فصل: مطلب آيات الله في واقعة بدر ومأخذ القياس في الأحكام الشرعية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن هذه الجملة الأخيرة حالية، وفيها على هذه القراءة وفي الوقف على لفظ الجلالة في الجملة قبلها ثناء على الله تعالى بالإيمان بما جاء في كلامه بلا تكييف، وعليه جرى أكثر المفسرين وبه قال ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب والسيدة عائشة وأكثر التابعين وهو الموافق لسياق التنزيل، ووقف بعض القراء على كلمة {العلم} وتابعه بعض المفسرين، إلا أن الوقوف عليها يحتاج إلى كلام آخر ليكون مبتدأ، وفيه ما فيه من تعبير النظم وتبديل المعنى، تأمل.
ويقول أولئك الكاملون العارفون {كُلٌّ} من المحكم والمتشابه منزل: {مِنْ عِنْدِ رَبِّنا} عز وجل ما علمنا منه وما لم نعلم، ويجب علينا الإيمان بهما ويفترض علينا أن نكل علم ما لم نعلم منهما إليه تعالى وتعمل بما علمناه.
روي عن ابن عباس أنه قال تفسير القرآن على أربعة أوجه: الأول تفسير لا يسع أحدا جهله، الثاني تفسير تعرفه العرب بألسنتها، الثالث تفسير تعلمه العلماء بما علمهم الله، الرابع تفسير لا يعلمه إلا الله وهو مما استأثر الله بعلمه.
والراسخون في العلم هم العلماء العاملون بما علموا المتقون فيما بينهم وبين الله، المتواضعون فيما بينهم وبين الناس، الخافضون جناحهم للمتعلمين منهم الزاهدون في الدنيا، المجاهدون أنفسهم في عبادة الله، المخلصون بأعمالهم له، ذوو القلوب الحيّة المتذكرون بما ذكرهم به ربهم {وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الألباب (7)} أمثال هؤلاء الراسخين الذين يقفون عند قولهم آمنا به الملهمين علمهم من الله عز وجل القائلين عند تلاوة المتشابه {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا} عن الهدى كما أزغت قلوب أولئك المفتونين {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا}.
للإيمان بما جاء عنك في كتابك محكمه ومتشابهه بعد أن أرشدتنا لدينك الحق {وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} تثبتا بها على ذلك {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} كثير العطاء، اسم مبالغة من الواهب بلا أمل عوض أو قضاء غرض، وهذا هو معنى الهبة الحقيقية، ولما كانت القلوب محلا للخواطر والإرادات والنيات وهي مقدمات الأفعال وسائر الجوارح تابعة لها، خصها بالذكر، والقائلين أيضا {رَبَّنا أنك جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} يوم البعث والفصل الذي ينكره عمه القلوب.
والوعد في هذا اليوم الذي تجتمع فيه الخلائق بعد فنائها هو وعد حق {إِنَّ الله لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)} كما يحقق وعده في كل ما ذكره في كتابه وعلى لسان رسوله، فمن سبقت له السعادة في علمه هدي للأخذ بما أنزل الله فيحيا، ومن سبقت له الشقاوة زاغ قلبه فمال إلى التأول فوقه في الشك فهلك.
وبعد أن بين الله تعالى في هذه الآيات التسع انفراده بالوهيته وبالحياة الأبدية واستحقاقه للعبادة وأنه هو الواضع للشرائع بما أنزل من الكتب على لسان الرسل، وانه واهب الحياة لكل حي، والعقل لكل عاقل ومنظم السنن للخلق، وجاعل الآيات عبرة لذوي العقول، وأنه يمهل الظالمين ليرجعوا إليه، وإن أصروا فلا يهملهم من عذابه لعدم اعتقادهم بما أوجبه عليهم من الأخذ بالكتب والطاعة للرسل، ثم ندد بالنصارى لاتخاذهم عيسى إلها بسبب بعض ما أظهره الله على يده من المعجزات، ولم يعلموا أن الله هو الذي منحه إياها لهدايتهم لدينه في زمنه، وأنه هو الذي كونه برحم أمه بلا أب وجعله آية منه لعباده، ليعلموا أن قدرته غير متوقفة على شيء من الأسباب الظاهرة، ثم أنه بين لعباده أن القرآن منه محكم ومتشابه ليتفاوت الخلق في معرفته، وليعلموا من مغزاها وجوب الأخذ بظاهر المتشابه، لأن التأويل تحكم في مراد الله وهو مذموم عنده، ومن مقتضى الرسوخ بالعلم التصديق بظاهر ما أخبر الله كما يليق بجلاله لا كما تدركه عقولهم من الأمور المحسوسة، لأن أمور الله غير محدودة، وإدراك البشر محدود، والمحدود لا يحيط بغير المحدود، فالاعتراف بالعجز عما لا يدرك والسكوت عن السؤال فيه سدّ لسد مداخل الشيطان إلى الإنسان بما يؤدي لوضع الشك في القلب، والأحسن لقليل العلم أن يكف عن التفكير في هذا ويتركه لأهل المعرفة الراسخين في العلم، لأن قلوب العارفين لها عيون، ترى ما لا يراه الناظرون.
ثم شرع في بيان حال الكافرين عنده فقال جل جلاله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ الله شَيْئًا} في الآخرة لأنهم تفكهوا في الدنيا وأخذوا لذتهم منها، فجاءوا للآخرة بلا عمل صالح {وَأُولئِكَ} الكافرون بالله ورسله الذين ابتاعوا الآخرة بالدنيا والرحمة بالعذاب {هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)} ليس لهم عند الله ما يدفع عنهم عذابها، فدأبهم التكذيب والجحود {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} مع السيد موسى عليه السلام {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} مع رسلهم {كَذَّبُوا بِآياتِنا} التي أنزلناها لهم على أيدي رسلهم كما كذب أولئك {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} وأهلكهم بتكذيبهم {وَالله شَدِيدُ الْعِقابِ (11)} إذا عاقب وتفيد هاتان الآيتان أن الإنسان مهما أوتي من قوة مالية أو بدنية لا يقدر أن يقاوم قدرة الله، وأن الكفر بآياته سبب لنقم الدنيا والآخرة، فعلى العاقل أن يعتبر بمصير الأمم السالفة ويركن للأخذ بما جاءه على لسان رسل ربه كي ينجو مما حلّ بالمخالفين، فيا سيد الرسل {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} من قومك المحدّين لك {سَتُغْلَبُونَ} في هذه الدنيا حتما مهما كنتم عليه من قوة، ثم تقتلون وتموتون {وَتُحْشَرُونَ} في الآخرة فتحاسبون على كفركم ثم تساقون {إِلى جَهَنَّمَ} لتجاوزا على كفركم {وَبِئْسَ الْمِهادُ (12)} مهاد جهنم.

.مطلب آيات الله في واقعة بدر ومأخذ القياس في الأحكام الشرعية:

وأن الله خلق الملاذ إلى عباده ليشكروه عليها ويعبدوه:
قال ابن عباس وغيره: لما أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر ورجع إلى المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما أنزل بقريش وأسلموا له، فقد عرفتم أني نبي مرسل في كتابكم، فقالوا أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب، فلو قاتلناك لعرفتنا، فأنزل الله تلك الآية وهذه {قَدْ كانَ لَكُمْ} أيها اليهود عبرة {آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا} في بدر {فِئَةٌ} قليلة مؤمنة {تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ الله} يعني حضرة الرسول وأصحابه {وَأُخْرى} فئة كثيرة {كافِرَةٌ} يعني كفار قريش {يَرَوْنَهُمْ} أي الفئة الكافرة ترى المؤمنة {مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} خلالهم فيكونون ثلاثه أمثالهم، والحال أنهم دونهم لأن المؤمنين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، والكافرون ألفا، فالقول بأنهم ثلاثة أمثالهم أوفق للمعنى، وهذا على حد قول من عنده دراهم فيقول أنا محتاج لمثليه أي ما عداه ليكون ثلاثة، فتكون هذه آية أخرى وحضور الملائكة آية ثالثة {وَالله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ} من عباده {إِنَّ فِي ذلِكَ} الغلب الواقع من القليل للكثير وتكثير القليل وتقليل الكثير بالنظر {لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)} وعظة عظيمة لأولي البصائر، فالذين لا ينتفعون ببصرهم ولا ببصائرهم يخذلون ويهلكون.
يفهم من هذا أن النصرة بالقوة المعنوية أكثر منه بالقوة المادية، وأن الله يكتبه لمن يشاء بقطع النظر عن العدد والعدد، وأن الثقة بالله تولد القوة في القلوب، وبسببها يكون الظفر، ويستدل منها على وجوب الاتعاظ بالحوادث وقياسها على الوقائع.
ومن هذه الآية والآية الثانية من سورة الحشر الآتية أخذ العلماء القياس في الأحكام الشرعية كما أشرنا إليه في الآية 35 من سورة الإسراء، وذلك لأن الاعتبار رد الشيء إلى نظيره وقياسه عليه.
قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} المعلمة بالغرّة والتجميل الحسان الراعية بنفسها {وَالْأَنْعامِ} من الإبل والغنم وغيرها {وَالْحَرْثِ} يدخل فيه جميع الزروع والأشجار {ذلِكَ} المذكور من أصناف الزينة هو {مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا} الواطية السافلة الفانية بما فيها {وَالله عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} في الآخرة التي فيها من أسباب الزينة ما هو ثابت لا يبيد، ولم ير مثله في الدنيا إلا من حيث الاسم، وان هذا التزيين في الحقيقة من عند الله تعالى، فمنهم من يسوقه تزيينه إلى الشقاء، ومنهم إلى السعادة، كما هو مدون في أزله، لأن الله تعالى هو الفاعل الخالق لأفعال العباد كلها، راجع الآية 61 من البقرة المارة والمحالّ التي ترشدك إليها تعلم أن الله تعالى خلق هذه الملاذّ وغيرها لعباده كي يشكروه ويعبدوه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}. الآية 29 من البقرة، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ} الآية 32 من سورة الأعراف
لا ليكفروا به ويجحدوا نعمه، وإنما قسم النساء في هذه الآية لأنهن أصل الملاذ الدنيوية، وما بعدهن من تتمة الشهوات التي يميل إليها الطبع البشري في الدنيا، ولهذا جاءت مرتبة على فطرتهم لما فيها من التباهي والتفاخر والتعالي، وقد جاءت هذه الآية بعد ما بيّنه الله تعالى في الآيات قبلها مما يحدثه في قلوب المجاهدين من الثبات وعدم المبالاة بكثرة عددهم وعددهم ووجوب الثقة بالله أعقبها بذكر ما من شأنه أن يثبط الهمم ويحول دون تسابق الناس في ميدان الجهاد، فذكر فيها أن الانهماك في هذه الشهوات يضعف محبة الله في القلب، ويثبط عن الإقدام في سبيل الله فعلى العاقل أن لا يندفع وراءها، لأنها مهما كانت فهي فانية، وأن يشغل نفسه بما يؤدي لطاعة الله ورسوله.
قال تعالى يا سيد الرسل {قُلْ} لهؤلاء اللاهين في زحارف الدنيا {أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ} المذكور كله الذي سيكون {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ} في الآخرة هو {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ} حسان فيها مقصورة لا يراهن غيرهم ولا يرون غيرهن {وَرِضْوانٌ مِنَ الله وَالله بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15)} يؤثر ما عنده من العطاء الخلد لمن يؤثر الآخرة على الدنيا، وقد حث الله تعالى على ترك الشهوات الدنيوية لأنها فانية وقد تؤدي بصاحبها إلى الخسران في الآخرة، ورغب بما عنده من النعيم الباقي ليعملوا بما يؤملهم إليه.
وهذه الآية تدل على أن الله تعالى هيأ لعباده المتقين جزاء ما قدمت أيديهم من الخير، وعلى مخالفة ما تشتهيه أنفسهم الطّماحة، ثم وصفهم بقوله: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16)} وهؤلاء المتحققون بتلك النعم النفيسة قد خص منهم {الصَّابِرِينَ} على البلاء {وَالصَّادِقِينَ} بما يقولون ويفعلون لذوي الحاجات وأرحامهم {وَالْقانِتِينَ} لربهم المتهجدين بالليالي {وَالْمُنْفِقِينَ} من أموالهم على الأصناف الثمانية المذكورين في الآية 60 من سورة براءة الآتية {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ} لذنوبهم آناء الليل وأطراف النهار وخاصة {بِالْأَسْحارِ (17)}.
ثلث الليل الأخير وإنما خص الاستغفار بها، لأنها أوقات الإجابة للقائمين وأوقات توغل نوم الغافلين.
قال تعالى: {شَهِدَ الله أنه لا إله إلا هو} بأنه الإله المنفرد الخالق المحيي المميت {وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ} شهدوا بما شهد الله ذاته جلت وعظمت، وشهدوا أنهم من جملة خلقه، وأنه هو وحده المدير لشنون الكون، وانه كان ولم يزل {قائِمًا بِالْقِسْطِ} العدل ومتصفا بصفات الكمال {لا إله إلا هو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} في تصرفاته وأفعاله وأحكامه، وبناء على هذه الشهادة الصادرة من الرب الجليل صاحب الإعطاء والمنع يجب على الخلق كافة الاعتراف بتوحيد الرب وتنزيهه عن جميع النقائص.
لما قدم أحبار الشام إلى المدينة قالوا ما أشبه هذه بصفة مدينة النبي الذي يخرج آخر الزمان، ولما دخلوا عليه عرفوه بالصفة الموجودة في كتبهم، فقالوا له أنت محمد؟ قال نعم، قالوا وأنت أحمد؟ قال نعم، قالوا فإنا نسألك عن شيء، فإن أخبرتنا آمنا بك وصدقناك، قال اسألوا، قالوا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله هذه الآية فأسلموا لما رأوا من الحق والصدق فيه وفي وصفه الكامل الشامل.
قال تعالى: {إن الدين عِنْدَ الله الإسلام} راجع الآية 3 من المائدة الآتية {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا} والآية 85 الآتية وهي {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} في نبوة محمد ودينه {إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ} بأن الإسلام هو الدين الحق، فاختلفوا فيه {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} وحبا لبقاء الرياسة فيهم، فقالت اليهود لا دين إلا دين اليهودية، وقالت النصارى لا دين إلا دين النصرانية كما مرّ في الآية 112 من البقرة، فردّ الله عليهم بأن الدين المرضيّ عند الله هو الإسلام {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ الله} ويتخذ إلها من دونه ودينا غير دينه {فَإِنَّ الله سَرِيعُ الْحِسابِ (19)} يحاسب عباده على ما يقع منهم وأنه يجازيهم إن شاء {فَإِنْ حَاجُّوكَ} يا سيد الرسل وجادلوك في الدين وخاصموك من أجله {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} وحده وخص الوجه لشرفه وهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل بالنسبة إلينا، والله منزه عن الجزئية والكلية وعن جميع ما هو من سمات البشر {وَمَنِ اتَّبَعَنِي}.
أسلموا للّه أيضا، ومن هنا يراد معناه الدال على الجمع أي انقادوا بكليتهم للّه وأخلصوا له الدين إخلاصا كاملا {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} من اليهود والنصارى {وَالْأُمِّيِّينَ} من مشركي العرب وغيرهم ممن لا كتاب لهم {أَأَسْلَمْتُمْ} مثل إسلامنا هذا بأن نعبد الله وحده ولا نجعل له ولدا ولا شريكا {فَإِنْ أَسْلَمُوا} وانقادوا للّه مثلكم وخضعوا خضوعكم إلى الدين الحق الثابت في كتبهم والمعترف به عند الشدائد وأسلموا إسلاما حقيقيا {فَقَدِ اهْتَدَوْا} إلى الحق وصاروا مثلكم {وَإِنْ تَوَلَّوْا} عن الإسلام وأعرضوا عنكم ولم يعترفوا بما أوجبه الله فاتركهم {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ} فقط، وقد قمت به وما عليك أن لا يهتدوا، لأن القبول والاهتداء على الله {وَالله بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)} والبصير يعلم بمن يؤمن ومن يصر على كفره.
وهذه الآية محكمة لا منسوخة كما قاله بعض المفسرين، لأنها مسوقة لتسلية حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم ليخفف عن نفسه من شدة حرصه على إسلامهم ويهون من تألمه على إعراضهم، وقد وضح الله لهم الشريعة التي يريد من خلقه السير عليها، وان الأديان السماوية يرجع أساسها إلى دعوة واحدة هي التوحيد للّه، وان الاختلاف وقع من تلاعب الرؤساء في الديانتين اليهودية ولنصرانية بسبب ما أدخلوه من تحريم وتحليل وتغيير وتبديل على حسب أهوائهم، وان من يدعوا الناس إلى الحق فقد قام بواجب الدين ولا يضره عدم الإجابة وإعراض الناس عنه.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ الله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ} من العلماء ولأولياء {مِنَ النَّاسِ} جميعهم أولهم وآخرهم {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21)} عاجل وآجل، كان أنبياء بني إسرائيل بوحي إليهم بإنذار قومهم دون أن يأتيهم كتاب من الله، لأنهم ملزمون بأحكام التوراة، فكانوا يقتلونهم فيقوم رجال ممن آمن بهم فينهونهم ويأمرونهم بالكفّ عنهم، فيقتلونهم أيضا، فأخبر الله نبيه محمدا بما كان منهم ليقصه على يهود المدينة وغيرهم فيعلموا أنه بإخبار الله إياه لعلهم يؤمنون، فلم يتجع بهم {أُولئِكَ الَّذِينَ} هذه صفتهم {حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا} ولعنهم الناس وأخزوهم على فعلهم ذلك فيها {وَالْآخِرَةِ} تحبط فيها لأنهم يحرمون ثوابها بسبب جناياتهم تلك {وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)} يخلصونهم من عذاب الله.
بين الله عز وجل في هذه الآية مصير أولئك الكفرة وما أعده لهم ولمن على شاكلتهم، وذكر فيها شدة نقمته على اليهود لكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء ومحاربتهم لدعوة محمد صلّى الله عليه وسلم، وإن كل من يتصف بإحدى هذه الخصال الثلاث هو كافر لا ينتفع بعمله الحسن، إذ ظهر أنه لم يرد به وجه الله، وتفيد هذه الآية أن محاربة من يدعو إلى الحق تحبط الأعمال كالكفر، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوب من المؤمن حتى في حالة الخوف، لأن الله تعالى مدحهم في هذه الآية وجعل منزلتهم بعد الأنبياء، وقد جاء في الحديث الصحيح أن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.
وقال عمر بن عبد الله: لا نعلم عملا من أعمال البر أفضل ممن قام بالقسط فقتل عليه.
وبعد أن أمر الله رسوله بالإعراض عن الكافرين وأخبره بمصيرهم أراد أن يخفف من تألمه ويقلل من حزنه على عدم قبولهم نصحه وإرشاده فقال جل قوله: {أَلَمْ تَرَ} يا سيد الرسل {إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا} حظا وافرا {مِنَ الْكِتابِ} وهم اليهود {يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} فيما يختلفون فيه من أحكام التوراة.