فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} بِمَثَابَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مَا قَبْلُهُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.
وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُتَمِّمَةً لَهَا؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى كَوْنِهِ عَلِيمًا بِكُلِّ شَيْءٍ أَنَّ لَهُ كُلَّ شَيْءٍ، فَهَذَا كَالدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ أَيْ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَهُ وَهُوَ خَالِقُهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [67: 14] وَبِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ يَتَقَرَّرُ النَّهْيُ عَنْ كَتْمِ الشَّهَادَةِ وَكَوْنُهُ إِثْمًا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ لِدُخُولِ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ فِي عُمُومِ مَا فِي النَّفْسِ قَالَ وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُتَّصِلَةً بِآيَةِ الدَّيْنِ مِنْ أَوَّلِهَا؛ لِأَنَّهُ شَرَّعَ لَنَا أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِالدَّيْنِ كَالْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ تَسَاهَلْتُمْ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَأَضَعْتُمُ الْحُقُوقَ فَتَظَاهَرْتُمْ بِالْأَمَانَةِ مَعَ انْطِوَاءِ النَّفْسِ عَلَى الْخِيَانَةِ وَغَالَطْتُمُ النَّاسَ وَأَكَلْتُمْ أَمْوَالَهُمْ بِذَلِكَ أَوْ أَضَعْتُمُوهَا بِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ يُحَاسِبُكُمْ وَيُعَاقِبُكُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَمِنْهَا أَنْتُمْ وَأَعْمَالُكُمُ النَّفْسِيَّةُ أَوِ الْبَدَنِيَّةُ أَقُولُ: وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ مُتَعَلِّقَةً بِأَحْكَامِ السُّورَةِ كُلِّهَا.
قَالَ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:{مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} الْأَشْيَاءُ الثَّابِتَةُ فِي أَنْفُسِكُمْ وَتَصْدُرُ عَنْهَا أَعْمَالُكُمْ كَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَأُلْفَةِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا تَرْكُ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنَّ السُّكُوتَ عَنِ النَّهْيِ أَمْرٌ كَبِيرٌ يَحِلُّ اللهُ عُقُوبَتَهُ فِي الْأُمَّةِ بِسَبَبِهِ وَلَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ اتِّفَاقِ السُّكُوتِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ فِي النَّفْسِ وَهُوَ أُلْفَةُ الْمُنْكِرِ وَالْأُنْسُ بِهِ وَلِلْإِنْسَانِ عَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ فِي نَفْسِهِ هُوَ الَّذِي يُحَاسَبُ عَلَيْهِ. نَعَمْ إِنَّ الْخَوَاطِرَ وَالْهَوَاجِسَ قَدْ تَأْتِي بِغَيْرِ إِرَادَةِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَكُونُ لَهُ فِيهَا تَعَمُّدٌ وَلَكِنَّهُ إِذَا مَضَى مَعَهَا وَاسْتَرْسَلَ تُحْسَبُ عَلَيْهِ عَمَلًا يُجَازَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سَايَرَهَا مُخْتَارًا وَكَانَ يَقْدِرُ عَلَى مُطَارَدَتِهَا وَجِهَادِهَا. وَسَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْخَوَاطِرُ وَالْهَوَاجِسُ صَادِرَةً عَنْ مَلَكَةٍ فِي النَّفْسِ تُثِيرُهَا أَوْ عَنْ شَيْءٍ لَا يَدْخُلُ فِي حَيِّزِ الْمَلَكَةِ. مِثَالُ ذَلِكَ الْحَسُودُ تَبْعَثُ مَلَكَةُ الْحَسَدِ فِي نَفْسِهِ خَوَاطِرَ الِانْتِقَامِ مِنَ الْمَحْسُودِ وَالسَّعْيِ فِي إِزَالَةِ نِعْمَتِهِ لِتَمَكُّنِهَا فِي نَفْسِهِ وَامْتِلَاكِهَا لِمَنَازِعِ فِكْرِهِ، وَهَذِهِ الْخَوَاطِرُ مِمَّا يُحَاسَبُ عَلَيْهَا أَبْدَاهَا أَوْ أَخْفَاهَا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَهَا وَيُدَافِعَهَا فَذَلِكَ مَا يُكَلَّفُهُ.
وَمِثَالُ الثَّانِي الْمَظْلُومُ يَذْكُرُ ظَالِمَهُ فَيَشْتَغِلُ فِكْرُهُ فِي دَفْعِ ظُلْمِهِ وَالْهَرَبِ مِنْ أَذَاهُ وَرُبَّمَا اسْتَرْسَلَ مَعَ خَوَاطِرِهِ إِلَى أَنْ تَجُرَّهُ إِلَى تَدْبِيرِ الْحِيَلِ لِلْإِيقَاعِ بِهِ وَمُقَابَلَةِ ظُلْمِهِ بِمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ فَيَكُونُ مُؤَاخَذًا عَلَيْهَا، أَبْدَاهَا أَوْ أَخْفَاهَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [5: 78 و79] وَذَلِكَ أَنَّ فَظَاعَةَ الْمُنْكَرِ زَالَتْ مِنْ نُفُوسِهِمْ بِالْأُنْسِ بِهَا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَهَكَذَا يُقَالُ فِي كُلِّ أَعْمَالِ الْقَلْبِ الَّتِي أَمَرَنَا الشَّرْعُ بِمُجَاهَدَتِهَا وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا مَا يَمُرُّ فِي النَّفْسِ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالْوَسَاوِسِ كَمَا قِيلَ، بَنَوْا عَلَيْهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم شَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِالْآيَةِ وَشَكَوْا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْوَسْوَسَةَ؛ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا دَفْعًا لِلْحَرَجِ. وَلَفْظُ الْآيَةِ يَدْفَعُ هَذَا؛ لِأَنَّهَا نَصٌّ فِيمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي النَّفْسِ وَمُتَمَكِّنٌ مِنْهَا كَالْأَخْلَاقِ وَالْمَلَكَاتِ وَالْعَزَائِمِ الْقَوِيَّةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعَمَلُ بِأَثَرِهَا فِيهَا إِذَا انْتَفَتِ الْمَوَانِعُ وَتُرِكَتِ الْمُجَاهَدَةُ. وَكَذَلِكَ يَدْفَعُهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ مِنْ عُلُوِّ الْهِمَّةِ وَالْأَخْذِ بِالْعَزَائِمِ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ حَقَّ الْفَهْمِ وَيَتَأَدَّبُونَ بِهِ وَيُقِيمُونَهُ كَمَا يَجِبُ، وَمَا أَبْعَدَهُمْ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ مَعَ الْوَسَاوِسِ وَالْأَوْهَامِ.
هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مُفَصَّلًا وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ، لَا شَكَّ أَنَّ مَا يُجَازَى عَلَيْهِ مِمَّا فِي النَّفْسِ يَعُمُّ الْمَلَكَاتِ الْفَاضِلَةَ وَالْمَقَاصِدَ الشَّرِيفَةَ، وَإِنَّمَا مُثِّلَ هُوَ وَغَيْرُهُ بِالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ لِمُنَاسَبَةِ السِّيَاقِ، وَلِهَذَا السِّيَاقِ خَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ. وَرَدَّ ذَلِكَ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالْكُفَّارِ وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِلَا مُخَصَّصٍ أَيْضًا، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِمَا بَعْدَهَا. أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ} اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَا نُطِيقُهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ أَنْزَلَ اللهُ فِي أَثَرِهَا {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [2: 285] الْآيَةَ. فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [2: 286] إِلَى آخِرِهَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحْسَبُهُ ابْنَ عُمَرَ {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} الْآيَةَ. قَالَ نَسَخَهَا مَا بَعْدَهَا، وَاحْتَجُّوا لِلنَّسْخِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ».
وَأَقُولُ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَرَّحَ بِأَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ وَإِنَّمَا قُصَارَاهَا أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَهِمَ أَنَّهَا نُسِخَتْ، وَالرِّوَايَاتُ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ وَالْقَوْلُ بِالنُّسَخِ مَمْنُوعٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ} خَبَرٌ، وَالْأَخْبَارُ لَا تُنْسَخُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ.
ثَانِيهَا أَنَّ كَسْبَ الْقَلْبِ وَعَمَلَهُ مِمَّا دَلَّ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ عَلَى ثُبُوتِهِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهِ، ظَهَرَ أَثَرُهُ عَلَى الْجَوَارِحِ أَمْ لَمْ يَظْهَرْ، وَهُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَالْقَوْلُ بِنَسْخِهَا إِبْطَالٌ لِلشَّرِيعَةِ وَنَسْخٌ لِلدِّينِ كُلِّهِ، أَوْ إِثْبَاتٌ لِكَوْنِهِ دِينًا جُثْمَانِيًّا مَادِّيًّا لَا حَظَّ لِلْأَرْوَاحِ وَالْقُلُوبِ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [2: 225] وَقَالَ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [17: 36].
وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [24: 19] وَالْحُبُّ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ الثَّابِتَةِ فِي النَّفْسِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} مَعْنَاهُ مَا ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْكَفْرُ وَالْأَخْلَاقُ الرَّاسِخَةُ وَالصِّفَاتُ الثَّابِتَةُ مِنَ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ فِي الْجَوْرِ وَكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَقَصْدِ السُّوءِ أَوْ سُوءِ الْقَصْدِ وَفَسَادِ النِّيَّةِ وَخُبْثِ السَّرِيرَةِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ وَالصِّفَاتُ هِيَ الْأَصْلُ فِي الشَّقَاوَةِ وَعَلَيْهَا مَدَارُ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَلَوْلَا أَنَّ لِلْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ آثَارًا فِي النَّفْسِ تُزَكِّيهَا أَوْ تُدَسِّيهَا، لَمَا آخَذَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ أَحَدًا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَاقِبُ النَّاسَ حُبًّا فِي الِانْتِقَامِ وَلَا يَظْلِمُ نَفْسًا شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ سُنَّتَهُ فِي الْإِنْسَانِ أَنْ يَرْتَقِيَ أَوْ يَتَسَفَّلَ نَفْسًا وَعَقْلًا بِالْعَمَلِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْعَمَلُ مَجْزِيًّا عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ أَثَرَهُ فِي النَّفْسِ هُوَ مُتَعَلَّقُ الْجَزَاءِ.
ثَالِثُهَا أَنَّ الْخَوَاطِرَ السَّانِحَةَ وَالْوَسَاوِسَ الْعَارِضَةَ وَحَدِيثَ النَّفْسِ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْقَصْدِ الثَّابِتِ وَالْعَزْمِ الرَّاسِخِ لَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ الْآيَةِ كَمَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ غَيْرُ ثَابِتٍ وَلَا مُسْتَقِرٌّ وَقَوْلُهُ: فِي أَنْفُسِكُمْ يُفِيدُ الثَّبَاتَ وَالِاسْتِقْرَارَ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا وَجْهًا لِإِبْطَالِ النَّسْخِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا ذُكِرَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْآيَةَ خَبَرٌ يُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ وَالْوَسَاوِسِ فِي الْمَعْنَى، فَهُوَ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا نَاسِخًا لَهُ؛ وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ حَدِيثَ التَّجَاوُزِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ لَا يُنَافِي الْآيَةَ وَلَا يَصِحُّ دِعَامَةً لِلْقَوْلِ بِنَسْخِهَا.
رَابِعُهَا أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ يُنَافِي الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ الْبَالِغَةَ وَالرَّحْمَةَ الرَّبَّانِيَّةَ السَّابِغَةَ، فَهُوَ لَمْ يَقَعْ فَيُقَالُ: إِنَّ الْآيَةَ مِنْهُ، وَنُسِخَتْ بِمَا بَعْدَهُ.
خَامِسُهَا الْمَعْقُولُ فِي النَّسْخِ أَنْ يُشْرَعَ حُكْمٌ يُوَافِقُ مَصْلَحَةَ الْمُكَلَّفِينَ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَنٌ أَوْ تَطْرَأُ حَالٌ يَكُونُ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِيهِ مُخَالِفًا لِلْمَصْلَحَةِ وَكَوْنُ مَا فِي النَّفْسِ يُحَاسَبُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ مَا ذَكَرْتَ، فَلِمَاذَا قَالَ الصَّحَابَةُ فِيهَا مَا قَالُوا؟ أَقُولُ: إِنَّ الصَّحَابَةَ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ قَدْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَأَكْثَرُهُمْ رِجَالٌ قَدْ تَرَبَّوْا فِي حِجْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَانْطَبَعَتْ فِي نُفُوسِهِمْ قَبْلَهُ أَخْلَاقُهَا، وَأَثَّرَتْ فِي قُلُوبِهِمْ عَادَتُهَا فَكَانُوا يَتَزَكُّونَ مِنْهَا، وَيَتَطَهَّرُونَ مَنْ لَوَثِهَا تَدْرِيجًا بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، كُلَّمَا نَزَلَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَبِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، فِيمَا يَفْعَلُ وَيَقُولُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ خَافُوا أَنْ يُؤَاخَذُوا عَلَى مَا كَانَ لَا يَزَالُ بَاقِيًا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَثَرِ التَّرْبِيَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، وَنَاهِيكَ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ- وَاعْتِقَادِ النَّقْصِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى بَعْدَ كَمَالِ التَّزْكِيَةِ وَتَمَامِ الطَّهَارَةِ حَتَّى كَانَ مِثْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ: هَلْ يَجِدُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ.
فَأَخْبَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَلَا يُؤَاخِذُهَا إِلَّا عَلَى مَا كَلَّفَهَا، فَهُمْ مُكَلَّفُونَ بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَمُجَاهَدَتِهَا بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ وَالطَّاقَةِ وَطَلَبِ الْعَفْوِ عَمَّا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَدْ خَافَ أَنْ تَدْخُلَ الْوَسْوَسَةُ وَالشُّبْهَةُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ دَفْعِهَا فِي عُمُومِ الْآيَةِ، فَكَانَ مَا بَعْدَهَا مُبَيِّنًا لِغَلَطِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا تَسْمِيَةُ بَعْضِهِمْ ذَلِكَ نَسْخًا فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: بِأَنَّهُ عَبَّرَ بِالنَّسْخِ عَنِ الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ تَجَوُّزًا. وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّسْخُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ الْإِزَالَةُ وَالتَّحْوِيلُ لَا الِاصْطِلَاحِيُّ؛ أَيْ إِنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ كَانَتْ مُزِيلَةً لِمَا أَخَافَهُمْ مِنَ الْأُولَى أَوْ مُحَوِّلَةً لَهُ إِلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابِيُّ لَمْ يَنْطِقْ بِلَفْظِ النَّسْخِ، وَإِنَّمَا فَهِمَهُ الرَّاوِي مِنَ الْقِصَّةِ فَذَكَرَهُ، وَكَثِيرًا مَا يَرْوُونَ الْأَحَادِيثَ الْمَرْفُوعَةَ بِالْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّصِّ الْمَرْفُوعِ، وَرَأْيُ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ، لاسيما إِذَا خَالَفَ ظَاهِرُهُ الْكِتَابَ، وَإِنَّنِي لَا أَعْتَقِدُ صِحَّةَ سَنَدِ حَدِيثٍ وَلَا قَوْلِ عَالَمٍ صَحَابِيٍّ يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ، وَإِنْ وَثَّقُوا رِجَالَهُ فَرُبَّ رَاوٍ يُوَثَّقُ لِلِاغْتِرَارِ بِظَاهِرِ حَالِهِ، وَهُوَ سَيِّئُ الْبَاطِنِ وَلَوِ انْتُقِدَتِ الرِّوَايَاتُ مِنْ جِهَةِ فَحْوَى مَتْنِهَا كَمَا تُنْتَقَدُ مِنْ جِهَةِ سَنَدِهَا لَقَضَتِ الْمُتُونُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَسَانِيدِ بِالنَّقْضِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ مِنْ عَلَامَةِ الْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ مُخَالَفَتُهُ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَوِ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْ لِلْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَوْ لِلْحِسِّ وَالْعِيَانِ وَسَائِرِ الْيَقِينِيَّاتِ.
أَمَّا إِبْدَاءُ مَا فِي النَّفْسِ فَهُوَ إِظْهَارُهُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، وَأَمَّا إِخْفَاؤُهُ فَهُوَ ضِدُّهُ وَالْإِبْدَاءُ وَالْإِخْفَاءُ سِيَّانِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [40: 19] فَالْمَدَارُ فِي مَرْضَاتِهِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَطَهَارَةِ السَّرِيرَةِ لَا عَلَى لَوْكِ اللِّسَانِ وَحَرَكَاتِ الْأَبْدَانِ، وَأَمَّا الْمُحَاسَبَةُ فَهِيَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَإِنْ فَسَّرَهَا بَعْضٌ بِالْعِلْمِ، وَبَعْضٌ بِالْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ غِبُّهَا وَلَازِمُهَا، ذَلِكَ أَنَّ لِلنُّفُوسِ فِي اعْتِقَادَاتِهَا وَمَلَكَاتِهَا وَعَزَائِمِهَا وَإِرَادَتِهَا مَوَازِينَ يُعْرَفُ بِهَا يَوْمَ الدِّينِ رُجْحَانُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ أَوِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ هِيَ أَدَقُّ مِمَّا وَضَعَ الْبَشَرُ مِنْ مَوَازِينِ الْأَعْيَانِ وَمَوَازِينِ الْأَعْرَاضِ كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [21: 47] وَسَيَأْتِي قَوْلُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ.
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ أَيْ فَهُوَ بِمَا لَهُ مِنَ الْمُلْكِ الْمُطْلَقِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَيُعَذِّبُ مَنْ شَاءَ عَذَابَهُ. وَقَرَأَ غَيْرُ ابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ بِجَزْمِ: يَغْفِرْ وَيُعَذِّبْ. بِالْعَطْفِ عَلَى يُحَاسِبْكُمْ وَإِنَّمَا يَشَاءُ مَا فِيهِ الرَّحْمَةُ وَالْعَدْلُ وَالْحِكْمَةُ، وَالْأَصْلُ فِي الْعَدْلِ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ السَّيِّئُ عَلَى قَدْرِ الْإِسَاءَةِ وَتَأْثِيرِهَا فِي تَدْسِيَةِ نُفُوسِ الْمُسِيئِينَ، وَالْجَزَاءُ الْحَسَنُ عَلَى قَدْرِ الْإِحْسَانِ وَتَأْثِيرِهِ فِي أَرْوَاحِ الْمُحْسِنِينَ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ يُضَاعِفُ جَزَاءَ الْحَسَنَةِ عَشَرَةَ أَضْعَافٍ وَيَزِيدُ مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُضَاعِفُ السَّيِّئَةَ، وَالْآيَاتُ الْمُفَصَّلَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ وَبِهَا يُفَسَّرُ الْمُجْمَلُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْمَغْفِرَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ بِإِيضَاحٍ، وَحَسْبُكَ هُنَا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الذَّنْبَ الْمَغْفُورَ: هُوَ الَّذِي يُوَفِّقِ اللهُ صَاحِبَهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ يَغْلِبُ أَثَرُهُ فِي النَّفْسِ، وَالْجَاهِلُ بِهَدْيِ الْكِتَابِ يَحْسَبُ أَنَّ الْأَمْرَ فَوْضَى، وَالْكَيْلَ جُزَافٌ وَيُمَنِّي نَفْسَهُ بِالْمَغْفِرَةِ عَلَى إِصْرَارِهِ وَإِقَامَتِهِ عَلَى أَوْزَارِهِ، أَلَمْ يَقْرَأْ فِي دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [40: 7- 9] وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: شَأْنُ اللهِ تَعَالَى فِي الْمُحَاسَبَةِ أَنْ يُذَكِّرَ الْإِنْسَانَ أَوْ يَسْأَلَهُ: لِمَ فَعَلْتَ؟ فَبَعْدَ أَنْ يَرَى الْعَبْدُ أَعْمَالَهُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ يَغْفِرُ أَوْ يُعَذِّبُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ تَصِلْ أَعْمَالُهُ الْمُنْكَرَةُ إِلَى أَنْ تَكُونَ مَلَكَاتٍ لَهُ فَاللهُ سبحانه يَغْفِرُهَا لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ مَلَكَاتٍ لَهُ فَهُوَ يُعَاقِبُهُ عَلَيْهَا وَهُوَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ. وَقَدْ يَظُنُّ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ أَنَّ فِي هَذَا سَبِيلًا لِلْمُرُوقِ مِنَ التَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْمَغْفِرَةِ وَالتَّعْذِيبِ مَوْكُولٌ لِلْمَشِيئَةِ، وَالرَّجَاءُ فِيهِ أَكْبَرُ وَهَذَا ضَلَالٌ عَنْ فَهْمِ الْكِتَابِ بِالْمَرَّةِ، فَالْآيَةُ إِنْذَارٌ وَتَخْوِيفٌ لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعٌ لِلْقَطْعِ بِمَغْفِرَةِ ذَنْبٍ مَا وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، أَقُولُ: وَقَدْ ذَكَّرَنِي قَوْلُهُ بِكَلِمَةٍ لِأَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ.
قَالَ: وَقَدْ أَبْهَمْتَ الْأَمْرَ عَلَيْنَا نَرْجُو وَنَخَافُ فَآمِنْ خَوْفَنَا وَلَا تُخَيِّبْ رَجَاءَنَا وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الدُّعَاءِ، وَقَدْ قَرَّرَ مَا ذُكِرَ مِنْ تَعْلِيقِ الْأَمْرِ بِالْمَشِيئَةِ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ فَهُوَ بِقُدْرَتِهِ يُنَفِّذُ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ مَشِيئَتُهُ، فَنَسْأَلُهُ الْعِنَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ وَالْهِدَايَةَ لِأَقْوَمِ طَرِيقٍ.
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
قِيلَ: إِنَّ الْآيَتَيْنِ مُتَعَلِّقَتَانِ بِمَا قَبْلَهُمَا لِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ كَمَالِ الْأُلُوهِيَّةِ الَّذِي يُقَابِلُهُ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَالدُّعَاءِ مَا يُنَاسِبُهُ أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الْحِسَابِ وَالْعِلْمِ بِالْخَفَايَا الْمُقْتَضِي لِلْإِيمَانِ وَالدُّعَاءِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا افْتُتِحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِبَيَانِ كَوْنِ الْقُرْآنِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَكَوْنِهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، وَذِكْرِ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ الَّتِي أَخَذُوا بِهَا وَخَبَرِ سَائِرِ النَّاسِ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُرْتَابِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهَا كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ وَمُحَاجَّةِ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ بِهِ مِنْ بَعْضِ الْأُمَمِ، نَاسَبَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ خَتْمُ السُّورَةِ بِالشَّهَادَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْإِيمَانِ وَهُمُ الْمُهْتَدُونَ تَمَامَ الِاهْتِدَاءِ، وَلَقَّنَهُمْ مِنَ الدُّعَاءِ مَا سَتَعْلَمُ حِكْمَتَهُ وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} أَيْ صَدَّقَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ وَالسُّنَنِ وَالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى تَصْدِيقَ إِذْعَانٍ وَاطْمِئْنَانٍ وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ وَقَدْ شَهِدَ لَهُمْ بِهَذَا الْإِيمَانِ أَثَرُهُ فِي نُفُوسِهِمِ الزَّكِيَّةِ وَهِمَمِهِمُ الْعَلِيَّةِ، وَأَعْمَالِهِمُ الْمَرْضِيَّةِ وَاللهُ أَكْبَرُ شَهَادَةً، وَقَدِ اعْتَرَفَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْبَاحِثِينَ فِي شُئُونِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلُومِهِمْ وَسَائِرِ شُئُونِ أُمَمِ الشَّرْقِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَلَى اعْتِقَادٍ جَازِمٍ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ وَمُوحًى إِلَيْهِ، وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ ادَّعَى الْوَحْيَ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ لِنَشْرِ حِكْمَتِهِ وَالْإِقْنَاعِ بِفَلْسَفَتِهِ أَوْ لِنَيْلِ السُّلْطَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ بِهِ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَكِتَابِهِ أَيْ كُلٌّ مِنْهُمْ آمَنَ بِوُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَبِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمُ السُّفَرَاءُ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ يَنْزِلُونَ بِالْوَحْيِ عَلَى قُلُوبِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ الْإِيمَانَ بِذَوَاتِهِمْ، بَلِ الْإِيمَانَ بِسِفَارَتِهِمْ فِي الْوَحْيِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنَ النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ؛ وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِحَقِّيَّةِ كُتُبِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ، لَكِنْ مَا يُفِيدُهُ التَّرْتِيبُ وَالنَّظْمُ مِنْ إِرَادَةِ الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ مِنْ حَيْثُ هُمْ حَمَلَةُ الْوَحْيِ إِلَى الرُّسُلِ لَا يُنَافِي مُلَاحَظَةَ الْإِيمَانِ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ بَلْ يَسْتَلْزِمُهُ، وَأَمَّا الْبَحْثُ عَنْ ذَوَاتِهِمْ مَا هِيَ وَعَنْ صِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ كَيْفَ هِيَ؟ فَهُوَ مِمَّا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ فِي دِينِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ جِنْسُهَا؛ أَيْ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ إِيمَانًا إِجْمَالِيًّا فِيمَا أَجْمَلَهُ الْقُرْآنُ وَتَفْصِيلِيًّا فِيمَا فَصَّلَهُ لَا يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا وَيَقُولُونَ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ قَرَأَ يَعْقُوبُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ {لَا يُفَرِّقُ} وَهُوَ يَعُودُ عَلَى لَفْظِ كَلٌّ وَذِكْرُ الْمَقُولِ مَعَ حَذْفِ الْقَوْلِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، وَلَهُ مَوَاضِعُ فِي الْكِتَابِ لَا يَقِفُ الْفَهْمُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا هَذَا مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُمْ فِي الرِّسَالَةِ وَالتَّشْرِيعِ سَوَاءٌ، كَثُرَ قَوْمُ الرَّسُولِ مِنْهُمْ أَمْ قَلُّوا، وَكَثُرَتِ الْأَحْكَامُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَيْهِ أَمْ قَلَّتْ، وَتَقَدَّمَتِ الْبَعْثَةُ أَمْ تَأَخَّرَتْ. وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [2: 253] فَإِنَّ التَّفْضِيلَ لَيْسَ فِي أَصْلِ الرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. أَقُولُ: وَفِي هَذَا مَزِيَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ. وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْقِلُوا مَعْنَى الرِّسَالَةِ فِي نَفْسِهَا إِذْ لَوْ عَقَلُوهَا لَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ مَنْ أُوتُوهَا، وَقَدْ رَأَيْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَذْكِيَاءِ النَّصَارَى يُدْرِكُ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ.
آمَنُوا بِمَا ذُكِرَ قَائِلِينَ بِعَدَمِ التَّفْرِيقِ: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا أَيْ بُلِّغْنَا فَسَمِعْنَا الْقَوْلَ سَمَاعَ وَعْيٍ وَفَهْمٍ، وَأَطَعْنَا مَا أُمِرْنَا بِهِ فِيهِ، إِطَاعَةَ إِذْعَانٍ وَانْقِيَادٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ: وَقَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ مِرَارًا أَنَّ فَرْقًا بَيْنَ إِيمَانِ الْإِذْعَانِ وَبَيْنَ مَا يُسَمِّيهِ الْإِنْسَانُ إِيمَانًا وَاعْتِقَادًا؛ لِأَنَّهُ نَشَأَ عَلَيْهِ وَقَبِلَهُ بِالتَّقْلِيدِ وَلَمْ يَسْمَعْ لَهُ نَاقِضًا، فَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ اعْتِقَادًا حَقِيقِيًّا، وَقَلَّمَا يَنْشَأُ عَنْهُ عَمَلٌ؛ لِأَنَّهُ تَقْلِيدٌ، بَقَاؤُهُ فِي الْغَفْلَةِ عَنْ نَاقِضِهِ، وَالْإِذْعَانُ يُنَبِّهُ النَّفْسَ دَائِمًا إِلَى مَا تُذْعِنُ لَهُ، وَيَبْعَثُهَا دَائِمًا إِلَى الْعَمَلِ بِهِ إِلَّا إِذَا عَرَضَ مَا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الْمَرْءُ مِنَ الْمَوَانِعِ؛ وَلِهَذَا عَطْفَ أَطَعْنَا عَلَى سَمِعْنَا. وَلَمَّا كَانَ الْعَامِلُ الْمُذْعِنُ الْمُخْلِصُ يُرَاقِبُ قَلْبَهُ وَيُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى التَّقْصِيرِ الَّذِي تَأْتِي بِهِ الْعَوَارِضُ الطَّارِئَةُ وَيَلُومُهَا عَلَى مَا دُونَ الْكَمَالِ مِنَ الْأَعْمَالِ كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا مَعَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أَيْ يَسْأَلُونَهُ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ مَا عَسَاهُ يَطْرَأُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَعُوقُهَا عَنِ الرُّقِيِّ فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ الَّذِي دَعَاهَا إِلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهَا، وَالْغُفْرَانُ كَالْمَغْفِرَةِ: السَّتْرُ، وَسَتْرُ الذَّنْبِ يَكُونُ بِعَدَمِ الْفَضِيحَةِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَتَرْكِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ هَذَا بِالتَّوْبَةِ وَإِتْبَاعِ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ مَعَ الدُّعَاءِ الَّذِي يَزِيدُ فِي الْإِيمَانِ وَبِذَلِكَ يُمْحَى أَثَرُ الذُّنُوبِ مِنَ النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا فَيُرْجَى أَنْ تَصِيرَ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ نَقِيَّةً زَكِيَّةً؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَصِيرَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ وَرَاءَهُ الْجَزَاءُ بِحَسَبِ دَرَجَاتِ النُّفُوسِ فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ.
{لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وَلَا يُحَاسِبُهَا إِلَّا عَلَى مَا كَلَّفَهَا، وَالتَّكْلِيفُ: هُوَ الْإِلْزَامُ بِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ، وَالْوُسْعُ: مَا تَسَعُهُ قُدْرَةُ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ وَلَا عُسْرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَا دُونُ مَدَى طَاقَتِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ شَأْنَهُ تَعَالَى وَسُنَّتَهُ فِي شَرْعِ الدِّينِ أَلَّا يُكَلِّفَ عِبَادَهُ مَا لَا يُطِيقُونَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ لَا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ. وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْكَلَامَ فِي شَأْنِهِ وَسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي التَّكْلِيفِ، وَسَتَأْتِي تَتِمَّةُ هَذَا الْبَحْثِ قَرِيبًا. وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّكْلِيفُ لَمْ يَقَعْ كَمَا قَالُوا، امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِمَا قَبِلَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ تَكْلِيفَ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [3: 102] كَمَا قِيلَ.
وَفِي الْجُمْلَةِ وَجْهَانِ قِيلَ: هِيَ ابْتِدَاءُ خَبَرٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى كَأَنَّهُ بِشَارَةٌ بِغُفْرَانِ مَا طَلَبُوا غُفْرَانَهُ مِنَ التَّقْصِيرِ وَتَيْسِيرِ مَا قَدْ يُشَمُّ مِنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ التَّعْسِيرِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُمْ بَعْدَ سُؤَالِ الْغُفْرَانِ قَدْ أُذِنُوا بِأَنْ يُصْغُوا لِلَّهِ تَعَالَى بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الرَّأْفَةِ بِعِبَادِهِ، وَالْحِكْمَةِ فِي سِيَاسَتِهِمْ.
{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} قِيلَ: إِنَّ الْكَسْبَ وَالِاكْتِسَابَ وَاحِدٌ فِي اللُّغَةِ نُقِلَ عَنِ الْوَاحِدِيِّ. وَقِيلَ: إِنَّ الِاكْتِسَابَ أَخَصُّ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَوْجِيهِهِ، وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ الصَّوَابُ، وَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا كَالْفَرْقِ بَيْنَ عَمِلَ وَاعْتَمَلَ، فَكُلُّ مَنِ اكْتَسَبَ وَاعْتَمَلَ يُفِيدُ الِاخْتِرَاعَ وَالتَّكَلُّفَ، فَالْآيَةُ تُشِيرُ أَوْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِطْرَةَ الْإِنْسَانِ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْخَيْرِ، وَأَنَّهُ يَتَعَوَّدُ الشَّرَّ بِالتَّكَلُّفِ وَالتَّأَسِّي. وَالْمَعْنَى: أَنَّ لَهَا ثَوَابَ مَا كَسَبَتْ مِنَ الْخَيْرِ وَعَلَيْهَا عِقَابُ مَا اكْتَسَبَتْ مِنَ الشَّرِّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْإِنْسَانِ هَلْ هُوَ خَيْرٌ بِالطَّبْعِ أَوْ شِرِّيرٌ بِالطَّبْعِ؟ وَإِلَى أَيِّ الْأَمْرَيْنِ أَمْيَلُ بِفِطْرَتِهِ مَعَ صَرْفِ النَّظَرِ عَمَّا يَتَّفِقُ لَهُ فِي تَرْبِيَّتِهِ، الْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمَيْلَ إِلَى الْخَيْرِ مِمَّا أُودِعَ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ، وَالْخَيْرُ كُلُّ مَا فِيهِ نَفْعُ نَفْسِكَ وَنَفْعُ النَّاسِ. وَجُمَّاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ «أَنْ تُحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ» كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَالْإِنْسَانُ يَفْعَلُ الْخَيْرَ بِطَبْعِهِ، وَتَكُونُ فِيهِ لَذَّتُهُ، وَيَمِيلُ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ مَغْرُوسٌ فِي الطَّبْعِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي كُلِّ إِنْسَانٍ، وَأَقَلُّهُ الْبَشَاشَةُ وَالِارْتِيَاحُ لِلْمُنْعِمِ وَلَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى تَكَلُّفٍ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرْتَاحُ إِلَيْهِ وَيَرَاهُ بِعَيْنِ الرِّضَا، وَأَمَّا الْبَشَرُ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ بِأَسْبَابٍ لَيْسَتْ مِنْ طَبِيعَتِهَا وَلَا مُقْتَضَى فِطْرَتِهَا، وَمَهْمَا كَانَ الْإِنْسَانُ شِرِّيرًا فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ الشَّرَّ مَمْقُوتٌ فِي نَظَرِ النَّاسِ وَصَاحِبَهُ مَهِينٌ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ الطِّفْلَ يَنْشَأُ عَلَى الصِّدْقِ حَتَّى يَسْمَعَ الْكَذِبَ مِنَ النَّاسِ فَيَتَعَلَّمُهُ، وَإِذَا رَأَى إِعْجَابَ النَّاسِ بِكَلَامِ مَنْ يَصِفُ شَيْئًا يَزِيدُ فِيهِ وَيُبَالِغُ كَاذِبًا اسْتَحَبَّ الْكَذِبَ وَافْتَرَاهُ لِيَنَالَ الْحُظْوَةَ عِنْدَ النَّاسِ، وَيَحْظَى بِإِعْجَابِهِمْ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ يَشْعُرُ بِقُبْحِهِ حَتَّى إِذَا نُبِزَ أَمَامَهُ أَحَدٌ بِلَقَبِ الْكَاذِبِ أَوِ الْكَذَّابِ أَحَسَّ بِمَهَانَةِ نَفْسِهِ وَخِزْيِهَا، وَهَكَذَا شَأْنُ الْإِنْسَانِ عِنْدَ اقْتِرَافِ كُلِّ شَرٍّ يَشْعُرُ فِي نَفْسِهِ بِقُبْحِهِ وَيَجِدُ مِنْ أَعْمَاقِ سَرِيرَتِهِ هَاتِفًا يَقُولُ لَهُ: لَا تَفْعَلْ وَيُحَاسِبُهُ بَعْدَ الْفِعْلِ وَيُوَبِّخُهُ إِلَّا فِي النَّادِرِ، وَمِنَ النَّادِرِ أَنْ يَصِيرَ الْإِنْسَانُ شَرًّا مَحْضًا- يُرِيدُ أَنَّهُ قَلَّمَا يَأْلَفُ أَحَدٌ الشَّرَّ وَيَنْطَبِعُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ طَبْعًا لَهُ لَا تَشْعُرُ نَفْسُهُ بِقُبْحِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَلَا فِي أَثْنَائِهِ وَلَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ، حَتَّى إِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْمِلْيُونِ مِنَ النَّاسِ شِرِّيرٌ وَاحِدٌ يَفْعَلُ الشَّرَّ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِأَنَّهُ شَرٌّ قَبِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَالَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ شِرِّيرٌ بِالطَّبْعِ أَرَادُوا مِنَ الطَّبْعِ مَا يَرَوْنَ عَلَيْهِ غَالِبَ النَّاسِ وَلَمْ يُلَاحِظُوا فِيهِ مَعْنَى الْغَرِيزَةِ وَمَنَاشِئَ الْعَمَلِ مِنَ الْفِطْرَةِ، ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْشَأُ بَيْنَ مُنَازَعَاتِ الْكَوْنِ وَفَوَاعِلِ الطَّبِيعَةِ وَأَحْيَائِهَا وَمُغَالَبَةِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ عَلَى الْمَنَافِعِ وَالْمَرَافِقِ، وَقَدْ يَدْفَعُهُ هَذَا الْجِهَادُ إِلَى الْأَثَرَةِ وَتَوْفِيرِ الْخَيْرِ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً وَيُلْجِئُهُ الظُّلْمُ إِلَى الظُّلْمِ فَيَأْتِيهِ مُتَعَلِّمًا إِيَّاهُ تَعَلُّمًا مُتَكَلِّفًا لَهُ تَكَلُّفًا، وَفِي نَفْسِهِ ذَلِكَ الْهَاتِفُ الْفِطْرِيُّ يَقُولُ لَهُ: لَا تَفْعَلْ، وَهُوَ النِّبْرَاسُ الْإِلَهِيُّ الَّذِي لَا يَنْطَفِئُ، فَإِذَا رَجَعَ الْإِنْسَانُ إِلَى أَصْلِ فِطْرَتِهِ لَا يَرَى إِلَّا الْخَيْرَ، وَلَا يَمِيلُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَإِذَا تَأَمَّلَ فِي الشَّرِّ الَّذِي يَعْرِضُ لَهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الطَّوَارِئِ الَّتِي تَعْرِضُ عَلَيْهَا لاسيما مَنْ يَنْشَأُ بَيْنَ قَوْمٍ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ، وَأَشَدُّ مَا يَضُرُّ الْإِنْسَانَ فِي ذَلِكَ نَظَرُهُ إِلَى حَالِ غَيْرِهِ؛ وَلِذَلِكَ أُمِرْنَا فِي الْحَدِيثِ أَنْ نَنْظُرَ فِي شُئُونِ الدُّنْيَا إِلَى مَنْ هُوَ دُونَنَا وَهَذَا الْأَمْرُ خَاصٌّ بِالْأَفْرَادِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، فَإِنَّ نَظَرَ الْوَاحِدِ إِلَى مَنْ دُونَهُ يَجْعَلُهُ رَاضِيًا بِمَا أُوتِيهِ مِنَ النِّعَمِ بَعِيدًا عَنِ الْحَسَدِ الَّذِي هُوَ مَنْبَعُ الشُّرُورِ، وَأَمَّا الْأُمَمُ فَيَنْبَغِي أَنْ نَنْظُرَ فِي حَالِ مَنْ فَوْقِنَا مِنْهَا لِأَجْلِ مُبَارَاتِهَا وَمُسَامَاتِهَا.
هَذَا مَا قَالَهُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِإِيضَاحٍ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْخَيْرِ: {كَسَبَتْ} وَفِي الشَّرِّ {اكْتَسَبَتْ} وَكَانَ رحمه الله تعالى يَرَى أَنَّ أَحَقَّ مَا يُتَعَجَّبُ لَهُ مِنْ حَالِ الْإِنْسَانِ كَثْرَةُ عَمَلِ الشَّرِّ وَقِلَّةُ عَمَلِ الْخَيْرِ، وَيُعَلِّلُ ذَلِكَ بِأَنَّ عَمَلَ الْخَيْرِ سَهْلٌ وَعَاقِبَتُهُ حَمِيدَةٌ، وَعَمَلَ الشَّرِّ عَسِرٌ وَمَغَبَّتُهُ ذَمِيمَةٌ، وَلَا عَجَبَ فِي تَعَجُّبِهِ، فَقَدْ كَانَ مَجْبُولًا مِنْ طِينَةِ الْخَيْرِ، سَلِيمَ الْفِطْرَةِ مِنْ عَوَارِضِ الشَّرِّ، حَتَّى لَمْ تُؤَثِّرْ فِي نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ الشُّرُورُ الَّتِي كَانَتْ تُحِيطُ بِهِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى يَوْمِ وَفَاتِهِ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. وَالْمَسْأَلَةُ تَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةٍ فِي الْبَسْطِ لِكَثْرَةِ اشْتِبَاهِ النَّاسِ فِيهَا، وَلِشِّدَّةِ مَا عَارَضَنَا فِي تَقْرِيرِهَا الطُّلَّابُ فِي الدَّرْسِ، وَالْبَاحِثُونَ فِي الْمُحَاضَرَاتِ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَا هُوَ الشَّرُّ الْفِطْرِيُّ فِي الْبَشَرِ؟ لَيَقُولُنَّ: حُبُّ الشَّهَوَاتِ وَالْغَضَبُ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُمَا مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ، وَلَوْلَا هَاتَانِ الْغَرِيزَتَانِ لَمَا جَلَبَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ نَفْعًا، وَلَمَا دَفَعَ ضَرًّا، وَلَمَا ظَهَرَ مِنْ أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ مَا نَرَى مِنْ أَسْرَارِ الطَّبِيعَةِ وَمَحَاسِنِ الْخَلِيقَةِ، بَلْ لَوْلَاهُمَا لَبَادَتِ الْأَفْرَادُ وَانْقَرَضَ النَّوْعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِي الْفِطْرَةِ وَالدِّينِ وَالْمُرْشِدِ إِلَى كَمَالِهَا مَا يَكْفِي لِإِقَامَةِ الْمِيزَانِ الْقِسْطِ فِيهِمَا غَالِبًا، حَتَّى لَا يَغْلِبَ فِي الْأُمَّةِ تَفْرِيطٌ وَلَا إِفْرَاطٌ، وَيَكُونُ الْخَيْرُ أَصْلًا عَامًّا، وَالشَّرُّ عَرَضًا مُفَارِقًا، وَالْأَصْلُ الَّذِي لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ جُبِلَ عَلَى أَلَّا يَعْمَلَ عَمَلًا إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ نَافِعٌ، وَأَنَّ فِعْلَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ تَرْكِهِ، وَذَلِكَ شَأْنُهُ فِي التَّرْكِ أَيْضًا، وَأَنَّ هِدَايَاتِهِ الْأَرْبَعَ: الْحِسَّ وَالْوِجْدَانَ وَالْعَقْلَ وَالدِّينَ كَافِيَةٌ لِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ كُلَّ خَيْرٍ نَافِعٌ، وَكُلَّ شَرٍّ ضَارٌّ، فَإِذَا قَصَّرَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِهَذِهِ الْهِدَايَاتِ فَوَقَعَ فِي الشَّرِّ كَانَ وُقُوعُهُ فِيهِ أَثَرًا لِتَنَكُّبِ طَرِيقِ الْفِطْرَةِ لَا لِلسَّيْرِ عَلَى جَادَّتِهَا، وَأَكْثَرُ أَعْمَالِ النَّاسِ نَافِعَةٌ لَهُمْ غَيْرُ ضَارَّةٍ بِغَيْرِهِمْ، وَمِنَ التَّفْصِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي كَذِبِ الْأَطْفَالِ، وَمِنْهُ مَا سُئِلْنَا عَنْهُ فِي الدَّرْسِ وَمَجَالِسِ الْبَحْثِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الزِّنَا مَثَلًا، وَأَجَبْنَا بِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمِيلُ بِفِطْرَتِهِ إِلَى الزِّنَا، وَإِنَّمَا يَمِيلُ إِلَى الْوِقَاعِ، وَهَذَا مِنَ الْخَيْرِ وَأَصُولِ الْكَمَالِ فِي الْفِطْرَةِ، وَإِنَّمَا الزِّنَا وُضِعَ لَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَذَلِكَ مِنَ الْعَوَارِضِ الطَّارِئَةِ الَّتِي تَكْثُرُ بِتَرْكِ مُقَوِّمَاتِ الْفِطْرَةِ وَحَوَافِظِهَا مِنْ نُذُرِ الدِّينِ وَقَضَايَا الْعَقْلِ وَآدَابِ الِاجْتِمَاعِ، وَلَقَدْ كُنْتُ قَبْلَ الْوُقُوفِ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ- لاسيما فِي بِلَادِ مِصْرَ- أَظُنُّ أَنَّ الزِّنَا لَا يَكَادُ يَقَعُ إِلَّا نَادِرًا مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الْجَاهِلِينَ، وَهَذَا مَا يَعْتَقِدُهُ كُلُّ مَنْ يَنْشَأُ فِي بِيئَةٍ تَغْلُبُ فِيهَا الْعِفَّةُ، وَلَمْ يَعْرِفْ حَالَ غَيْرِهَا وَلَا أَخْبَارَ الشَّاذِّينَ فِيهَا، وَلَوْ كَانَ فِطْرِيًّا لَشَعَرَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ نَفْسِهِ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ، كَمَا يَشْعُرُ بِأَنَّهُ فِي حَاجَةٍ إِلَى زَوْجٍ يَتَّحِدُ بِهِ، وَلَعَلَّ مَا أَوْرَدْنَاهُ كَافٍ لِلْمُتَدَبِّرِ، وَلَا يَتَّسِعُ التَّفْسِيرُ لِأَكْثَرَ مِنْهُ.
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا شَأْنَ الْمُؤْمِنِ فِي السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ثُمَّ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِمَا يُلِمُّ بِهِ أَوْ يَتَّهِمُ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَفَضْلَهُ وَمِنَّتَهُ فِي عَدَمِ تَكْلِيفِ النَّفْسِ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهَا، ثُمَّ عَلَّمَنَا هَذَا الدُّعَاءَ لِنَدْعُوَهُ بِهِ وَهُوَ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا فَتَرَكْنَا مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ أَوْ فَعَلْنَا مَا يَجِبُ تَرْكُهُ، أَوْ جِئْنَا بِالشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ أَنْ يُؤَاخَذَ عَلَيْهِمَا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْوَجْهِ فِيهِ. وَالْمُؤَاخَذَةُ: الْمُعَاقَبَةُ، وَهِيَ مِنَ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّ مَنْ يُرَادُ عِقَابُهُ يُؤْخَذُ بِيَدِ الْقَهْرِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ النَّاسِيَ وَالْمُخْطِئَ لَا إِرَادَةَ لَهُمَا فِيمَا فَعَلَاهُ نِسْيَانًا أَوْ خَطَأً، وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَالْكَلَامِ، وَيَتْبَعُهُ مِنَ الْمُنَاقَشَاتِ مَا يَبْعُدُ بِهِ عَنْ حُدُودِ الْأَفْهَامِ، وَإِذَا رَجَعَ الْإِنْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ وَتَأَمَّلَ الْأَمْرَ فِي ذَاتِهِ عَلِمَ أَنَّ النَّاسِيَ يَصِحُّ أَنْ يُؤَاخَذَ فَيُقَالَ لَهُ لِمَ نَسِيتَ؟ فَإِنَّ النِّسْيَانَ قَدْ يَكُونُ مِنْ عَدَمِ الْعِنَايَةِ بِالشَّيْءِ وَتَرْكِ إِجَالَةِ الْفِكْرِ فِيهِ وَتَرْدِيدِهِ فِي النَّفْسِ لِيَسْتَقِرَّ فِي الذَّاكِرَةِ، فَتُبْرِزَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ يَنْسَى الْإِنْسَانُ مَا لَا يُهِمُّهُ وَيَحْفَظُ مَا يُهِمُّهُ، فَإِذَا كَانَ النِّسْيَانُ غَيْرَ اخْتِيَارِيٍّ فَسَبَبُهُ الَّذِي بَيَّنَاهُ آنِفًا اخْتِيَارِيٌّ، وَلِذَلِكَ يُؤَاخِذُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالنِّسْيَانِ لاسيما نِسْيَانُ الْأَدْنَى لِمَا يَأْمُرُهُ بِهِ الْأَعْلَى، فَإِذَا عَهِدْتَ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ أَوْ فَضْلٌ بِأَنْ يَفْعَلَ كَذَا أَوْ يَجِيئَكَ فِي يَوْمِ كَذَا فَنَسِيَ وَلَمْ يَمْتَثِلْ فَإِنَّكَ تَسْأَلُهُ وَتُؤَاخِذُهُ بِمَا تَرْمِيهِ بِهِ مِنَ الْإِهْمَالِ وَعَدَمِ الْعِنَايَةِ بِأَمْرِكَ، وَقَدْ آخَذَ اللهُ آدَمَ عَلَى ذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِ مَعَ قَوْلِهِ فِيهِ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [20: 115] وَقَالَ فِي جَوَابِ مَنْ يَسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَبَّهُ لِمَ حَشَرَهُ أَعْمَى؟ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [20: 126] وَقَالَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [5: 13] وَفِي الْآيَةِ: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [5: 14] وَهُنَاكَ آيَةٌ أُخْرَى، وَقَدْ فُسِّرَ النِّسْيَانُ فِيهَا بِالتَّرْكِ الَّذِي هُوَ لَازِمُهُ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ هُنَا أَيْضًا لَازِمُهُ، وَهُوَ تَرْكُ الِامْتِثَالِ. وَكَذَلِكَ الْخَطَأُ يَنْشَأُ مِنَ التَّسَاهُلِ وَعَدَمِ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّرَوِّي، وَلِذَلِكَ أَوْجَبَتِ الشَّرِيعَةُ الضَّمَانَ فِي إِتْلَافِ الْخَطَأِ وَالدِّيَةَ فِي جِنَايَتِهِ، فَإِنْ أَرَادَ امْرُؤٌ أَنْ يَرْمِيَ صَيْدًا فَأَصَابَ إِنْسَانًا فَقَتَلَهُ كَانَ مُؤَاخَذًا فِي الشَّرِيعَةِ، وَكَذَا فِي الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَجَرَى عَلَيْهِ عُرْفُ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ وَقَوَانِينِهِمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كُلٌّ مِنَ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ مُقَصِّرًا لَمَا كَانَ هَذَا، وَكَمَا جَازَ ذَلِكَ وَحَسُنَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَاخِذَ اللهُ النَّاسَ فِي الْآخِرَةِ بِكُلِّ مَا يَأْتُونَهُ مِنَ الْمُنْكَرِ نَاسِينَ تَحْرِيمَهُ أَوْ وَاقِعِينَ فِيهِ خَطَأً، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَنَا أَنْ نَدْعُوَهُ بِأَلَّا يُؤَاخِذَنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، وَذَلِكَ مِنْ فَضْلِهِ عَلَيْنَا وَإِحْسَانِهِ فِي هِدَايَتِنَا، فَإِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ يُذَكِّرُنَا بِمَا يَنْبَغِي مِنَ الْعِنَايَةِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّذَكُّرِ لَعَلَّنَا نَسْلَمُ مِنَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ أَوْ يَقِلُّ وُقُوعُهُمَا مِنَّا فَيَكُونُ ذَنْبًا جَدِيرًا بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ، فَهَذَا الدُّعَاءُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ اللهِ فِي النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ أَلَّا يُؤَاخِذَ عَلَيْهِمَا، بَلْ قُصَارَى مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُمَا مِمَّا يُرْجَى الْعَفْوُ عَنْهُمَا إِذَا وَقَعَ الْعَبْدُ بَعْدَ بَذْلِ جُهْدِهِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالتَّحَرِّي وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّذَكُّرِ وَأَخْذِ الدِّينِ بِقُوَّةٍ وَشَعَرَ بِتَقْصِيرِهِ فَلَجَأَ إِلَى الدُّعَاءِ الَّذِي يُقَوِّي فِي النَّفْسِ خَشْيَةَ اللهِ تَعَالَى وَالرَّجَاءَ بِفَضْلِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الْإِقْبَالُ عَلَى اللهِ تَعَالَى نُورًا تَنْقَشِعُ بِهِ ظُلْمَةُ ذَلِكَ التَّقْصِيرِ، وَلَعَلَّ إِيرَادَ الشَّرْطِ بِأَنَّ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ هَذَا خِلَافَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا قَلِيلًا. وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ مِمَّا زِدْتُهُ عَلَى كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَقَدْ يَرُدُّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَرْفُوعُ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي السُّنَنِ وَهُوَ: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَسْلَمُ لَهُ إِسْنَادٌ، وَلَكِنَّهُ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ يُعَدُّ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ قَالَهُ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مُخَالَفَتَهُ لِظَاهِرِ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى وَضْعِهِ لَا ضَعْفِهِ إِلَّا أَنْ يُؤَوَّلَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ أَنْفُسَهَا مِمَّا يُتَجَاوَزُ عَنْهَا فِي الْآخِرَةِ وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمُهُ، فَإِنْ كَانَ صَلَاةً أُعِيدَتْ وَإِنْ كَانَ ذَنْبًا وَجَبَتِ التَّوْبَةُ مِنْهُ وَالتَّضَرُّعُ إِلَى اللهِ بِالدُّعَاءِ، وَإِلَّا أُوخِذَ النَّاسِي وَالْمُخْطِئُ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ دُونَهُمَا، وَقَدْ أَخْطَأَ الْقَرَافِيُّ فِي فُرُوقِهِ بِمَا كَتَبَ فِي هَذَا الْمَقَامِ خَطَأً نَدْعُو اللهَ أَنْ يَغْفِرَهُ لَهُ.
{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} الْإِصْرُ: الْعِبْءُ الثَّقِيلُ، يَأْصِرُ صَاحِبَهُ أَيْ يَحْبِسُهُ مَكَانَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ لِثِقَلِهِ، وَحَمَلَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي زَمَنِ التَّشْرِيعِ وَنُزُولِ الْوَحْيِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي بُعِثَ فِيهَا الرُّسُلُ كَبَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَدْ كَانَتِ التَّكَالِيفُ شَاقَّةً عَلَيْهِمْ جِدًّا، وَفِي تَعْلِيمِنَا هَذَا الدُّعَاءَ بِشَارَةٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُنَا مَا يَشُقُّ عَلَيْنَا. كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [5: 6] وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الِامْتِنَانَ عَلَيْنَا وَإِعْلَامَنَا بِأَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْنَا الْإِصْرَ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا شُكْرُهُ لِذَلِكَ، وَحِكْمَةُ الدُّعَاءِ بِذَلِكَ الْآنَ اسْتِشْعَارُ النِّعْمَةِ وَالشُّكْرُ عَلَيْهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْإِصْرَ هُوَ الْعُقُوبَةُ عَلَى تَرْكِ الِامْتِثَالِ وَعَدَمِ حَمْلِ الشَّرِيعَةِ عَلَى وَجْهِهَا، فَطَلَبَ مِنَّا أَنْ نَدْعُوَهُ بِأَلَّا تَكُونَ عُقُوبَتُنَا عَلَى ذَلِكَ كَعُقُوبَةِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ الَّذِينَ نَزَلَتْ بِهِمْ أَلْوَانٌ مِنَ الْعَذَابِ وَدَمَّرَتْهُمْ تَدْمِيرًا حَتَّى هَلَكُوا هَلَاكًا حِسِّيًّا. فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَوْ هَلَاكًا مَعْنَوِيًّا بِأَنْ ضَاعَتْ أَوْ تَضَعْضَعَتْ شَرِيعَتُهُمْ وَنَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ حَتَّى عَادُوا إِلَى الْوَثَنِيَّةِ وَالْهَمَجِيَّةِ.
{رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} مِنَ الْعُقُوبَةِ أَوْ مِنَ الْبَلَايَا وَالْفِتَنِ وَالْمِحَنِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الشَّرَائِعُ وَالْأَحْكَامُ، وَجَعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ- كَمَا تَقَدَّمَ- فَهُوَ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَسْأَلَةُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهُ وَالْخِلَافُ فِيهَا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ مَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ: هَلْ يَجُوزُ عَلَى اللهِ عَقْلًا أَنْ يُكَلِّفَ النَّاسَ مَا لَا يُطِيقُونَ أَمْ لَا؟ وَالْمُتَقَدِّمُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ. وَمَا لَا يُطَاقُ هُوَ مَا لَا يَدْخُلُ فِي مَكِنَةِ الْإِنْسَانِ وَطَوْقِهِ، وَمَا يُطَاقُ: هُوَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَهُ وَلَوْ مَعَ الْمَشَقَّةِ، وَقَدْ جَعَلُوا مَا لَا يُطَاقُ بِمَعْنَى الْمُتَعَذِّرِ الَّذِي يَعْلُو الْقُدْرَةَ كَالَّذِي يَسْتَحِيلُ فِعْلُهُ عَقْلًا أَوْ عَادَةً، وَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَفْهَمَ الْقُرْآنَ بِلُغَتِهِ الَّتِي أُنْزِلَ بِهَا، لَا بِعُرْفِ أَفْلَاطُونَ وَفَلْسَفَةِ أَرِسْطُو، وَقَدْ رَأَيْنَا الْعَرَبَ تُعَبِّرُ مِمَّا يُطَاقُ عَمَّا فِيهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَلَيْسَ يَبِينُ فَضْلُ الْمَرْءِ إِلَّا ** إِذَا كَلَّفْتَهُ مَا لَا يُطِيقُ

أَقُولُ: يُرِيدُ رحمه الله تعالى أَنَّنَا إِذَا فَسَّرْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ بِالْأَحْكَامِ وَالتَّكَالِيفِ كَانَ مَعْنَاهُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا فَسَّرْنَا الْإِصْرَ بِالْعُقُوبَةِ تَفَادِيًا مِنَ التَّكْرَارِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَسَّرَ الْإِصْرُ: بِالتَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، وَمَا لَا طَاقَةَ بِهِ: بِالْعُقُوبَةِ عَلَى التَّقْصِيرِ فِيهَا، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الدُّعَاءَ بِنَفْيِ سَبَبِ الْعُقُوبَةِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: رَبَّنَا لَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا مَا يَشُقُّ عَلَيْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ، بَلْ حَمِّلْنَا الْيَسِيرَ الَّذِي يَسْهُلُ عَلَيْنَا حَمْلُهُ، رَبَّنَا وَوَفِّقْنَا لِحَمْلِ مَا حَمَّلْتَنَا وَالنُّهُوضِ بِهِ كَمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، لِكَيْلَا نَسْتَحِقَّ بِمُقْتَضَى سُنَّتِكَ أَنْ تُحَمِّلَنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُفَرِّطِينَ فِي دَيْنِهِمْ، الْمُسْرِفِينَ فِي أَهْوَائِهِمْ. وَاعْفُ عَنَّا بِمَحْوِ أَثَرِ مَا عَسَانَا نُلِمُّ بِهِ مِنْ أَنْفُسِنَا وَعَدَمِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ وَاغْفِرْ لَنَا، أَيْ لَا تَفْضَحْنَا بِإِظْهَارِهِ بِذَاتِهِ وَلَا بِالْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ وَارْحَمْنَا فِي كُلِّ حَالٍ بِمَا تُوَفِّقُنَا لَهُ مِنْ إِقَامَةِ دِينِكَ وَالسَّيْرِ عَلَى سُنَنِكَ الَّتِي جَعَلْتَهَا بِحِكْمَتِكَ طُرُقًا لِلسَّعَادَةِ.
{أَنْتَ مَوْلَانَا} الَّذِي مَنَحْتَنَا أَنْوَاعَ الْهِدَايَةِ، وَأَيَّدْتَنَا بِالتَّوْفِيقِ وَالْعِنَايَةِ، فَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ، وَلَا نَسْتَعِينُ بِسِوَاكَ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِكَ أَوْلِيَاءَ، وَجَهِلُوا سُنَنَكَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ، فَأَعْرَضُوا عَمَّا مَدَدْتَ لَهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْأَرْبَابِ، وَالَّذِينَ حَجَبَتْهُمْ سُنَنُكَ الْكَوْنِيَّةُ، عَنِ الْإِيمَانِ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، انْصُرْنَا عَلَى الْجَاحِدِينَ وَالْمُرْتَابِينَ مِنْهُمْ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَعَلَى الْمُعْتَدِينَ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ حِمَايَةِ الْحَقِّ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ.
اسْتَحْسَنَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَفْسِيرَ الْجَلَالِ النَّصْرَ بِالْغَلَبَةِ بِالْحُجَّةِ وَبِالسَّيْفِ وَقَالَ: إِنَّ النَّصْرَ بِالْحُجَّةِ هُوَ أَعْلَى النَّصْرِ وَأَفْضَلُهُ؛ لِأَنَّهُ نَصْرٌ عَلَى الرُّوحِ وَالْعَقْلِ، وَالنَّصْرُ بِالسَّيْفِ إِنَّمَا هُوَ نَصْرٌ عَلَى الْجَسَدِ وَلَا نُؤْثِرُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمَلِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْآيَةِ شَيْئًا إِلَّا هَذِهِ الْعِبَارَةَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ فِي شَأْنِ هَذَا الدُّعَاءِ كُلِّهِ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى مَا عَلَّمَنَا هَذَا الدُّعَاءَ لِأَجْلِ أَنْ نَلُوكَهُ بِأَلْسِنَتِنَا وَنُحَرِّكَ بِهِ شِفَاهَنَا فَقَطْ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْأَوْرَادِ وَالْأَحْزَابِ، بَلْ عَلَّمَنَا إِيَّاهُ لِأَجْلِ أَنْ نَدْعُوَهُ بِهِ مُخْلِصِينَ لَهُ لَاجِئِينَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَخْذِ مَا أَنْزَلَهُ بِقُوَّةٍ وَالْعَمَلِ بِهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ وَاسْتِعْمَالِ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُنَا مِنَ الْوَسَائِلِ وَالذَّرَائِعِ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ الِاسْتِجَابَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَمَنْ دَعَاهُ بِلِسَانِ مَقَالِهِ وَلِسَانِ حَالِهِ مَعًا فَإِنَّهُ يَسْتَجِيبُ لَهُ بِلَا شَكٍّ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَّا حَرَكَةَ اللِّسَانِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَحْكَامِ وَتَنَكُّبِ السُّنَنِ فَهُوَ بِدُعَائِهِ كَالسَّاخِرِ مِنْ رَبِّهِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا مَقْتَهُ وَخُذْلَانَهُ، فَإِذَا كَانَ سبحانه قَدْ بَيَّنَ لَنَا سَبَبَ الْمَغْفِرَةِ وَالْعَفْوِ، وَهَدَانَا إِلَى طُرُقِ الْغَلَبَةِ وَالنَّصْرِ، فَأَعْرَضْنَا عَنْ هِدَايَتِهِ، وَتَنَكَّبْنَا سُنَنَهُ فِي خَلِيقَتِهِ، ثُمَّ طَلَبْنَا مِنْهُ ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِنَا دُونَ قُلُوبِنَا وَجَوَارِحِنَا، أَفَلَا نَكُونُ نَحْنُ الْجَانِينَ عَلَى أَنْفُسِنَا؟ وَتَوَقُّفُ الدُّعَاءِ عَلَى الْعَمَلِ يَسْتَلْزِمُ تَوَقُّفَهُ عَلَى الْعِلْمِ، فَلَا يَكُونُ الدَّاعِي دَاعِيًا حَقِيقَةً كَمَا يُحِبُّ اللهُ وَيَرْضَى إِلَّا إِذَا كَانَ قَدْ عَرَفَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ وَاتَّبَعْهُ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ. فَإِذَا اتَّخَذَتِ الْأُمَّةُ الْوَسَائِلَ الَّتِي أُمِرَتْ بِهَا وَدَعَتِ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَهَا وَيُتِمَّ لَهَا مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهَا مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَسْتَجِيبُ لَهَا حَتْمًا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا تُغْلَبُ مِنْ قِلَّةٍ. فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى التَّوْفِيقَ وَهِدَايَةَ أَقْوَمِ طَرِيقٍ. اهـ.