فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

وقد يجاب بأن القراءات السبع متواترة والنقل بالمتواتر إثبات علمي، وقول النحاة نفي ظني ولو سلم عدم التواتر فأقل الأمر أن تثبت لغة بنقل العدول وترجح بكونه إثباتًا، ونقل إدغام الراء في اللام عن أبي عمرو من الشهرة والوضوح بحيث لا مدفع له وممن روى ذلك عنه أبو محمد اليزيدي وهو إمام في النحو إمام في القراءات إمام في اللغات، ووجهه من حيث التعليل ما بينهما من شدة التقارب حتى كأنهما مثلان بدليل لزوم إدغام اللام في الراء في اللغة الفصيحة إلا أنه لمح تكرار الراء فلم يجعل إدغامه في اللام لازمًا على أن منع إدغام الراء في اللام مذهب البصريين، وقد أجازه الكوفيون وحكوه سماعًا، منهم الكسائي، والفراء، وأبو جعفر الرواسي، ولسان العرب ليس محصورًا فيما نقله البصريون فقط، والقراء من الكوفيين ليسوا بمنحطين عن قراء البصرة وقد أجازوه عن العرب فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم إذ من علم حجة على من لم يعلم. اهـ.

.قال ابن عادل:

قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ} قرأ ابن عامر وعاصمٌ برفع {يَغْفِرُ} و{يُعَذِّبُ}، والباقون من السبعةِ بالجزم، وقرأ ابن عباس والأعرجُ وأبو حيوة: {فَيَغْفِرَ} بالنصب.
فأمَّا الرفعُ: فيجوزُ أَنْ يكونَ رفعُه على الاستئنافِ، وفيه احتمالان:
أحدهما: أن يكونَ خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: فهو يَغْفِرُ.
والثاني: أنَّ هذه جملةٌ فعليةٌ من فعلٍ وفاعلٍ، عُطِفت على ما قبلها.
وأمَّا الجزمُ فللعطفِ على الجزاءِ المجزوم.
وأمَّا النصبُ: فبإضمار أَنْ، وتكونُ هي وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ معطوف على المصدر المتوهِّم من الفعلِ قبل ذلك، تقديره: تكنْ محاسبةُ، فغفرانٌ، وعذابٌ. وقد رُوي قولُ النابغة بالأوجه الثلاثة، وهو: الوافر:
فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ ** رَبيعُ النَّاسِ وَالبَلَدُ الحَرَامُ

ونَأْخُذْ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ ** أَجَبَّ الظَّهْر لَيْسَ لَهُ سَنَامُ

بجزم: نَأْخُذْ عطفًا على يَهْلِكْ رَبِيعُ ونصبه ورفعِه، على ما ذُكِرَ في {فَيَغْفِرْ} وهذه قاعدة مطَّرِدة، وهي أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعلٌ بعد فاءٍ أو واوٍ جاز فيه هذه الأوجُهُ الثلاثةُ، وإن توسَّطَ بين الشرطِ والجزاءِ، جاز جزمه ونصبه وامتنع رفعه، نحو: إِنْ تَأْتِنِي فَتَزُرْنِي أَوُ فَتَزُورَنِي، أَوْ وَتَزُرْني أَوْ تَزُورَنِي.
وقرأ الجعفي وطلحة بن مصرِّف وخلاَّد: {يَغْفِرْ} بإسقاط الفاء، وهي كذلك في مصحف عبد الله، وهي بدلٌ من الجواب؛ كقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ العذاب} [الفرقان: 68- 69]. وقال أبو الفتح: وهي على البدلِ من {يُحاسِبْكُمْ}، فهي تفسيرٌ للمحَاسَبَة قال أبو حيان: وليس بتفسيرٍ، بل هما مترتِّبان على المُحَاسَبَةِ. وقال الزمخشريُّ: ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملة، الحساب؛ لأنَّ التفصيلَ أوضحُ من المفصَّل، فهو جارٍ مجرى بدل البعض من الكلِّ أو بدل الاشتمال؛ كقولك: ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأْسَهُ وأَحْيَيْتُ زَيْدًا عَقْلَهُ، وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماءِ؛ لحاجةِ القبلتينِ إلى البيان.
قال أبو حيان: وفيه بعضُ مناقشةٍ: أمَّا الأولُ؛ فقوله: معنَى هذا البدلِ التفصيلُ لجملةِ الحسابِ، وليس العذابُ والغفرانُ تفصيلًا لجملةِ الحسابِ؛ لأنَّ الحِسَابَ إنما هو تعدادُ حسناتِه وسيئاتِه وحصرُها، بحيث لا يَشُذُّ شيءٌ منها، والغفرانُ والعذابُ مترتِّبان على المُحاسَبَة، فليست المحاسبةُ مفصَّلةٌ بالغفرانِ والعذابِ.
وأمَّا ثانيًا؛ فلقوله بعد أَنْ ذكر بدل البعض من الكل وبدل الاشتمال: وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماءِ لحاجةِ القبيلَين إلى البيان، أمَّا بدلُ الاشتمال، فهو يمكن، وقد جاءَ؛ لأنَّ الفعلَ يدُلُّ على الجنسِ، وتحته أنواعٌ يشتملُ عليها، ولذلك إذا وقع عليه النفيُ، انتفَتْ جميعُ أنواعه، وأمَّا بدلُ البعضِ من الكلِّ، فلا يمكنُ في الفعل إذ الفعلُ لا يقبلُ التجزُّؤَ؛ فلا يقال في الفعلِ له كلٌّ وبعضٌ، إلا بمجازٍ بعيدٍ، فليس كالاسم في ذلك، ولذلك يستحِيلُ وجودُ بدل البعضِ من الكلِّ في حق الله تعالى؛ إذ الباري لا يتقسَّم ولا يتبعَّض.
قال شهاب الدين: ولا أدري ما المانعُ من كونِ المغفرة والعذابِ تفسيرًا، أو تفصيلًا للحساب، والحسابُ نتيجتُه ذلك، وعبارةُ الزمخشريِّ هي بمعنى عبارة ابن جنِّي، وأمَّا قوله: إِنَّ بدلَ البعضِ من الكلِّ في الفعْلِ متعذِّرٌ، إذ لا يتحقَّق فيه تجزُّؤٌ، فليس بظاهرٍ؛ لأنَّ الكليةَ والبعضيةَ صادقتان على الجنس ونوعه، فإنَّ الجنسَ كلٌّ، والنوعَ بعضٌ، وأمَّا قياسُه على الباري تعالى، فلا أدري ما الجامع بينهما؟ وكان في كلام الزمخشريُّ ما هو أولى بالاعتراض عليه. فإنه قال: وقرأ الأعمش: {يَغْفِر} بغير فاءٍ مجزومًا على البدلِ من {يُحَاسِبْكُمْ}؛ كقوله: الطويل:
مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ** تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا

وهذا فيه نظرٌ؛ لأنه لا يطابق ما ذكره بعد ذلك؛ كما تقدَّم حكايتُه عنه؛ لأن البيت قد أُبدِلَ فيه من فعلِ الشرط، لا من جوابِه، والآية الكريمة قد أُبْدِلَ فيها من نفسِ الجواب، ولكنَّ الجامعَ بينهما كونُ الثاني بدلًا مِمَّا قبلَه وبيانًا له.
وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام، والباقون بإظهارها، وأظهر الباء قبل الميم هنا ابن كثير بخلافٍ عنه، وورشٌ عن نافع، والباقون بالإِدغام، وقد طَعَن قومٌ على قراءةِ أبي عمرٍو؛ لأنَّ إدغام الراءِ في اللام عندهم ضعيفٌ.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف يَقْرأ الجَازِمُ؟ قلت: يُظْهِر الراءَ، ويُدْغِم الباء، ومُدْغِمُ الراءِ في اللام لاحِنٌ مخطئ خطأً فاحِشًا، وراويه عن أبي عمرٍو مخطئ مرتين؛ لأنه يَلْحَنُ وينسُبُ إلى أعلمِ الناس بالعربية ما يُؤذِنُ بجهلٍ عظيم، والسببُ في هذه الروايات قِلَّةُ ضبطِ الرواة، وسبب قلةِ الضبطِ قلةُ الدراية، ولا يَضْبطُ نحو هذا إلا أهلُ النَّحو قال شهاب الدين. وهذا من أبي القاسم غيرُ مرضيٍّ؛ إذ القُرَّاء معتنُونَ بهذا الشأن؛ لأنهم تَلقَّوا عن شيوخهم الحرفَ بعد الحَرْفِ، فكيف يقلُّ ضبطُهُم؟ وهو أمرٌ يُدْرَكُ بالحسِّ السمعيِّ، والمانعُ من إدغام الراءِ في اللام والنونِ هو تكريرُ الراءِ وقوتُها، والأقوى لا يدغم في الأضعَف، وهذا مَذهبُ البصريِّين: الخليل وسيبويه ومَنْ تبعهما، وأجاز ذلك الفراءُ والكسائيُّ والرُّؤاسيُّ ويعقوبُ الحضرميُّ ورأسُ البصريِّين أبو عمرو، وليس قوله: إن هذه الرواية غلطٌ علَيْه بمُسَلَّم، ثم ذكر أبو حيان نقولًا عن القراء كثيرةٌ، وهي منصوصة في كتبهم، فلم أرَ لذكرها هنا فائدةً؛ فإنَّ مجموعها مُلَخَّصٌ فيما ذكرته، وكيف يقال: إنَّ الراوي ذلك عن أبي عمرو مخطئ مرتين، ومن جملة رُواتِهِ اليزيديُّ إمامُ النَّحو واللغةِ، وكان يُنازعُ الكسائيُّ رئاسته، ومحلُّهُ مشهُور بين أهلِ هذا الشَّأْن. اهـ.

.قال أبو السعود:

وتقديمُ المغفرةِ على التعذيب لتقدّم رحمته على غضبه. اهـ.

.قال الفخر:

وقد بيّن بقوله: {للَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} أنه كامل الملك والملكوت، وبين بقوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} أنه كامل العلم والإحاطة، ثم بيّن بقوله: {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} أنه كامل القدرة مستولي على كل الممكنات بالقهر والقدرة والتكوين والإعدام ولا كمال أعلى وأعظم من حصول الكمال في هذه الصفات والموصوف بهذه الكمالات يجب على كل عاقل أن يكون عبدًا منقادًا له، خاضعًا لأوامره ونواهيه محترزًا عن سخطه ونواهيه، وبالله التوفيق. اهـ.

.قال الخازن:

{والله على كل شيء قدير} يعني أنه تعالى قادر على كل شيء كامل القدرة فيغفر للمؤمنين فضلًا ويعذب الكافرين عدلًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب، وفي الآية دليل لأهل السنة في نفي وجوب التعذيب حيث علق بالمشيئة واحتمال أن تلك المشيئة واجبة كمن يشاء صلاة الفرض فإنه لا يقتضي عدم الوجوب خلاف الظاهر. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة البقرة: آية 282- 283]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}.
{إِذا تَدايَنْتُمْ} إذا داين بعضكم بعضا. يقال: داينت الرجل عاملته بِدَيْنٍ معطيا أو آخذا كما تقول: بايعته إذا بعته أو باعك. قال رؤبة:
دَايَنْتُ أرْوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى ** فَمَطَلَتْ بَعْضًا وَأَدَّتْ بَعْضَا

والمعنى: إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه. فإن قلت: هلا قيل: إذا تداينتم إلى أجل مسمى وأى حاجة إلى ذكر الدين كما قال: داينت أروى، ولم يقل: بدين؟ قلت: ذكر ليرجع الضمير إليه في قوله: {فَاكْتُبُوهُ} إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين، فلم يكن النظم بذلك الحسن. ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحالّ. فإن قلت: ما فائدة قوله: {مُسَمًّى}. قلت: ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام، ولو قال: إلى الحصاد، أو الدياس، أو رجوع الحاج، لم يجز لعدم التسمية. وإنما أمر بكتبة الدين، لأنّ ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود، والأمر للندب. وعن ابن عباس أن المراد به السلم وقال لما حرم اللَّه الرّبا أباح السلف. وعنه: أشهد أن اللَّه أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم في كتابه وأنزل فيه أطول آية. {بِالْعَدْلِ} متعلق بكاتب صفة له، أي كاتب مأمون على ما يكتب، يكتب بالسوية والاحتياط. لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص. وفيه: أن يكون الكاتب فقيها عالما بالشروط حتى يجيء مكتوبه معدلا بالشرع. وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب، وأن لا يستكتبوا إلا فقيها دينا {وَلا يَأْبَ كاتِبٌ} ولا يمتنع أحد من الكتاب وهو معنى تنكير كاتب {أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ} مثل ما علمه اللَّه كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير.
وقيل هو قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أي ينفع الناس بكتابته كما نفعه اللَّه بتعليمها. وعن الشعبي: هي فرض كفاية، وكما علمه اللَّه: يجوز أن يتعلق بأن يكتب، وبقوله فليكتب. فإن قلت: أي فرق بين الوجهين؟ قلت: إن علقته بأن يكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة المقيدة، ثم قيل له {فَلْيَكْتُبْ} يعنى فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها للتوكيد، وإن علقته بقوله فليكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق، ثم أمر بها مقيدة {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} ولا يكن المملى إلا من وجب عليه الحق، لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته وإقراره به. والإملاء والإملال لغتان قد نطق بهما القرآن {فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ}. {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ} من الحق {شَيْئًا} والبخس: النقص. وقرئ: {شيا}، بطرح الهمزة: وشيا، بالتشديد {سَفِيهًا} محجورا عليه لتبذيره وجهله بالتصرف {أَوْ ضَعِيفًا} صبيا أو شيخا مختلا {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ} أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لعىّ به أو خرس {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} الذي يلي أمره من وصىّ إن كان سفيها أو صبيا، أو وكيل إن كان غير مستطيع، أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه. وقوله تعالى: {أَنْ يُمِلَّ هُوَ} فيه أنه غير مستطيع ولكن بغيره، وهو الذي يترجم عنه {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} واطلبوا أن يشهد لكم شهيدان على الدين {مِنْ رِجالِكُمْ} من رجال المؤمنين. والحرية والبلوغ شرط مع الإسلام عند عامة العلماء. وعن على رضي اللَّه عنه: لا تجوز شهادة العبد في شيء. وعند شريح وابن سيرين وعثمان البتىّ أنها جائزة، ويجوز عند أبى حنيفة شهادة الكفار بعضهم على بعض على اختلاف الملل {فَإِنْ لَمْ يَكُونا} فإن لم يكن الشهيدان {رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ} فليشهد رجل وامرأتان، وشهادة النساء مع الرجال مقبولة عند أبى حنيفة فيما عدا الحدود والقصاص {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ} ممن تعرفون عدالتهم {أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما} أن لا تهتدى إحداهما للشهادة بأن تنساها، من ضل الطريق إذا لم يهتد له. وانتصابه على أنه مفعول له أي إرادة أن تضل. فإن قلت: كيف يكون ضلالها مرادا للَّه تعالى؟ قلت لما كان الضلال سببا للإذكار، والإذكار مسببا عنه، وهم ينزلون كل واحد من السبب والمسبب منزلة الآخر لالتباسهما واتصالهما، كانت إرادة الضلال المسبب عنه الإذكار إرادة للإذكار، فكأنه قيل: إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت.
ونظيره قولهم: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، وأعددت السلاح أن يجيء عدوٌّ فأدفعه.
وقرئ: {فَتُذَكِّرَ} بالتخفيف والتشديد، وهما لغتان. وفتذاكر. وقرأ حمزة: إن تضل إحداهما، على الشرط. فتذكر: بالرفع والتشديد، كقوله: {وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} وقرئ: {أن تضل إحداهما} على البناء للمفعول والتأنيث. ومن بدع التفاسير: فتذكر، فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا، يعنى أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر إِذا ما دُعُوا ليقيموا الشهادة. وقيل: ليستشهدوا. وقيل لهم شهداء قبل التحمل، تنزيلا لما يشارف منزلة الكائن. وعن قتادة: كان الرجل يطوف الحواء العظيم فيه القوم فلا يتبعه منهم أحد، فنزلت. كنى بالسأم عن الكسل، لأنّ الكسل صفة المنافق. ومنه الحديث: «لا يقول المؤمن كسلت» ويجوز أن يراد من كثرت مدايناته فاحتاج أن يكسب لكل دين صغير أو كبير كتابا، فربما مل كثرة الكتب. والضمير في {تَكْتُبُوهُ} للدين أو الحق {صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا} على أي حال كان الحق من صغر أو كبر. ويجوز أن يكون الضمير للكتاب وأن يكتبوه مختصرًا أو مشبعًا لا يخلوا بكتابته {إِلى أَجَلِهِ} إلى وقته الذي اتفق الغريمان على تسميته {ذلِكُمْ} إشارة إلى أن تكتبوه، لأنه في معنى المصدر، أي ذلكم الكتب {أَقْسَطُ} أعدل من القسط {وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ} وأعون على إقامة الشهادة {وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا} وأقرب من انتفاء الريب. فإن قلت: مِمَّ بنى أفعلا التفضيل، أعنى: أقسط، وأقوم؟ قلت: يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام، وأن يكون أقسط من قاسط على طريقة النسب بمعنى ذى قسط، وأقوم من قويم. وقرئ: {ولا يسأموا أن يكتبوه} بالياء فيهما.
فإن قلت: ما معنى {تِجارَةً حاضِرَةً} وسواء أكانت المبايعة بدين أو بعين فالتجارة حاضرة؟ وما معنى إدارتها بينهم؟ قلت. أريد بالتجارة ما يتجر فيه من الأبدال. ومعنى إدارتها بينهم تعاطيهم إياها يدا بيد.
والمعنى: إلا أن تتبايعوا بيعا ناجزا يدا بيد فلا بأس أن لا تكتبوه، لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين. وقرئ: {تجارة حاضرة} بالرفع على كان التامّة. وقيل: هي الناقصة على أنّ الاسم {تجارة حاضرة} والخبر {تديرونها} وبالنصب على: إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كبيت الكتاب:
بَنِى أسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بلَاءَنَا ** إذَا كانَ يَوْمًا ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا

أى إذا كان اليوم يوما {وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ} أمر بالإشهاد على التبايع مطلقًا، ناجزا أو كالئا لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف. ويجوز أن يراد: وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع يعنى التجارة الحاضرة، على أن الإشهاد كاف فيه دون الكتابة. وعن الحسن: إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد. وعن الضحاك: هي عزيمة من اللَّه ولو على باقة بقل {وَلا يُضَارَّ} يحتمل البناء للفاعل والمفعول. والدليل عليه قراءة عمر رضى اللَّه عنه: ولا يضارر، بالإظهار والكسر. وقراءة ابن عباس رضى اللَّه عنه: ولا يضارر، بالإظهار والفتح. والمعنى نهى الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما. وعن التحريف والزيادة والنقصان، أو النهى عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم، ويلزا، أو لا يعطى الكاتب حقه من الجعل، أو يحمل الشهيد مؤنة مجيئه من بلد.
وقرأ الحسن: ولا يضار، بالكسر {وَإِنْ تَفْعَلُوا} وإن تضارّوا {فَإِنَّهُ} فإنّ الضرار {فُسُوقٌ بِكُمْ}.
وقيل: وإن تفعلوا شيئا مما نهيتم عنه {عَلى سَفَرٍ} مسافرين. وقرأ ابن عباس وأبىّ رضى اللَّه عنهما كتابا. وقال ابن عباس: أرأيت إن وجدت الكاتب ولم تجد الصحيفة والدواة. وقرأ أبو العالية: كتبا. وقرأ الحسن: كتابا، جمع كاتب {فرهن} فالذي يستوثق به رهن. وقرئ: {فرهن} بضم الهاء وسكونها، وهو جمع رهن، كسقف وسقف. وفرهان. فإن قلت: لم شرط السفر في الارتهان ولا يختص به سفر دون حضر وقد رهن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم درعه في غير سفر. قلت: ليس الغرض تجويز الارتهان في السفر خاصة، ولكن السفر لما كان مظنة لإعواز الكتب والإشهاد، أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال من كان على سفر، بأن يقيم التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتب والإشهاد. وعن مجاهد والضحاك أنهما لم يجوّزاه إلا في حال السفر أخذا بظاهر الآية. وأما القبض فلابد من اعتباره. وعند مالك يصح الارتهان بالإيجاب والقبول بدون القبض {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به. وقرأ أبىّ: فإن أومن، أي آمنه الناس ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء والاستغناء عن الارتهان من مثله {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ} حث المديون على أن يكون عند ظن الدائن به وأمنه منه وائتمانه له، وأن يؤدّى إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه.
وسمى الدين أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان منه. والقراءة أن تنطق بهمزة ساكنة بعد الذال أو ياء، فتقول: الذي اؤتمن، أو الذي تمن. وعن عاصم أنه قرأ: الذي اتمن، بإدغام الياء في التاء، قياسًا على اتسر في الافتعال من اليسر، وليس بصحيح، لأنّ الياء منقلبة عن الهمزة، فهي في حكم الهمزة واتزر عامىٌّ، وكذلك ريا في رؤيا آثِمٌ خبر إن. و{قَلْبُهُ} رفع بآثم على الفاعلية، كأنه قيل: فإنه يأثم قلبه. ويجوز أن يرتفع قلبه بالابتداء. وآثم خبر مقدّم، والجملة خبر إن. فإن قلت: هلا اقتصر على قوله: {فَإِنَّهُ آثِمٌ}؟ وما فائدة ذكر القلب- والجملة هي الآثمة لا القلب وحده-؟ قلت: كتمان الشهادة: هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان إثما مقترفا بالقلب أسند إليه، لأنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ. ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عينى، ومما سمعته أذنى، ومما عرفه قلبي، ولأنّ القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه، وملك أشرف مكان فيه. ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط، وليعلم أنّ القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه، واللسان ترجمان عنه. ولأنّ أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح وهي لها كالأصول التي تتشعب منها. ألا ترى أنّ أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر، وهما من أفعال القلوب، فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: أكبر الكبائر الإشراك باللَّه لقوله تعالى: {فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} وشهادة الزور، وكتمان الشهادة. وقرئ: {قلبه}، بالنصب، كقوله: {سَفِهَ نَفْسَهُ} وقرأ ابن أبى عبلة: أثم قلبه، أي جعله آثما.