيتك أن تؤديها له ساعة أن يطلبها، ولكنك لا تضمن ظروف الحياة بالنسبة لك، وأنت كإنسان من الأغيار. ومن الجائز أن تضغط عليك الحياة ضغطا يجعلك تماطل معه في أداء الأمانة، أو يجعلك تنكرها، فتقول لمن ائتمنك:
ابعد عني؛ أنا لا أملك نفسي في وقت الأداء، وإن ملكت نفسي وقت التحمل. والأمانة هي القضية العامة في الكون، وإن كانت خاصة الآن بالنسبة للآية الكريمة التي نحن بصددها والحق سبحانه يعرضها بعمومها على الكون كله فيقول جل شأنه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} سورة الأحزاب.
إن الكون كله أشفق على نفسه من تحمل الأمانة وهذا يعني أن الأمانة سوف تكون عرضة للتصرف والاختيار، ولا كائن في الكون قد ضمن لنفسه القدرة على الوفاء وقت الأداء. لقد أعلنت الكائنات قولها فأبين تحمل الأمانة وكأنها قالت: إنا يا ربنا نريد أن نكون مسخرين مقهورين لا اختيار لنا؛ ولذلك نجد الكون كله يؤدي مهمته كما أرادها الله، ما عدا الإنسان، أي أنه الذي قبل بما له من عقل وتفكير أن يتحمل أمانة الاختيار، وبلسان حاله أو بلسان مقاله قال: إنني قادر على تحمل الأمانة؛ لأني أستطيع الاختيار بين البدائل.
وهنا نذكر الإنسان: إنك قد تكون قويًا لحظة التحمل، ولكن ماذا عن حالك وقت الأداء؟ لذلك قال الله عن الإنسان: {وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا} لقد ظلم الإنسان نفسه حيث حمل الأمانة ولم يف بها فلذلك فهو ظلوم. وهو جهول لأنه قدر وقت التحمل، ولم يقدر وقت الأداء، أو ضمنها ثم خاس وخالف ما عاهد نفسه على أدائها. إذن فالإنسان وإن كان واثقًا أنه سيؤدي الأمانة إلا أنه عرضة للأغيار، لذلك قال الحق سبحانه: {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله} فالكتابة فرصة ليحمي الإنسان نفسه من الضعف وقت الأداء، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يوثق الأمر توثيقًا لا يجعلك أيها العبد خاضعًا لذمتك الإيمانية فقط، ولكنك تكون خاضعًا للتوثيق الخارج عن إيمانيتك أيضًا، وذلك يكون بكتاب الدين صغيرا أو كبيرا إلى أجله.
ويقول الحق سبحانه: {ولا تكتموا الشهادة} وهذه الكلمة {ولا تكتموا} إنما هي أداء معبر، لأن كلمة {شهادة} تعني الشيء الذي شهدته، فمادمت قد شهدت شيئًا فهو واقع، والواقع لا يتغير أبدًا، ولذلك فالإنسان الذي يحكي لك حكاية صدق لا يختلف قوله في هذه الحكاية حتى وإن رواها ألف مرة؛ لأنه يستوحي واقعًا.
لكن الكذاب يستوحي غير واقع، فيقول كلمة، وينسى أنه كذب من قبل فيكذب كذبة أخرى؛ لأنه لا يستوحي واقعًا. فكلمة الشهادة هي عن أمر مشهود واقع، ومادام الأمر مشهودًا وواقعًا، فإنه يلح على نفس من يراه أن يخرج، فإياك أن تكتبه بالكتم؛ لأن كلمة الكتم تعني أن شيئًا يحاول أن يخرج وأنت تحاول كتمانه، لذلك يقول الحق: {ولا تكتموا الشهادة} فكأن الطبيعة الإيمانية الفطرية تلح على صاحبها لتنطقه بما كان مشهودًا له لأنه واقع. لذلك يأتي الأمر من الحق؛ {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه}. وقد يسأل الإنسان: هل الكتم هنا صفة للقلب أو للإنسان الذي لم يقل الشهادة؟. إن الشاعر يقول:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ** جعل اللسأن على الفؤاد دليلًا

وساعة يؤكد الله شيئًا فهو يأتي بالجارحة التي لها علاقة بهذا الصدد، فتقول: أنا رأيته بعيني وسمعته بأذني، وأعطيته بيدي ومشيت له برجلي. إنك تذكر الجارحة التي لها دخل في هذه المسألة. وعندما يقول الحق: {فإنه آثم قلبه} إن كل الجوارح تخضع للقلب: {والله بما تعملون عليم} أي أن كتمك للحقيقة لن يغير من واقع علم الله شيئًا، وحينما تنتهي مسألة المداينة والتوثيق فيها وظروفها سواء كانت في المواطن العادي أو في أثناء السفر فإن الله يضمن للإنسان المتحرك في الحياة حركة شريفة وطاهرة.
فإن لم تكن هذه فالمصالح تتوقف، ويصيبها العطل، فالذي لا يقدر على الحركة فماذا يصنع في الحياة؟. إن قلبه يمتلئ بالحقد على الواجد، وحين يمتلئ قلبه بالحقد على الواجد فإنه يكره النعمة عنده، وحين يكره المعدم النعمة عند أخيه الواجد، فالنعمة نفسها تكره أن تذهب إلى من كره النعمة عند أخيه. إنها مسائل قد رتبها الحق سبحانه بعضها متعلق بالبعض الآخر. إن النعمة تحب المنعم عليه- بضم الميم وفتح العين- أكثر من حب المنعم عليه للنعمة وتذهب إلى من أنعم الله عليه بها بعشق، فمن كره النعمة عند منعم عليه فالنعمة تستعصي عليه حتى كأنها تقول له: لن تنال مني خيرًا. وليجربها كل إنسان.
أحبب النعمة عند سواك فستجد نعمة الكل في خدمتك، إنك إن أحببت النعمة عند غيرك فإنها تأتي إليك لتخدمك. وأيضًا فعلى المؤمن أن يعرف أن بعض النعم ليست وليدة كد وجهد، قد تكون النعمة مجرد فضل من الله، يفضل به بعض خلقه، فحين تكرهها أنت عند المنعم عليه تكون قد اعترضت على قدر الله في النعمة. وحين تعترض على قدر الله في النعمة فإن الحق سبحانه لا يجعلك تنتفع منها بشيء.
لقد قلنا ذلك في مجال اضطرار الإنسان إلى الربا لأنه لم يجد من يقرضه قرضًا حسنًا، ولم يجد من يؤدي فرض الله له من الزكاة لتسع حاجته فاضطر أن يأخذ بالربا، وبذلك يدخل المجتمع الربوي في حرب مع الله، وهل لأحد جلد على أن يدخل في حرب مع الله؟ لا. والمجتمع الربوي يدخل في حرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم- الربا وقال في حجة الوداع: «إن كل ربا موضوع ولكن رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله» رواه مسلم في خطبة الوداع في حجة الوداع.
وتلك سمة سمو التشريع السماوي، إن التشريع البشري يحمي به صاحبه أقاربه من التقنين، لكن التشريع السماوي يفرض تطبيقاته أولا على الأقارب. وكان الأسوة في ذلك سيدنا عمر بن الخطاب، فساعة يريد عمر أن يضع التشريع فإنه يجمع أهله وأقاربه ويقول:
سأقوم بعمل كذا وكذا فوالذي نفسي بيده من خالفني في شيء من هذا لأجعلنه نكالًا للمسلمين. ويعلنها عمر أمام الناس، ولماذا أعلن عمر ذلك؟؛ لأن كثيرا من الناس يجاملون أولياء الأمور، وقد لا يكون أولياء الأمور على دراية بذلك؛ فقد نجد واحدًا يدخل على قوم على أساس أنه فلان بن فلان، وبالرعب يقضي هذا الإنسان مصالحه عند الناس برغم أنف الناس. وقد يكون ولي الأمر لا يعرف عن مثل هذا التصرف شيئًا. لكن حين يعلن ولي الأمر على الناس ولأقاربه أنه لا تفرقة أبدًا فيما يقنن وأن القانون سائر على نفسه وعلى أهله فمن استغل اسمًا لولي الأمر أو اصطنع شيئًا فالتبعة على من فعل له وعليه، وبذلك تستقيم الأمور. لكن أن تظهر الحقائق في استغلال أقارب الحكام بعد انتهاء فترات حكم الحكام، فهنا نقول: ولماذا لم نعرف كل شيء من البداية؟. وأين كانت الحقائق في وقتها؟.
إن الحاكم المسلم عليه أن يعلن للمحكومين أن القوانين إنما تطبق عليه أولًا وعلى من يعول. هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس عبد المطلب فإنه موضوع كله. وفي معركة بدر، أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم أهل بيته لقال واحد من الكفار: إنه يحمي أهل بيته، ولو أن أجر الاستشهاد هو الجنة فلماذا يقدم الأباعد ولا يقد أحبابه للقتال؟ لكن هاهو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم أقاربه وأحبابه، فهو العارف من ربه بأمر الشهادة وكيف أنها تقصر على الإنسان متاعب الحياة وتدخل الجنة. هكذا كانت المحاباة في صدر الإسلام، إنها محاباة في الباقي، ولم تكن كمحاباة الحمقى في الفاني.
وحين يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ويضرب على أيدي المرابين فهذه هي الحرب التي يجب أن تقوم، حرب من الله المالك القادر على المحاربة، أما الضعاف الذين لا يستطيعون القتال فهم لا يحاربون؛ لأنهم أمام خالقهم وقاهرهم فلا يقدرون على حربه ولذلك يجب أن تتنبه الدولة إلى مثل هذه الأمور وتقنن تقنينا إسلاميًا وبعد ذلك إذا لم تتسع الزكاة المفروضة إلى ما يقوم بأود المحتاجين فلتفرض الدولة ما تشاء لتفي بحاجة المحتاجين. والحق سبحانه وتعالى بعد أن أوضح الأمر عقيدة في قوله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، وتقنينًا للعقيدة في قوله: {لا إكراه في الدين}، وحماية للعقيدة بأمره سبحانه المؤمنين أن يقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا، وبعد ذلك تكلم الحق عن حماية حركة الاقتصاد في الإنفاق أولًا في سبيل الله، والإنفاق على المحتاجين. اهـ.