فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وقوله: {ربنا ولا تحمل علينا إصرًا} إلخ فصلّ بين الجملتين المتعاطفتين، بإعادة النداء، مع أنّه مستغنى عنه: لأنّ مخاطبة المنادى مغنِيَة عن إعادَة النداء لكن قصد من إعادته إظهار التذلّل.
والحمل مجاز في التكليف بأمر شديد يثقل على النفس، وهو مناسب لاستعارة الإصر.
وأصل معنى الإصر ما يُؤصَر به أي يُربط، وتعقد به الأشياء، ويقال له: الإصار بكسر الهمزة ثم استعمل مجازًا في العهد والميثاق المؤكّد فيما يصعب الوفاء به، ومنه قوله في آل عمران (81): {قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري} وأطلق أيضًا على ما يثقل عمله، والامتثالُ فيه، وبذلك فسّره الزجاج والزمخشري هنا وفي قوله، في سورة الأعراف [157]: {ويضع عنهم إصرهم} وهو المقصود هنا، ومن ثم حسنت استعارة الحَمْل للتكليف، لأنّ الحمل يناسب الثِقَل فيكون قوله: {ولا تحمِلْ} ترشيحًا مستعارًا لملائم المشبّه به وعن ابن عباس: {ولا تحمل علينا إصرًا} عهدًا لا نفي به، ونعذّب بتركه ونقضه.
وقوله: {كما حملته على الذين من قبلنا} صفة ل {إصرًا} أي عهدًا من الدين، كالعهد الذي كلّف به من قبلنا في المشقة، مثل ما كلّف به بعض الأمم الماضية من الأحكام الشاقّة مثل أمر بني إسرائيل بتيه أربعين سنة، وبصفات في البقرة التي أمروا بذبحها نادرة ونحو ذلك، وكل ذلك تأديب لهم على مخالفات، وعلى قلة اهتبال بأوامر الله ورسوله إليهم، قال تعالى في صفة محمد صلى الله عليه وسلم {ويضع عنهم إصرهم}. اهـ.

.قال الماوردي:

{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: إصرًا أي عهدًا نعجز عن القيام به، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
الثاني: أي لا تمسخنا قردة وخنازير، وهذا قول عطاء.
الثالث: أنه الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة، قاله ابن زيد.
الرابع: الإِصر: الثقل العظيم، قاله مالك، والربيع، قال النابغة:
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم ** والحامل الإِصر عنهم بعدما عرضوا

اهـ.

.قال الفخر:

ذكر أهل التفسير فيه وجهين:
الأول: لا تشدد علينا في التكاليف كما شددت على من قبلنا من اليهود، قال المفسرون: إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة، ومن أصاب ثوبه نجاسة أمر بقطعها، وكانوا إذا نسوا شيئًا عجلت لهم العقوبة في الدنيا، وكانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالًا لهم، قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: 160] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دياركم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ} [النساء: 66] وقد حرم على المسافرين من قوم طالوت الشرب من النهر، وكان عذابهم معجلًا في الدنيا، كما قال: {مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا} [النساء: 47] وكانوا يمسخون قرد وخنازير، قال القفال: ومن نظر في السفر الخامس من التوراة التي تدعيها هؤلاء اليهود وقف على ما أخذ عليهم من غلظ العهود والمواثيق، ورأى الأعاجيب الكثيرة، فالمؤمنون سألوا ربهم أن يصونهم عن أمثال هذه التغليظات، وهو بفضله ورحمته قد أزال ذلك عنهم، قال الله تعالى في صفة هذه الأمة {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] وقال عليه السلام: «رفع عن أمتي المسخ والخسف والغرق» وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] وقال عليه الصلاة والسلام: «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» والمؤمنون إنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير، والتقصير موجب للعقوبة، ولا طاقة لهم بعذاب الله تعالى، فلا جرم طلبوا السهولة في التكاليف.
والقول الثاني: لا تحمل علينا عهدًا وميثاقًا يشبه ميثاق من قبلنا في الغلظ والشدة، وهذا القول يرجع إلى الأول في الحقيقة لكن بإضمار شيء زائد على الملفوظ، فيكون القول الأول أولى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {واعف عنا واغفر لنا} لم يؤت مع هذه الدعوات بقوله ربّنا، إمّا لأنّه تكرّر ثلاث مرات، والعرب تكره تكرير اللفظ أكثر من ثلاث مرات إلاّ في مقام التهويل، وإمّا لأنّ تلك الدعوات المقترنة بقوله: {ربنا} فروع لهذه الدعوات الثلاث، فإذا استجيب تلك حصلت إجابة هذه بالأوْلى؛ فإنّ العفو أصل لعدم المؤاخذة، والمغفرةَ أصل لرفع المشقة والرحمة أصل لعدم العقوبة الدنيوية والأخروية، فلمّا كان تعميمًا بعد تخصيص، كان كأنّه دعاء واحد. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن تلك الأنواع الثلاثة من الأدعية كان المطلوب فيها الترك وكانت مقرونة بلفظ {رَبَّنَا} وأما هذا الدعاء الرابع، فقد حذف منه لفظ {رَبَّنَا} وظاهره يدل على طلب الفعل ففيه سؤالان:
السؤال الأول: لم لم يذكر هاهنا لفظ ربنا؟.
الجواب: النداء إنما يحتاج إليه عند البعد، أما عند القرب فلا وإنما حذف النداء إشعارًا بأن العبد إذا واظب على التضرع نال القرب من الله تعالى وهذا سر عظيم يطلع منه على أسرار أُخر.
السؤال الثاني: ما الفرق بين العفو والمغفرة والرحمة؟.
الجواب: أن العفو أن يسقط عنه العقاب، والمغفرة أن يستر عليه جرمه صونًا له من عذاب التخجيل والفضيحة، كأن العبد يقول: أطلب منك العفو وإذا عفوت عني فاستره علي فإن الخلاص من عذاب القبر إنما يطيب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة، والأول: هو العذاب الجسماني، والثاني: هو العذاب الروحاني، فلما تخلص منهما أقبل على طلب الثواب، وهو أيضًا قسمان: ثواب جسماني وهو نعيم الجنة ولذاتها وطيباتها، وثواب روحاني وغايته أن يتجلى له نور جلال الله تعالى، وينكشف له بقدر الطاقة علو كبرياء الله وذلك بأن يصير غائبًا عن كل ما سوى الله تعالى، مستغرقًا بالكلية في نور حضور جلال الله تعالى، فقوله: {وارحمنا} طلب للثواب الجسماني وقوله بعد ذلك {أَنتَ مولانا} طلب للثواب الروحاني، ولأن يصير العبد مقبلا بكليته على الله تعالى لأن قوله: {أَنتَ مولانا} خطاب الحاضرين، ولعلّ كثيرًا من المتكلمين يستبعدون هذه الكلمات، ويقولون: إنها من باب الطاعات، ولقد صدقوا فيما يقولون، فذلك مبلغهم من العلم {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى} [النجم: 30].
وفي قوله: {أَنتَ مولانا} فائدة أخرى، وذلك أن هذه الكلمة تدل على نهاية الخضوع والتذلل والاعتراف بأنه سبحانه هو المتولي لكل نعمة يصلون إليها، وهو المعطي لكل مكرمة يفوزون بها فلا جرم أظهروا عند الدعاء أنهم في كونهم متكلمين على فضله وإحسانه بمنزلة الطفل الذي لا تتم مصلحته إلا بتدبير قيمه، والعبد الذي لا ينتظم شمل مهماته إلا بإصلاح مولاه، فهو سبحانه قيوم السموات والأرض، والقائم بإصلاح مهمات الكل، وهو المتولي في الحقيقة للكل، على ما قال: {نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} [الأنفال: 40] ونظير هذه الآية: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُوا} [البقرة: 257] أي ناصرهم، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه} [التحريم: 4] أي ناصره، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُوا وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُم} [محمد: 11].
ثم قال: {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} أي انصرنا عليهم في محاربتنا معهم، وفي مناظرتنا بالحجة معهم، وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم على ما قال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} [التوبة: 33] ومن المحققين من قال: {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} المراد منه إعانة الله بالقوة الروحانية الملكية على قهر القوى الجسمانية الداعية إلى ما سوى الله، وهذا آخر السورة.
وروى الواحدي رحمه الله عن مقاتل بن سليمان أنه لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء أعطى خواتيم سورة البقرة، فقالت الملائكة: إن الله عزّ وجلّ قد أكرمك بحسن الثناء عليك بقوله: {آمن الرسول} فسله وارغب إليه، فعلمه جبريل عليهما الصلاة والسلام كيف يدعو، فقال محمد صلى الله عليه وسلم: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} فقال الله تعالى: {قد غفرت لكم} فقال: {لاَ تُؤَاخِذْنَا} فقال الله: لا أؤاخذكم فقال: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} فقال: لا أشدد عليكم فقال محمد {لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فقال: لا أحملكم ذلك فقال محمد {واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنا} فقال الله تعالى: «قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم وأنصركم على القوم الكافرين» وفي بعض الروايات أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يذكر هذه الدعوات، والملائكة كانوا يقولون آمين. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {واعف عَنَّا} أي عن ذنوبنا.
عفوت عن ذنبه إذا تركته ولم تعاقبه.
{واغفر لَنَا} أي استر على ذنوبنا.
والغفر: الستر.
{وارحمنا} أي تفضل برحمة مبتدئًا منك علينا.
{أَنتَ مَوْلاَنَا} أي ولِينا وناصرنا.
وخرج هذا مخرج التعليم للخلق كيف يدعون.
روي عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال: آمين.
قال ابن عطية: هذا يُظَنّ به أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان ذلك فكمال، وإن كان بقياس على سورة الحمد من حيث هنالك دعاء وهنا دعاء فحسن.
وقال علي بن أبي طالب: ما أظن أحدًا عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما. اهـ.

.قال أبو حيان:

طلبوا العفو وهو الصفح عن الذنب: وإسقاط العقاب، ثم ستره عليهم صونًا لهم من عذاب التخجيل، لأن العفو عن الشيء لا يقتضي ستره فيقال: عفا عنه إذا وقفه على الذنب ثم أسقط عنه عقوبة ذلك الذنب، فسألوا الإسقاط للعقوبة أولًا لأنه الأهم، إذ فيه التعذيب الجسماني والنعيم الروحاني بتجلي البارئ تعالى لهم وقال الراغب: العفو إزالة الذنب بترك عقوبته، والغفران ستر الذنب وإظهار الإحسان بدله، فكأنه جمع بين تغطية ذنبه، وكشف الإحسان الذي غطى به.
والرحمة إفاضة الإحسان إليه، فالثاني أبلغ من الأول، والثالث أبلغ من الثاني. انتهى.
وقيل: واعف عنا من المسخ، واغفر لنا عن الخسف من القذف، وقيل: اعف عنا من الأفعال، واغفر لنا من الأقوال، وارحمنا بثقل الميزان.
وقيل: واعف عنا في سكرات الموت، واغفر لنا في ظلمة القبر، وارحمنا في أهوال يوم القيامة.
وكل هذه الأقوال تخصيصات لا دليل عليها. اهـ.