فصل: من فوائد القونوي في الآية الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد القونوي في الآية الكريمة:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} في هذه الآية ممّا يتعيّن بيانه: معنى النعمة العامّة والخاصّة، ومعنى الغضب والضلال، ومراتب أرباب هذه الصفات، فلنبدأ أوّلا بذكر ما يستدعيه ظاهر هذه الآية، ثم نتعدّى من الظاهر إلى الباطن وما وراءه، كجاري العادة- إن شاء اللّه تعالى- اعلم، أنّ قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} تعريف للصراط المستقيم المذكور من باب ردّ الأعجاز على الصدور. ولفظة: {الصراط} قد سبق الكلام عليها بمقتضى اللسان، فلا حاجة إلى التكرار. وأمّا الَّذِينَ فنذكر فيه ما تيسّر، فنقول: الجملة من قسم النكرات، ولا توصف بها المعارف إلّا بواسطة الّذي ونحوه من الموصولات المتفرّعة منها، والّذي أصله الّذي ولكثرة التداول والاستعمال أفضي فيه الأمر إلى أن حذفت ياؤه المشدّدة، ثم تدرّجوا فحذفوا الياء الأخرى، فقالوا: الّذ ثم حذفوا الكسرة، فقالوا: الّذ وحذف بعضهم الذال أيضا، فلم يبق إلّا اللام المشدّدة، التي هي عين الفعل فإنّ اللام الأخرى لام التعريف، فإذا قلت: زيد الذي قام، أو قلت: القائم، كان المعنى واحدا، فلام القائم ناب مناب قولك الذي، والياء والنون في: {الذين} ليس للجمع، بل لزيادة الدلالة لما تقرّر أنّ الموصولات لفظ الجمع والواحد فيهنّ سواء ولأنّه لو كان الياء والنون في: {الّذين} للجمع، لأعيد إليه حين الجمع الياء الأصليّة المحذوفة على جاري العادة في مثل ذلك، ولم يكن أيضا مبنيّا بل معربا و: {الّذين} مبنيّ بلا شكّ، فدلّ ذلك على صحّة ما ذكر، فاعلم.
وأمّا فصول هذه الآية فهي كالأجوبة لأسئلة ربانيّة معنويّة، فكأنّ لسان الربوبيّة يقول عند قول العبد: {اهدنا الصّراط} أيّ صراط تعني، فالصراطات كثيرة وكلّها لي؟ فيقول لسان العبوديّة: أريد منها المستقيم، فيقول لسان الربوبيّة: كلّها مستقيمة من حيث إنّي غايتها كلّها، وإليّ مصير من يمشي عليها جميعها، فأيّ استقامة تقصد في سؤالك؟ فيقول لسان العبوديّة: أريد من بين الجميع {صراط الذين أنعمت عليهم}، فيقول لسان الربوبيّة: ومن الذي لم أنعم عليه؟ وهل في الوجود شيء لم تسعه رحمتي، ولم تشمله نعمتي؟ فيقول لسان العبوديّة: قد علمت أنّ رحمتك واسعة كاملة، ونعمتك سابغة شاملة، لكنّني لست أبغي إلّا {صراط الذين أنعمت عليهم} النعم الظاهرة والباطنة، الصافية من كدر الغضب ومزجته، وشائبة الضلال ومحنته فإنّ السلامة من قوارع الغضب لا تقنّعني إذا لم تكن النعم المسداة إليّ مطرّزة بعلم الهداية المخلصة من محنة الحيرة وبيداء التيه، وورطات الشبه والشكّ والتمويه، وإلّا فأيّة فائدة في تنعّم ظاهري بأنواع النعم مع تألّم باطني بهواجم التلبّسات المانعة من السكون، ورواجم الريب والظنون. هذا في الوقت الحاضر، فدع ما يتوقّعه الحائر من اليوم الآخر، فحينئذ يترتّب ما ذكره صلّى اللّه عليه وآله عن ربّه أنّه يقول: «هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل» فاعرف كيف تسأل، تنل من فضل الله ما تؤمّل. صورة النعمة وروحها وسرّها ثم اعلم، أنّ لأصل النعمة المشار إليه صورة وروحا وسرّا، فصورتها: الإسلام والإذعان، وروحها: الإيمان والإحسان، وسرّها: التوحيد والإيقان، فحكم الإسلام متعلّقه ظاهر الدنيا. والإيمان لباطن الدنيا وباطن النشأة الظاهرة. والإحسان للحكم البرزخي ونشأته، وإليه الإشارة في جواب سؤال جبرئيل عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنّك تراه»، وهذا هو الشهود والاستحضار البرزخي، فافهم.
وسرّ التوحيد واليقين يختصّ بالآخرة، فالمح ما أدرجت لك من أسرار الشريعة، في هذه الكلمات الوجيزة الشريفة، تعلم أنّ كلّ شيء فيه كلّ شيء، والله المرشد. ثم إنّ الحقّ سبحانه قد نبّه على الذين أنعم عليهم النعمة المطلوبة منه في هذه الآية بقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ} ثم قال: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيمًا فهذه المراتب الأربع كالأجناس والأنواع لما تحتها من مراتب السعداء، والصلاح هو النوع الأخير.
ثم فصّل ما أجمله هنا في موضع آخر، فقال محرّضا نبيّه صلّى اللّه عليه وآله على موافقة الكمّل من هؤلاء الطوائف لمّا عدّدهم مبتدئا بخليله- على نبيّنا وعليه السلام- فقال بعد ذكره: {ووَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحًا هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ثم قال: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلّ مِنَ الصَّالِحِينَ} ثم قال: {وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ} ثم ذكر قسما جامعا مستوعبا فقال: {وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} ثم قال: {ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} ثم قال: {أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} الآية ثم قال: {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ}.
فما قسّم سبحانه هؤلاء الأنبياء المذكورين هنا في ثلاث آيات، ونعت الطائفة الأولى بالإحسان، والثانية بالصلاح، والثالثة بالوصف العامّ الذي اشترك فيه الجميع، إلّا للتنبيه على أنّهم- مع اشتراكهم في النبوّة- على طبقات، ثم جعل حالة الطبقة الرابعة ممتزجة من أحكام هذه الطبقات الثلاث ومن غيرها، فاجمع بالك، وتذكّر ما نبّهتك عليه من قبل، واستحضر {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} مع اشتراكهم في نفس الرسالة التي لا تفريق فيها لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وتنبّه للمراتب الأربع المذكورة وهي:
النبوّة، والصدّيقيّة، والشهادة، والصلاح، تعرف كثيرا من لطائف إشارات القرآن العزيز- إن شاء الله- فهذه الآيات شارحة من وجه المراد من قوله: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} إلى آخر السورة.
وأمّا {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} فورد في الشريعة أنّهم اليهود، أن و{الضَّالِّينَ} هم النصارى. وإذا عيّن الرسول- عليه الصلاة والسلام- بعض محتملات ألفاظ الكتاب العزيز، فلا عدول عنه إلى محتمل آخر أصلا، فاعلم ذلك.
وإذ قد يسّر الله ذكر ما شاء ذكره في ظاهر هذه الآية من المباحث النحويّة واللطائف الشرعيّة القرآنيّة مع نبذ عزيزة من غامضات الأسرار جاءت فجأة، فلم يمكن منعها وكتمها، فلنشرع بعد في الكلام عليها- أعني الآية- بلسان الباطن، فنقول- بعد الاكتفاء في الكلام على الصراط بما مرّ-: اعلم أنّ النعم الواصلة من الحقّ إلى عباده على قسمين: نعم ذاتيّة، ونعم أسمائيّة، فالنعم الذاتيّة هي: كلّ ما تطلبه الأشياء من الحقّ من حيث حقائقها بألسنة استعداداتها الكلّيّة الغيبيّة، وهذه ألسنة الذوات ولا تتأخّر عنها الإجابة، ولا تعويق في حقّها ولا تكفير، بل هي إجابة ذاتيّة كالسؤال في عين المسؤول، وهذه النعم من حيث الأصل نعمة واحدة، وتعدّدها إنّما هو من حيث تكيّفها وتنوّعها في مرتبة كلّ حقيقة وبحسبها.
والنعم الأسمائيّة على أقسام: فمنها نعم تثمر نعما، كالأعضاء والقوى والآلات البدنيّة، وكالصفات والأحوال الوجوديّة والمعنويّة، وهي بأجمعها صور الاستعدادات الوجوديّة الجزئيّة، فكلّ فرد فرد من هذا المجموع بالنظر إلى فقر الإنسان واحتياجه إلى الاستكمال والأسباب المعيّنة على تحصيله نعمة تثمر نعمة أو نعما، والمجموع بالعناية الذاتيّة والاستعداد الكلّي الغيبي يثمر بالنسبة إلى الكمّل التحقّق بالكمال، وبالنسبة إلى سواهم الكمال اللائق به، المؤهّل له، ومن آكدها بالنسبة إلى الأمر والمقام اللذين أتكلّم فيهما نعمة التوفيق الواصلة من الحقّ من حيث اسمه الهادي وهي على قسمين:
قسم يختصّ بالعلم وله باطن الإنسان وروحه والأعمال الروحانيّة، وقسم يختصّ بالعمل وله ظاهر الإنسان ولوازم ظاهريّته.
فالمختصّ بالعلم والعبادة الباطنة يثمر المشاهدات القدسيّة والأحوال الشهيّة الندسيّة واللذّات الروحانيّة والملاحظات الإحسانيّة والأنوار الإيمانيّة والرئاسات الربانيّة ولذّة الخلاص والسلامة من الشكوك المعضلة والشبه المضلّة فإنّ الطالب سبيل الرشاد إذا اعتورته الشكوك، واجتذبته الآراء المختلفة والأهواء والاعتقادات المتشعّبة المشتّتة عزائم المتوجّهين المجدّين والمقرّحة أفئدة المفكّرين المتردّدين يكون في أشدّ العذاب الروحاني، ومنقهرا تحت سلطنة النزعات والتسويلات الخياليّة الشيطانيّة، فلا نعمة في حقّه وبالنسبة إليه أعظم وأتمّ من نعمة النور العلمي اليقيني الكاشف له عن جليّة الأمر، والمخلص له من ورطة ذلك الشرّ، فتلك عافية روحانيّة لا تضاهيها عافية لأنّ العافية الجسمانيّة- وسيّما عقيب المرض- يجد الإنسان لها حلاوة لا يقدّر قدرها، فما الظنّ بالعافية الروحانيّة، التي هي أشرف وأدوم وأثبت وأقرب إلى الاعتدال الحقيقي الأصلي وأقوم، وبها نيطت السعادة في عالم الغيب والشهادة؟ فافهم.
وأمّا القسم الآخر من النعم المختصّ بالعمل وظاهر الإنسان فإنّه يثمر المنازل الجنانيّة واللذّات الجسمانيّة والراحات والفوائد الطبيعيّة النفسانيّة عاجلا غير مصفّى، وآجلا خالصا مصفّى، كما نبّه الحقّ سبحانه على ذلك بقوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ممزوجة بالغصص والعلل والأنكاد، وهي لهم في الآخرة طاهرة طيّبة مخلصة من الشوائب، ولهذا أرشد الحقّ سبحانه عباده وعلّمهم أن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم، الذي هو صراط من أنعم عليه الإنعام الخالص من شوب الغضب ومحنة الضلالة، فلسان مقامهم يقول: يا ربّنا رحمانيّتك الأولى العامّة الشاملة قضت بإيجادنا، ورحيميّتك الأولى- يعنون اللتين في البسملة- خصّصتنا بهذه الحصص الوجوديّة، المختصّة بكلّ واحد منّا، كلّ ذلك من حيث نعمتك الذاتيّة ورحمتك الامتنانيّة، ورحمانيّتك الثانية- التي أوجبتها على نفسك بكرمك من حيث عموم حكم اسمك الهادي عمّتنا معشر المؤمنين، كما أشرت إلى ذلك بقولك: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، فلمّا شملتنا بنعمة الإيمان والانقياد لأمرك والاستسلام لحكمك والإقرار بتوحيدك انبرى كلّ منّا يذكرك ويثني عليك، ويمجّدك ويفوّض إليك، ويفرّدك بالعبادة بعد إقراره لك بالسيادة، ويطلب منك العون بصورة الإبانة عن صفة العجز ونقص الكون، ثم إنّه لمّا خصّصتنا برحيميّتك الثانية بالحكم الخاصّ من أحكام اسمك الهادي المقتضي طلب أشرف صور الهداية والسلوك على أقوم السبل وأقصدها وأسلمها، طلبنا ذلك منك لاستلزامه الفوز والاحتظاء بالنعم التي جدت بها على الكمّل من أحبّائك، حيث سلكت بهم على أسدّ صراط وأقومه وأقربه وأسلمه، حتى ألقوا عصيّ تسيارهم بفنائك، وحظوا- بعد التحقيق بمعرفتك وشهودك- بسابغ إحسانك وأشرف نعمائك وأخلص حبائك المقدّس عن شوب المزج وشين النفاد، المقرونين بالنعم المبذولة لأهل الفساد، المغضوب عليهم ظاهرا والضالّين باطنا عن سبل الرشاد، فاستجب لنا يا ربّ وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ.