فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وكانتْ مِن الْقانِتِين}
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من أن المرأة ليست من الرجال وهو تعالى لم يقل من القانتات.
والجواب هو اطباق أهل للسان العربي على تغليب الذكر على الأنثى في الجمع فلما أراد أن يبين أن مريم من عباد الله القانتين وكان منهم ذكور وأناث غلب الذكور كما هو الواجب في اللغة العربية ونظير قوله تعالى: {إِنّكِ كُنْتِ مِن الْخاطِئِين}.
وقوله: {إِنّها كانتْ مِنْ قوْمٍ كافِرِين}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
سورة التحريم:
{يا أيُّها النّبِيُّ لِم تُحرِّمُ ما أحلّ الله لك تبْتغِي مرْضات أزْواجِك والله غفُورٌ رحِيمٌ (1)}
قوله: {تبْتغِي}: يجوز أن يكون حالا مِنْ فاعل {تُحرِّم} أي: لِم تُحرِّمُ مُبْتغيا به مرْضات أزواجِك. ويجوز أنْ يكون تفسيرا ل {تُحرِّمُ}، ويجوز أن يكون مستأنفا، فهو جوابٌ للسؤال. و{مرْضاة} اسمُ مصدرٍ، وهو الرِّضا، وأصلُه مرْضوة، وقد تقدّم ذلك والمصدرُ هنا مضافٌ: إمّا للمفعولِ أو للفاعل أي: أن تُرْضِي أنت أزواجك، أو أنْ يرْضيْن.
{قدْ فرض الله لكُمْ تحِلّة أيْمانِكُمْ والله موْلاكُمْ وهُو الْعلِيمُ الْحكِيمُ (2)}
قوله: {تحِلّة}: مصدر تحلل مضعّفا وهو نحو، تكْرِمة، وهذان ليسا مقيسيْن؛ فإنّ قياس مصدرِ فعّل: التفعيل، إذا كان صحيحا غير مهموزٍ، فأما المعتلُّ اللام نحو: زكّى، والمهموزُها نحو: نبّأ فمصدرُهما تفْعِلة نحو: تزْكية وتنْبِئة، على أنه قد جاء التفعيلُ كاملا في المعتلِّ نحو قوله:
باتتْ تُنزِّي دلْوها تنْزِيّا

وأصلُها تحْلله كتكْرِمة فأُدغِمتْ، وانتصابُها على المفعول به.
{وإِذْ أسرّ النّبِيُّ إِلى بعْضِ أزْواجِهِ حديثا فلمّا نبّأتْ بِهِ وأظْهرهُ الله عليْهِ عرّف بعْضهُ وأعْرض عنْ بعْضٍ فلمّا نبّأها بِهِ قالتْ منْ أنْبأك هذا قال نبّأنِي الْعلِيمُ الْخبِيرُ (3)}
قوله: {وإِذ أسرّ}: العاملُ فيه اذكُرْ، فهو مفعولٌ به لا ظرفٌ.
قوله: {فلمّا نبّأتْ بِهِ} أصلُ نبّأ وأنبأ وأخبر وخبّر وحدّث أنْ يتعدّى لاثنين إلى الأول بنفسِها، والثاني بحرف الجر، وقد يُحْذفُ الجارُّ تخفيفا، وقد يُحْذفُ الأول للدلالة عليه. وقد جاءت الاستعمالاتُ الثلاثةُ في هذه الآياتِ، فقوله: {فلمّا نبّأها بِهِ} تعدّ لاثنين حُذِف أوّلُهما، والثاني مجرورٌ بالباء، أي: نبّأت به غيرها، وقوله: {فلمّا نبّأها بِهِ} ذكرهما، وقوله: {منْ أنبأك هذا} ذكرهما وحذف الجارّ.
قوله: {عرّف بعْضهُ} قرأ الكسائي بتخفيف الراء، والباقون بتثقيلِها. فالتثقيلُ يكون المفعولُ الأول معه محذوفا أي: عرّفها بعضه أي: وقّفها عليه على سبيل الغيْبِ، وأعرض عن بعضٍ تكرُّما منه وحِلْما. وأمّا التخفيفُ فمعناه: جازى على بعضِه، وأعرض عن بعضٍ.
وفي التفسير: أنّه أسرّ إلى حفصة شيئا فحدّثتْ به غيرها فطلّقها، مجازاة على بعضِه، ولم يُؤاخِذْها بالباقي، وهو من قبيل قوله: {وما تفْعلُواْ مِنْ خيْرٍ يعْلمْهُ الله} [البقرة: 197] أي: يُجازيكم عليه، وقوله: {أولئك الذين يعْلمُ الله ما فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء: 63] وإنما اضْطُررنا إلى هذا التأويلِ لأنّ الله تعالى أطْلعهُ على جميعِ ما أنبأتْ به غيرها لقوله تعالى: {وأظْهرهُ الله عليْهِ} وقرأ عكرمة {عرّاف} بألفٍ بعد الراء، وخُرِّجتْ على الإِشباعِ كقوله:
............. من العقرابِ ** الشائلاتِ عُقد الأذْنابِ

وقيل: هي لغةٌ يمانيةٌ، يقولون: (عراف زيدٌ عمرا) أي: عرفه. وإذا ضُمِّنت هذه الأفعالُ الخمسةُ معنى أعْلم تعدّتْ لثلاثةٍ. وقال الفارسي: تعدّتْ بالهمزةِ أو التضعيف، وهو غلطٌ؛ إذ يقتضي ذلك أنها قبل التضعيفِ والهمزةِ كانتْ متعدِّية لاثنين، فاكتسبتْ بالهمزةِ أو التضعيفِ ثالثا، والأمرُ ليس كذلك اتفاقا.
{إِنْ تتُوبا إِلى الله فقدْ صغتْ قُلُوبُكُما وإِنْ تظاهرا عليْهِ فإِنّ الله هُو موْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ الْمُؤْمِنِين والْملائِكةُ بعْد ذلِك ظهِيرٌ (4)}
قوله: {إِن تتُوبآ}: شرطٌ وفي جوابِه وجهان، أحدهما: هو قوله: {فقد صغتْ} والمعنى: إن تتوبا فقد وُجِد منكم ما يُوْجِبُ التوبة، وهو ميْلُ قلوبِكما عن الواجبِ في مخالفةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في حُبِّ ما يُحِبُّه وكراهةِ ما يكرهه. و{صغتْ}: مالتْ، ويدُلُّ له قراءة ابنِ مسعودٍ {فقد راغتْ}. والثاني: أن الجواب محذوفٌ تقديرُه: فذلك واجبٌ عليكما، أو فتاب الله عليكما، قاله أبو البقاء. وقال: ودلّ على المحذوفِ فقد صغتْ؛ لأن إصغاء القلبِ إلى ذلك ذنبٌ. وهذا الذي قاله لا حاجة إليه، وكأنّه زعم أنّ ميْل القلبِ ذنبٌ فكيف يحْسُنُ أنْ يكون جوابا؟ وغفل عن المعنى الذي ذكرْتُه في صحةِ كوْنِه جوابا. و{قلوبُكما} مِنْ أفصحِ الكلامِ حيث أوقه الجمع موقع المثنى، استثقالا لمجيءِ تثنيتيْن لو قيل: قلباكما. وقد تقدّم تحريرُ هذا في آيةِ السّرِقةِ في المائدة، وشروطُ المسألةِ وما اختلف الناس فيه. ومِنْ مجيءِ التثنيةِ قوله:
فتخالسا نفْسيْهما بنوافِذٍ ** كنوافِذِ العُبْطِ التي لا تُرْقعُ

والأحسنُ في هذا البابِ الجمعُ، ثم الإِفرادُ، ثم التثنيةُ، وقال ابن عصفور: لا يجوز الإِفراد إلاّ في ضرورة كقوله:
حمامة بطْنِ الوادييْنِ ترنّمي ** سقاكِ مِنْ الغُرِّ الغوادِي مطيرُها

وتبعه الشيخُ، وغلّط ابن مالك في كونِه جعله أحسن من التثنيةِ. وليس بغلطٍ للعلة التي ذكرها، وهي كراهةُ توالي تثنيتيْن مع أمْنِ اللبْس.
وقوله: {إِن تتُوبآ} فيه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطابِ، والمرادُ أُمّا المؤمنين بنتا الشيخيْن عائشةُ وحفصةُ رضي الله عنهما وعن أبويْهما.
قوله: {وإِن تظاهرا} أصلُه تتظاهرا فأدْغم، وهذه قراءة العامّةِ، وعكرمةُ {تتظاهرا} على الأصل، والحسن وأبو رجاء ونافع وعاصم في روايةٍ عنهما بتشديد الظاء والهاء دون ألف وأبو عمروٍ في روايةٍ {تظاهرا} بتخفيف الطاء والهاء، حذف إحدى التاءيْن وكلُّها بمعنى المعاونة مِن الظهر لأنه أقوى أعضاءِ الإِنسانِ وأجلُّها.
قوله: {هُو موْلاهُ} يجوزُ أنْ يكون {هو} فصلا، و{موْلاه} الخبر، وأن يكون مبتدأ، و{موْلاه} خبرُه، والجملة خبرُ (إن).
قوله: {وجِبْرِيلُ} يجوزُ أنْ يكون عطفا على اسمِ الله تعالى ورُفِع نظرا إلى محلِّ اسمِها، وذلك بعد استكمالِها خبرها، وقد عرفْت مذاهب الناسِ فيه، ويكون {جبريلُ} وما بعده داخليْن في الولايةِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون جبريلُ ظهيرا له بدخولِه في عمومِ الملائكةِ، ويكون {الملائكة} مبتدأ و{ظهيرٌ} خبره، أُفْرِد لأنه بزنةِ فعيل. ويجوزُ أنْ يكون الكلامُ تمّ عند قوله: {موْلاه} ويكونُ {جبريل} مبتدأ، وما بعده عطْفٌ عليه.
و {ظهيرٌ} خبرُ الجميع، فتختصُّ الولايةُ بالله، ويكون {جبريل} قد ذُكر في المعاونةِ مرّتين: مرة بالتنصيصِ عليه، ومرة بدخولِه في عموم الملائكةِ، وهذا عكس ما في البقرة مِنْ قوله: {من كان عدُوّا لله وملائكته ورُسُلِهِ وجِبْرِيل} فإنه ذكر الخاصّ بعد العامِّ تشريفا له، وهنا ذُكِر العامُّ بعد الخاصِّ، لم يذْكُرِ الناسُ إلاّ القسم الأول.
وقوله: {وصالِحُ الْمُؤْمِنِين} الظاهرُ أنه مفردٌ، ولذلك كُتب بالحاء دون واوِ الجمع. وجوّزوا أن يكون جمعا بالواو والنون، حُذِفتْ النونُ للإِضافة، وكُتِب دون واوٍ اعتبارا بلفظه لأنّ الواو ساقطةٌ لالتقاء الساكنين نحو: {ويمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24] و{يدْعُ الداع} {سندْعُ الزبانية} [العلق: 18] إلى غيرِ ذلك، ومثل هذا ما جاء في الحديث: «أهلُ القرآن أهلُ الله وخاصّتُه» قالوا: يجوز أن يكون مفردا، وأن يكون جمعا كقوله: {شغلتْنآ أمْوالُنا وأهْلُونا} [الفتح: 11] وحُذِفتِ الواوُ لالتقاء الساكنين لفظا، فإذا كُتِب هذا فالأحسنُ أنْ يُكتب بالواوِ لهذا الغرضِ، وليس ثمّ ضرورةٌ لحذْفِها كما مرّ في مرسوم الخط.
وجوّز أبو البقاء في {جبريلُ} أن يكون معطوفا على الضمير في {موْلاه} يعني المستتر، وحينئذ يكون الفصلُ بالضميرِ المجرورِ كافيا في تجويزِ العطفِ عليه. وجوّز أيضا أنْ يكون مبتدأ و{صالحُ} عطفٌ عليه. والخبرُ محذوفٌ أي: مواليه.
{عسى ربُّهُ إِنْ طلّقكُنّ أنْ يُبْدِلهُ أزْواجا خيْرا مِنْكُنّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثيِّباتٍ وأبْكارا (5)}
قوله: {إِن طلّقكُنّ}: شرطٌ معترضٌ بين اسم عسى وخبرِها، وجوابُه محذوفٌ أو متقدمٌ أي: إنْ طلّقكُنْ فعسى. وأدغم أبو عمروٍ القاف في الكاف على رأيِ بعضِهم قال: وهو أوْلى مِنْ {يرْزُقكم} ونحوِه لِثِقلِ التأنيث.
{مُسْلماتٍ} إلى آخره: إمّا نعتٌ أو حالٌ أو منصوبٌ على الاختصاص، وتقدّمتْ قرأءتا {يُبْدِلهُ} تخفيفا وتشديدا في الكهف. وقرأ عمرو بن فائد {سيِّحاتٍ}، وإنما وُسِّطتِ الواوُ بين {ثيِّبات وأبْكارا} لتنافي الوصفيْن دون سائر الصفات. وثيِّبات ونحوه لا ينقاسُ لأنه اسمُ جنسٍ مؤنثٍ فلا يُقال: نساء خوْدات، ولا رأيت عِيْنات.
والثّيِّبُ: وزنُها فيْعل مِن ثاب يثوب أي: رجع كأنها ثابتْ بعد زوالِ عُذْرتِها، وأصلها ثيْوِب كسيِّد وميِّت، أصلُهما سيْوِد وميْوِت فأُعِلّ الإِعلال المشهور.
{يا أيُّها الّذِين آمنُوا قُوا أنْفُسكُمْ وأهْلِيكُمْ نارا وقُودُها النّاسُ والْحِجارةُ عليْها ملائِكةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يعْصُون الله ما أمرهُمْ ويفْعلُون ما يُؤْمرُون (6)}
قوله: {قوا أنفُسكُمْ}: أمرٌ من الوِقايةِ فوزنُه (عُوا) لأن الفاء حُذِفتْ لوقوعِها في المضارع بين ياءٍ وكسرةٍ، وهذا محمولٌ عليه، واللامُ حُذِفتْ حمْلا له على المجزوم، بيانه أنّ أصله اِوْقِيُوا كاضْرِبوا فحُذِفتِ الواوُ التي هي فاءٌ لِما تقدّم، واستثْقِلتِ الضمةُ على الياء فحُذِفتْ، فالتقى ساكنان، فحُذِفتْ الياءُ وضُمّ ما قبل الواوِ لتصِحّ. وهذا تعليلُ البصْريين. ونقل مكيٌّ عن الكوفيين: أنّ الحذف عندهم فرقا بين المتعدي والقاصر فحُذِفت الواوُ التي هي فاءٌ في يقي ويعِدُ لتعدِّيهما، ولم تُحْذفْ من يوْجل لقُصوره. قال: ويرِدُ عليهم نحو: يرِمُ فإنه قاصرٌ ومع ذلك فقد حذفوا فاءه. قلت: وفي هذا نظرٌ؛ لأنّ يوْجل لم تقعْ فيه الواوُ بين ياءٍ وكسرةٍ لا ظاهرةٍ ولا مضمرةٍ. فقلت: ولا مضمرة. تحرُّزا مِنْ يضعُ ويسعُ ويهبُ.
و{نارا} مفعولٌ ثانٍ. و{وقُودُها الناس} صفةٌ ل {نارا} وكذلك {عليها ملائكةٌ}. ويجوزُ أنْ يكون الوصفُ وحده عليها و{ملائكةٌ} فاعلٌ به. ويجوزُ أنْ تكون حالا لتخصُّصِها بالصفة الأولى وكذلك {لاّ يعْصُون الله}.
وقرأ بعضُهم {وأهْلوكم} وخُرِّجتْ على العطفِ على الضمير المرفوع بـ: {قُوا} وجوّز ذلك الفصلُ بالمفعولِ. قال الزمخشري بعد ذِكْرِهِ القراءة وتخريجها: فإنْ قلت: أليس التقديرُ: قُوا أنفسكم، ولْيقِ أهْلوكم أنفسكم؟ قلت: لا. ولكن المعطوف في التقديرِ مقارنٌ للواو، و{أنفسكم} واقعٌ بعده كأنّه قيل: قُوا أنتم وأهلوكم أنفسكم لمّا جمعْت مع المخاطبِ الغائب غلّبْته عليه فجعلْت ضميرهما معا على لفظِ المخاطبِ. وتقدّم الخلافُ في واو (وقود) ضما وفتحا في البقرة.
قوله: {مآ أمرهُمْ} يجوز أنْ تكون (ما) بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أي ما أمرهموه، والأصلُ: به. لا يُقال: كيف حذف العائد المجرور ولم يجُرّ الموصول بمثله؟ لأنه يطّردُ حذْفُ هذا الحرفِ فلم يُحْذفْ إلاّ منصوبا، وأن تكون مصدرية، ويكون محلُّها بدلا من اسمِ الله بدل اشتمالٍ، كأنه قيل: لا يعْصُون أمْره.
وقوله: {ويفْعلُون} قال الزمخشري: فإنْ قلت: أليستْ الجملتان في معنى واحدٍ؟ قلت: لا؛ لأن الأولى معناها: أنهم يتقبّلون أوامره ويلتزمونها، والثانية معناها: أنهم يُؤدُّون ما يؤمرون به، لا يتثاقلون عنه ولا يتوانوْن فيه.
{يا أيُّها الّذِين آمنُوا تُوبُوا إِلى الله توْبة نصُوحا عسى ربُّكُمْ أنْ يُكفِّر عنْكُمْ سيِّئاتِكُمْ ويُدْخِلكُمْ جنّاتٍ تجْرِي مِنْ تحْتِها الْأنْهارُ يوْم لا يُخْزِي الله النّبِيّ والّذِين آمنُوا معهُ نُورُهُمْ يسْعى بيْن أيْدِيهِمْ وبِأيْمانِهِمْ يقولون ربّنا أتْمم لنا نُورنا واغْفِرْ لنا إِنّك على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ (8)}
قوله: {نّصُوحا}: قرأ الجمهور بفتحِ النونِ، وهي صيغةُ مبالغةٍ، أسند النصح إليها مجازا، وهي مِنْ نصح الثوب أي: خاطه، وكأنّ التائب يُرقِّع ما خرقه بالمعصية. وقيل: مِنْ قولهم: (عسلٌ ناصِح) أي خالص. وأبو بكر بضم النون وهو مصدرٌ ل نصح يقال: نصح نُصْحا ونُصوحا نحو: كفر كُفْرا وكُفورا، وشكر شُكرا وشُكورا. وفي انتصابِه أوجهٌ، أحدُها: أنه مفعولٌ له أي: لأجلِ النصحِ الحاصلِ نفعُه عليكم. والثاني: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعلٍ محذوفٍ أي: ينصحُهم نُصْحا. الثالث: أنه صفةٌ لها: إمّا على المبالغةِ على أنها نفسُ المصدرِ أو على حذْفِ مضافٍ أي ذات نصوحٍ.
وقرأ زيد بن علي {توْبا} دون تاءٍ.
قوله: {ويُدْخِلكُمْ} قراءة العامةِ بالنصبِ عطفا على {يُكفِّر} وابنُ أبي عبلة بسكون الراء، فاحتمل أنْ يكون من إجراء المنفصل مُجْرى المتصل، فسكنتِ الكسرةُ؛ لأنه يُتخيل من مجموع {يُكفِّر عنكم} مثل: نِطع وقِمع فيقال فيهما: نِطْع وقِمْع. ويُحتمل أنْ يكون عطفا على محلِّ {عسى أنْ يُكفِّر} كأنه قيل: تُوبوا يُوْجبْ تكفير سيئاتِكم ويُدْخِلْكم، قاله الزمخشري، يعني أنّ {عسى} في محلّ جزم جوابا للأمر؛ لأنه لو وقع موقعها مضارع لا نجزم كما مثّل به الزمخشري، وفيه نظرٌ؛ لأنّا لا نُسلِّمُ أنّ {عسى} جوابٌ، ولا تقع جوابا لأنها للإِنشاء.
قوله: {يوْم لا يُخْزِى} منصوبٌ بـ: {يُدْخلكم} أو بإضمار اذكُرْ.
قوله: {والذين آمنُواْ} يجوز فيه وجهان أحدُهما: أن يكون منْسوقا على النبيِّ أي: ولا يُخْزي الذين آمنوا. فعلى هذا يكون {نُورُهم يسعى} مستأنفا أو حالا. والثاني: أن يكون مبتدأ، وخبره {نورُهم يسْعى} و{يقولون} خبرٌ ثانٍ أو حال. وتقدّم إعرابُ مثلِ هذه الجملِ في الحديد فعليك باعتبارِه. وتقدّم إعرابُ ما بعدها في براءة.
وقرأ أبو حيْوة وسهل الفهمي {وبإيمانهم} بكسر الهمزة، وتقدّم ذلك في الحديد.
{ضرب الله مثلا للذِين كفرُوا امْرأت نُوحٍ وامْرأت لُوطٍ كانتا تحْت عبْديْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحيْنِ فخانتاهُما فلمْ يُغْنِيا عنْهُما مِن الله شيْئا وقِيل ادْخُلا النّار مع الدّاخِلِين (10)}
قوله: {ضرب الله مثلا}: إلى آخره قد تقدّم الكلامُ على {ضرب} مع المثل. وهل هي بمعنى صيّر أم لا؟ وكيف ينتصِبُ ما بعدها؟ في سورةِ النحلِ فأغنى ذلك عن إعادتِه هنا.
قوله: {كانتا تحْت عبْديْنِ} جملة مستأنفة كأنها مفسِّرةٌ لضرْبِ المثلِ، ولم يأتِ بضميرِها، فيُقال: تحتهما أي: تحت نوحٍ ولوطٍ، لِما قُصِد مِنْ تشْريفِهما بهذه الأوصافِ الشريفةِ:
لا تدْعُني إلاّ بيا عبدها ** فإنّه أشرفُ أسمائي

وليصِفها بأجلِّ الصفاتِ وهو الصّلاحُ.
قوله: {فلمْ يُغْنِيا} العامّةُ بالياء مِنْ تحتُ أي: لم يُغْن نوحٌ ولوطٌ عن امرأتيهما شيئا مِنْ الإِغناءِ مِنْ عذابِ الله.
وقرأ مبشر بن عبيد {تُغْنِيا} بالتاءِ مِنْ فوقُ أي: فلم تُغْنِ المرأتان عن أنفسِهما. وفيها إشكالٌ: إذ يلزمُ من ذلك تعدِّي فعل المضمرِ المتصل إلى ضميره المتصل في غيرِ المواضعِ المستثناةِ وجوابُه: أنّ {عنْ} هنا اسم كهي في قوله:
دعْ عنك نهْبا صِيْح في حجراتِهِ

وقد تقدّم لك هذا والاعتراضُ عليه بقوله: {وهزى إِليْكِ} [مريم: 25] {واضمم إِليْك جناحك} [القصص: 32] وما أُجيب به ثمّة.
{وضرب الله مثلا للذِين آمنُوا امْرأت فِرْعوْن إِذْ قالتْ ربِّ ابْنِ لِي عِنْدك بيْتا فِي الْجنّةِ ونجِّنِي مِنْ فِرْعوْن وعملِهِ ونجِّنِي مِن الْقوْمِ الظّالِمِين (11)}
قوله: {إِذْ قالتْ}: منصوبٌ بـ: {ضرب} وإنْ تأخر ظهورُ الضّرْبِ، ويجوز أنْ ينتصِب بالمثل.
قوله: {عِندك} يجوز تعلُّقُه بـ: {ابنِ}، وأنْ يتعلّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ {بيتا}، كان نعته، فلما قُدِّم نُصِب حالا. و{في الجنة}: إمّا متعلِّقٌ بـ: {ابْنِ} وإمّا بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل {بيتا}.
{ومرْيم ابْنت عِمْران الّتِي أحْصنتْ فرْجها فنفخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وصدّقتْ بِكلِماتِ ربِّها وكُتُبِهِ وكانتْ مِن الْقانِتِين (12)}
قوله: {ومرْيم}: عطفٌ على {امرأة فرعون} ضرب الله تعالى المثل للكافرين بامرأتيْن وللمؤمنين بامرأتيْن. وقال أبو البقاء: {ومريم} أي: واذكر مريم. وقيل: ومثل مريم. انتهى. وهذا لا حاجة إليه مع ظهور المعنى الذي ذكرْتُه.
وقرأ العامّةُ {ابنة} بنصب التاء. وأيوب السُّخْتياني بسكون الهاء وصْلا، أجْرى الوصل مُجْرى الوقفِ. والعامّةُ أيضا {فنفخْنا فيه} أي: في الفرْج. وعبد الله {فيها} أي: في الجملة. وتقدّم في الأنبياء مثله.
والعامّةُ أيضا {وصدّقتْ} بتشديد الدال. ويعقوبُ وقتادةُ وأبو مجلز وعاصمٌ في روايةٍ بتخفيفِها أي: صدقتْ فيما أخبرتْ به من أمرِ عيسى عليه السلام. والعامّة على {بكلمات} جمعا. والحسن ومجاهد والجحدري {بكلمة} بالإِفراد. فقيل: المرادُ بها عيسى لأنه كلمة الله. وتقدّم الخلافُ في كتابة {وكتبه} في أواخر البقرة. وقرأ أبو رجاء {وكُتْبِه} بسكون التاء وهو تخفيفٌ حسنٌ، ورُوي عنه {وكتْبِه} بفتح الكاف. قال أبو الفضل: مصدرٌ وُضِع موْضِع الاسمِ يعني: ومكتوبِه.
قوله: {مِن القانتين} يجوزُ في {مِن} وجهان، أحدهما: أنها لابتداء الغاية. والثاني: أنها للتبعيضِ، وقد ذكرهما الزمخشريُّ فقال: و{مِنْ} للتبعيض. ويجوزُ أنْ تكون لابتداء الغاية، على أنّها وُلِدتْ من القانتين؛ لأنها من أعقابِ هارون أخي موسى عليهما السلام. قال الزمخشري: فإنْ قلت: لِم قيل: {من القانتين} على التذكير؟ قلت: لأنّ القُنوت صفةٌ تشْمل منْ قنتتْ من القبيليْن، فغلّب ذكوره على إناثِه. اهـ.