فصل: سورة آل عمران:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم




.سورة آل عمران:

.فصول مهمة تتعلق بالسورة الكريمة:

.فصل في تسمية السورة:

.قال في صفوة التفاسير:

سميت السورة بآل عمران لورود ذكر قصة تلك الأسرة الفاضلة آل عمران، وعمران هو والد مريم أم عيسى، وما تجلى فيها من مظاهر القدرة الإلهية، بولادة السيدة مريم البتول وابنها عيسى عليهما السلام. اهـ.

.قال ابن عاشور:

سميت هذه السورة، في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة: سورة آل عمران، ففي صحيح مسلم، عن أبي أمامة: قال سمعت رسول الله يقول: «اقرأوا الزهراوين: البقرة وآل عمران» وفيه عن النواس بن سمعان: قال سمعت النبي يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة تقدمه سورة البقرة وآل عمران» وروى الدارمي في مسنده: أن عثمان بن عفان قال: «من قرأ سورة آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة» وسماها ابن عباس، في حديثه في الصحيح، قال: «بت في بيت رسول الله فنام رسول الله حتى إذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله فقرأ الآيات من آخر سورة آل عمران». ووجه تسميتها بسورة آل عمران أنها ذكرت فيها فضائل آل عمران وهو عمران بن ماتان أبو مريم وآله هم زوجه حنة وأختها زوجة زكريا النبي، وزكريا كافل مريم إذ كان أبوها عمران توفي وتركها حملا فكفلها زوج خالتها. ووصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزهراء في حديث أبي أمامة المتقدم.
وذكر الألوسي أنها تسمى: الأمان، والكنز، والمجادلة، وسورة الاستغفار. ولم أره لغيره، ولعله اقتبس ذلك من أوصاف وصفت بها هذه السورة مما ساقه القرطبي، في المسألة الثالثة والرابعة، من تفسير أول السورة.
وهذه السورة نزلت بالمدينة بالاتفاق، بعد سورة البقرة، فقيل، أنها ثانية لسورة البقرة على أن البقرة أول سورة نزلت بالمدينة، وقيل: نزلت بالمدينة سورة المطففين أولا، ثم البقرة، ثم نزلت سورة آل عمران، ثم نزلت الأنفال في وقعة بدر، وهذا يقتضي: أن سورة آل عمران نزلت قبل وقعة بدر، للاتفاق على أن الأنفال نزلت في وقعة بدر، ويبعد ذلك أن سورة آل عمران اشتملت على التذكير بنصر المسلمين يوم بدر، وأن فيها ذكر يوم أحد، ويجوز أن يكون بعضها نزل متأخرا. وذكر الواحدي في أسباب النزول، عن المفسرين: أن أول هذه السورة إلى قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 84] نزل بسبب وفد نجران، وهو وفد السيد والعاقب، أي سنة اثنين من الهجرة، ومن العلماء من قالوا: نزلت سورة آل عمران بعد سورة الأنفال، وكان نزولها في وقعة أحد، أي شوال سنة ثلاث، وهذا أقرب، فقد أتفق المفسرون على أن قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] أنه قتال يوم أحد. وكذلك قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] فإنه مشير إلى الإرجاف يوم أحد بقتل النبي صلى الله عليه وسلم.
ويجوز أن يكون أولها نزل بعد البقرة إلى نهاية ما يشير إلى حديث وفد نجران، وذلك مقدار ثمانين آية من أولها إلى قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران: 121] قاله القرطبي في أول السورة، وفي تفسير قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} [آل عمران: 79] الآية. وقد تقدم القول في صدر سورة الفاتحة: إننا بينا إمكان تقارن نزول السور عدة في مدة واحدة، فليس معنى قولهم: نزلت سورة كذا بعد سورة كذا، مرادا منه أن المعدودة نازلة بعد أخرى أنها ابتدئ نزولها بعد نزول الأخرى، بل المراد أنها ابتدئ نزولها بعد ابتداء نزول التي سبقتها.
وقد عدت هذه السورة الثامنة والأربعين في عداد سور القرآن. وعدد آيها مائتان في عد الجمهور وعددها عند أهل العدد بالشام مائة وتسع وتسعون.
واشتملت هذه السورة، من الأغراض: على الابتداء بالتنويه بالقرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وتقسيم آيات القرآن، ومراتب الأفهام في تلقيها، والتنويه بفضيلة الإسلام وأنه لا يعدله دين، وأنه لا يقبل دين عند الله، بعد ظهور الإسلام، غير الإسلام، والتنويه بالتوراة والإنجيل، والإيماء إلى أنهما أنزلا قبل القرآن، تمهيدا لهذا الدين فلا يحق للناس أن يكفروا به، وعلى التعريف بدلائل إلهية الله تعالى، وانفراده، وإبطال ضلالة الذين اتخذوا آلهة من دون الله: من جعلوا له شركاء، أو اتخذوا له أبناء، وتهديد المشركين بأن أمرهم إلى زوال، وألا يغرهم ما هم فيه من البذخ، وأن ما أعد للمؤمنين خير من ذلك، وتهديدهم بزوال سلطانهم، ثم الثناء على عيسى عليه السلام وآل بيته، وذكر معجزة ظهوره، وأنه مخلوق لله، وذكر الذين آمنوا به حقا، وإبطال إلهية عيسى، ومن ثم أفضى إلى قضية وفد نجران ولجاجتهم، ثم محاجة أهل الكتابين في حقيقة الحنفية وأنهم بعداء عنها، وما أخذ الله من العهد على الرسل كلهم: أن يؤمنوا بالرسول الخاتم، وأن الله جعل الكعبة أول بيت وضع للناس، وقد أعاد إليه الدين الحنيف كما ابتدأه فيه، وأوجب حجه على المؤمنين، وأظهر ضلالات اليهود، وسوء مقالتهم، وافترائهم في دينهم وكتمانهم ما أنزل إليهم. وذكر المسلمين بنعمته عليهم بدين الإسلام، وأمرهم بالاتحاد والوفاق، وذكرهم بسابق سوء حالهم في الجاهلية، وهون عليهم تظاهر معانديهم من أهل الكتاب والمشركين، وذكرهم بالحذر من كيدهم وكيد الذين أظهروا الإسلام ثم عادوا إلى الكفر فكانوا مثلا لتمييز الخبيث من الطيب، وأمرهم بالاعتزاز بأنفسهم، والصبر على تلقي الشدائد، والبلاء، وأذى العدو، ووعدهم على ذلك بالنصر والتأييد وإلقاء الرعب منهم في نفوس عدوهم، ثم ذكرهم بيوم أحد، ويوم بدر، وضرب لهم الأمثال بما حصل فيهما، ونوه، بشأن الشهداء من المسلمين، وأمر المسلمين بفضائل الأعمال: من بذل المال في مواساة الأمة، والإحسان، وفضائل الأعمال، وترك البخل، ومذمة الربا وختمت السورة بآيات التفكير في ملكوت الله.
وقد علمت أن سبب نزول هذه السورة قضية وفد نجران من بلاد اليمن. ووفد نجران هم قوم من نجران بلغهم مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أهل نجران متدينين بالنصرانية، وهم من أصدق العرب تمسكا بدين المسيح، وفيهم رهبان مشاهير، وقد أقاموا للمسيحية كعبة ببلادهم هي التي أشار إليها الأعشى حين مدحهم بقوله:
فكعبة نجران حتم عليك ** حتى تناخي بأبوابها

فاجتمع وفد منهم يرأسه العاقب فيه ستون رجلا وأسمه عبد المسيح، وهو أمير الوفد، ومعه السيد واسمه الأيهم، وهو ثمال القوم وولي تدبير الوفد، ومشيره وذو الرأي فيه، وفيهم أبو حارثة بن علقمة البكري وهو أسقفهم وصاحب مدارسهم وولي دينهم، وفيهم أخو أبي حارثة، ولم يكن من أهل نجران، ولكنه كان ذا رتبة: شرفه ملوك الروم ومولوه. فلقوا النبي صلى الله عليه وسلم، وجادلهم في دينهم، وفي شأن إلوهية المسيح، فلما قامت الحجة عليهم أصروا على كفرهم وكابروا، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، فأجابوا ثم استعظموا ذلك، وتخلصوا منه، ورجعوا إلى أوطانهم، ونزلت بضع وثمانون آية من أول هذه السورة في شأنهم كما في سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق. وذكر ذلك الواحدي والفخر، فمن ظن من أهل السير أن وفد نجران وفدوا في سنة تسع فقد وهم وهما انجر إليه من اشتهار سنة تسع بأنها سنة الوفود. والإجماع على أن سورة آل عمران من أوائل المدنيات، وترجيح أنها نزلت في وفد نجران يعينان أن وفد نجران كان قبل سنة الوفود.
لما كان أول أغراض هذه السورة، الذي نزلت فيه، هو قضية مجادلة نصارى نجران حين وفدوا إلى المدينة، وبيان فضل الإسلام على النصرانية، لا جرم افتتحت بحروف التهجي، المرموز لها إلى تحدي المكذبين بهذا الكتاب، وكان الحظ الأوفر من التكذيب بالقرآن للمشركين منهم، ثم للنصارى من العرب؛ لأن اليهود الذين سكنوا بلاد العرب فتكلموا بلسانهم لم يكونوا معدودين من أهل اللسان، ويندر فيهم البلغاء بالعربية مثل السموأل، وهذا وما بعده إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} [آل عمران: 33] تمهيد لما نزلت السورة بسببه وبراعة استهلال لذلك. اهـ.

.فصل في التعريف بالسورة:

.قال محمد أبو زهرة:

.بين يدي السورة:

هذه أولى آيات سورة آل عمران، وهى مدنية، وقد سميت بآل عمرأن لاشتمالها على قصتهم؟ إذ قال سبحانه: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين}، إلى آخر كلامه العزيز في تلك العبرة التي ساقها.

.موضوعات السورة:

وإن هذه السورة الكريمة:
(1) فيها تنويه بذكر القرآن وأقسامه، وإشارة إلى محكمه والمتشابه منه، وأقسام الناس في تلقى ذلك الهدى الإلهى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
(2) وفيها قصة آل عمران، وولادة مريم البتول، ويحيى النبى، وعيسى الرسول، وما اكتنف ولادتهم من آيات تدل على كمال إرادة الله تعالى في خلقه.
(3) وفيها إشارات إلى معجزات عيسى عليه السلام، وكفر من دعاهم بعد هذه المعجزات الظاهرة القاطعة، وإن ذلك يدل على أن العناد يضع غشاء على العين فلا تبصر، وعلى البصيرة فلا تدرك.
(4) وفيها مجادلة النبى صلى الله عليه وسلم مع النصارى واليهود، وبيان طائفة من أخلاق اليهود واعتقادهم أن الإيمان احتكار لمذهب، وتغليق القلوب عن غيره؟ إذ قالوا: {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم}- إلى آخر كلامه العزيز في تلك العبرة.
(5) وفيها بيان أن الإسلام في لبه ومعناه هو دين كل الأنبياء السابقين؟ لأنه دين الله السرمدى، سبق بالدعوة إلى حقيقته النبيون، وختم الله الدعوة بخاتم النبيين محمد الأمين.
(6) وفيها بيان فريضة الحج المحكمة وبيان الوحدة الإسلامية، وفى جمعها مع الحج في موضع واحد إشارة إلى أن الحج من وسائلها، وأعقب ذلك ببيان فريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأنها ركن الوحدة الإسلامية ودعامتها، والذريعة لجعل هذه الوحدة على ألسس فاضلة مشتقة من هدى الدين الحكيم.
(7) وفيها بيان واجب قادة المؤمنين من ألا يتخذوا بطانة من غير المؤمنين؟
إذ هم في حقيقة أمرهم لا يألون المؤمنين خبالا ويودون عنتهم، ثم فيها تفصيل محكم لغزوة أحد، وبيان سبب الهزيمة وأعقابها، والعبرة في هذه الغزوة التي كانت فيها هزيمة ولكن لم يكن فيها خذلان، بل كانت العبرة فيها والاعتبار بها باب الفتح المبين. وفى أثناء القصة وختامها بيان حال لقتلى المؤمنين وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
(8) وفيها إشارة إلى أعمال المنافقين في النصر والهزيمة، واتباع ضعاف الإيمان لوسوستهم، وصيانة الله لأقوياء الإيمان من أعمالهم.
(9) ثم فيها عزاء للنبى صلى الله عليه وسلم بذكر ما كذب به الأنبياء السابقون مع أنهم أتوا بالبينات والأدلة الحسية القاطعة إذ قال سبحانه: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير}.
(10) وفيها بيان أن الله سبحانه سيبتلى المؤمنين ويختبرهم، وفى الابتلاء صقل إيمانهم.
(11) وفيها بيان أخلاق المؤمنين وتفكرهم في خلق السموات والأرض وما بينهما، وضراعتهم إلى ربهم، واستجابة الله تعالى لهم، وجزاؤهم يوم القيامة، والمقابلة بينه وبين جزاء الكافرين الذين اغتروا بالحياة الدنيا مع أن متاعها قليل، وفيها إنصاف كريم لبعض أهل الكتاب الذين آمنوا وصدقوا ولم يسرفوا على أنفسهم بالإنكار والتكذيب مع قيام الدلائل الواضحة القاطعة.
(2) ثم ختم سبحانه بدعوة المؤمنين إلى مجاهدة المشركين بالتقوى وبالصبر وبإعداد العدة، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}. اهـ.

.قال سيد قطب:

قال رحمه الله:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هذا القرآن هو كتاب هذه الدعوة. هو روحها وباعثها. وهو قوامها وكيانها. وهو حارسها وراعيها. وهو بيانها وترجمانها. وهو دستورها ومنهجها. وهو في النهاية المرجع الذي تستمد منه الدعوة- كما يستمد منه الدعاة- وسائل العمل، ومناهج الحركة، وزاد الطريق..
ولكن ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسنا، ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية، ذات وجود حقيقي؛ ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة؛ ووجهت به حياة إنسانية حقيقية في هذه الأرض؛ وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية وفي رقعة من الأرض كذلك. معركة تموج بالتطورات والانفعالات والاستجابات.
وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن، طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة، لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجه هذا الخلق المسمى بالإنسان، والتي تواجه هذه الأمة المسماة بالمسلمين! بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا حية، ذات كينونة واقعية حية؛ ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيها واقعيا حيا، نشأ عنه وجود، ذو خصائص في حياة الإنسان بصفة عامة، وفي حياة الأمة المسلمة بوجه خاص.
ومعجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقع معين في حياة أمة معينة، في فترة من فترات التاريخ محددة، وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها، ولكنه- مع هذا- يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة، وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة في شؤونها الجارية، وفي صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها، وفي معركتها كذلك في داخل النفس، وفي عالم الضمير، بنفس الحيوية، ونفس الواقعية التي كانت له هناك يومذاك.
ولكي نحصل نحن من القرآن على قوته الفاعلة، وندرك حقيقة ما فيه من الحيوية الكامنة، ونتلقى منه التوجيه المدخر للجماعة المسلمة في كل جيل.. ينبغي أن نستحضر في تصورنا كينونة الجماعة المسلمة الأولى التي خوطبت بهذا القرآن أول مرة.. كينونتها وهي تتحرك في واقع الحياة، وتواجه الأحداث في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها؛ وتتعامل مع أعدائها وأصدقائها؛ وتتصارع مع شهواتها وأهوائها؛ ويتنزل القرآن حينئذ ليواجه هذا كله، ويوجه خطاها في أرض المعركة الكبيرة: مع نفسها التي بين جنبيها، ومع أعدائها المتربصين بها في المدينة وفي مكة وفيما حولهما.. وفيما وراءهما كذلك..
أجل.. يجب أن نعيش مع تلك الجماعة الأولى؛ ونتمثلها في بشريتها الحقيقية، وفي حياتها الواقعية، وفي مشكلاتها الإنسانية؛ ونتأمل قيادة القرآن لها قيادة مباشرة في شؤونها اليومية وفي أهدافها الكلية على السواء؛ ونرى كيف يأخذ القرآن بيدها خطوة خطوة. وهي تعثر وتنهض. وتحيد وتستقيم. وتضعف وتقاوم. وتتألم وتحتمل. وترقى الدرج الصاعد في بطء ومشقة، وفي صبر ومجاهدة، تتجلى فيها كل خصائص الإنسان، وكل ضعف الإنسان، وكل طاقات الإنسان.
ومن ثم نشعر أننا نحن أيضا مخاطبون بالقرآن في مثل ما خوطبت به الجماعة الأولى. وأن بشريتنا التي نراها ونعرفها ونحسها بكل خصائصها، تملك الاستجابة للقرآن، والانتفاع بقيادته في ذات الطريق.
إننا بهذه النظرة سنرى القرآن حيا يعمل في حياة الجماعة المسلمة الأولى؛ ويملك أن يعمل في حياتنا نحن أيضا. وسنحس أنه معنا اليوم وغدا. وأنه ليس مجرد تراتيل تعبدية مهومة بعيدة عن واقعنا المحدد، كما أنه ليس تاريخا مضى وانقضى وبطلت فاعليته وتفاعله مع الحياة البشرية.