فصل: مطلب في المباهلة ما هي وعلى أي شيء صالح رسول الله وقد نجوان وحكاية أسير الروم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب في المباهلة ما هي وعلى أي شيء صالح رسول الله وقد نجوان وحكاية أسير الروم:

والمباهلة الملاعنة أي ليدع كل منها ربه بأن يلعن الكاذب في قوله، فقال له وقد نجران انظرنا وقتا مناسبا كي ننظر في الأمر ونتداول بيننا ونرجع إليك، فأمهلهم، فذهبوا إلى مقرهم وتذاكروا بينهم وقالوا فقد عرفنا من هذه الآيات وما تقدمها أنه نبي مرسل، وأنا إن باهلناه هلكنا، فأجمع رأيهم على عدم المباهلة والانصراف إلى بلدهم، فجاءوا إليه من الغد فإذا هو محتضن الحسن والحسين وبيده فاطمة وعلي عليهما السلام خلفه وهو يقول لهم إذا دعوت فأمنوا، فقال لهم أسقفهم يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا لأزاله، والله إن باهلتموه فلا يبقى على وجه الأرض نصراني، فأقدموا عليه وقالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباء لك وتتركنا على ديننا، فقال إن أبيتم فأنا لا اضطركم على المباهلة ولكن أريد منكم أن تسلموا، قالوا لا نسلم، فقال أنا جزكم، قالوا لا طاقة لنا يحربكم ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا ونؤدي لك ألف حلّة في صفر وألف حلة في رجب وثلاثة وثلاثين درعا وثلاثة وثلاثين بعيرا وأربعا وثلاثين فرسا، فرضي منهم وتركهم، لأنه لم يؤمر بقتالهم إذا رضخوا للجزية، ولم يؤمر بحملهم على الإيمان به.
حكي أن بعض العلماء أسر في بلاد الروم فباحثهم في عبادة عيسى عليه السلام، قالوا نعبده لأنه لا أب له، فقال لهم آدم لا أب له ولا أم فهو أولى بالعبادة، قالوا لم يكن آدم يحيي الموتى، فقال إذا حزقيل أولى لأنه أحيا أربعة آلاف (راجع الآية 243 من سورة البقرة المارة لتقف على قصتهم) وعيسى لم يحي إلا أربعة، قالوا لم يكن يبرئ الأكمه والأبرص قال إذا جرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سليما، قالوا لم يرفع إلى السماء، قال فأدريس أولى لأنه رفع قبله، فلم يعتبروا، ومن يضلل الله فما له من هاد.
قال تعالى: {إِنَّ هذا} الذي قصصنا عليك يا سيد الرسل {لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} الذي لا مرية فيه {وَما مِنْ إِلهٍ} يستحق العبادة في الكون كله {إِلَّا الله} لا عيسى ولا عزير ولا الملائكة ولا غيرهم كما يزعم أهل الكتاب وبعض المشركين العرب وغيرهم، وما ذلك إلا نقص في عقولهم، وخاصة الأصنام فلا يعبدها من فيه ذرة من عقل لأنها معرضة للهوان والذل، ومحتاجة إلى الحفظ من عابديها {وَإِنَّ الله لَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب العظيم {الْحَكِيمُ (62)} البالغ في الحكمة الذي لا رب غيره {فَإِنْ تَوَلَّوْا} عنك وفد نجران وغيرهم ولم يقبلوا نصحك وإرشادك بعد ما تبين لهم الحق فهم قوم ميالون للفساد فأعرض عنهم {فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)} لا يخفى عليه شيء من أحوالهم، فيا سيد الرسل أدعهم أولا إلى المساواة معك بأن {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا الله وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضًا أَرْبابًا مِنْ دُونِ الله} لعلهم يؤمنون بك وينقادون لأمرك {فَإِنْ تَوَلَّوْا} بعد هذا أيضا وأعرضوا عن الإجابة بعد أن سويتهم بنفسك {فَقُولُوا} لهم أنت وأصحابك {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} للّه وحده ومنقادون لأمره وأنتم وشأنكم.
كررت هذه الآية المبدوءة بنا أهل الكتاب ست مرات في القرآن العظيم، هذه والآيتان الآتيتان 69 و70 وفي الآية 170 من سورة النساء وفي الآيتين 16 و21 من سورة المائدة الآتيتين.
ثم ان وفد نجران تلاحى مع اليهود لقولهم إن إبراهيم كان نصرانيا بسبب قولهم أنه كان يهوديا وكل منهم يحتج بكتابه لذكره فيه فأكذبهم الله بقوله: {يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ} وتتخاصمون من أجله {وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ} التي تدينون بها أيها اليهود {وَالْإِنْجِيلُ} الذي تدينون به أيها النصارى {إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} فكيف تدعون أنه كان من أحدكم ولم تحدث اليهودية ولا النصرانية إلا من بعده، فكلاكما مبطل في دعواه لأن المدة الطويلة الكائنة بين إبراهيم ونزول الكتابين إليكم دليل قاطع على كذبكم، وأن مجرد ذكره فيهما لا يدل على أنه كان يهوديا أو نصرانيا أو أنه كان يدين بهما بل كان يتعبد بما ألهمه الله وبما أنزل عليه من الصحف وبالصحف المنزلة قبله على آدم وشيث فمن بعدهما {أَفَلا تَعْقِلُونَ} (65) هذا فتتنازعون فيه {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} من كتبكم من أمر موسى وعيسى، ولا مانع من ذلك لأن لكم فيه بعض العلم بما هو موجود في كتبكم {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} من أمر إبراهيم الذي أغفله كتاب كل منكم ولم تعلموا من أمره على ما هو عليه شيئا فاتركوا هذا ولا تخوضوا بشيء لا تعلمونه {وَالله يَعْلَمُ} ما كان عليه إبراهيم من الدين وقد أخبر به رسوله {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66)} شيئا عنه، ثم إن الله تعالى أعلمهم بأنه بريء ومنزه مما قالوا فقال: {ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا} يوما من الأيام كما زعمتم {وَلكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا}.
كما أخبركم محمد {وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)} قط كما زعم مشركو العرب من أهل مكة وغيرهم، وقولهم إنا أولاد إبراهيم لا يعني أنه كان على ما هم عليه تنزه وتبرأ منه، وإنما يعنون أنهم أولاد إسماعيل من جهة النسب فقط.
تفيد هذه الآية إثبات دعوى المسلمين بأن إبراهيم كان مسلما لذكره في القرآن ومنع اليهود والنصارى من ادعائهما كونه كان منهما لعدم ذكره في كتبهم، فالمكابرة بعد هذا النص القاطع لا قيمة لها ومن العبث أن يبحث في أمر محكوم ببطلانه، لأن أصدق أنباء التاريخ ما جاء بالوحي المقدس، وأن الانتساب إلى إبراهيم يوجب اتباع شريعته، وإلا فهو زور يجب الانكفاف عنه، ولهذا لما أثار أهل الكتابين دعوة الانتساب إلى إبراهيم وكان المشركون قبلهم ادعوا هذه الدعوة فأنزل الله ما يكذبهم كلهم ويصدق دعوى المسلمين بقوله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} في زمانه وماتوا على دينه {وَهذَا النَّبِيُّ} حفيده محمد الذي اقتفى أثره في العبادة قبل نزول الوحي إليه {وَالَّذِينَ آمَنُوا} به بعد نبوته ورسالته من أمته أيضا هم أولى بإبراهيم من اليهود والنصارى والمشركين المخالفين لدينه ودين حفيده {وَالله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} أجمع الذين يخلصون إيمانهم وأعمالهم، ومن كان الله وليه فقد فاز، وعليهم أن لا يتوجهوا بحاجاتهم في الدنيا والآخرة إلا إليه وهو أولى بإجابتهم فيها، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
أخرج الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن لكل نبي ولاة من المؤمنين، وان وليّي أبي وخليل ربي إبراهيم، ثم تلا هذه الآية.
ورواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
قال تعالى: {وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} عن الإسلام، أي أنهم لم يقتصروا على عدولهم عن الحق وإعراضهم عن قبول الحجة بل أحبوا إضلالكم أيضا {وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} لرسوخ الإيمان بالمؤمنين {وَما يَشْعُرُونَ 69} أن هذا وبال عليهم لما فيه من الإثم فوق ما هم عليه من الوبال {يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)} أنها مصدقة لما في كتبكم وتعترفون أنها حق إذا تركتم التعسف ورجعتم إلى الإنصاف {يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ (21)}.
الذي تكتبونه بما يخالف ما أنزل الله عليكم وتغيرون به كلام ربكم {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} الذي فيها {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)} أنه محرم عليكم، ذلك لأن طمر الحق ووضع الباطل محله كفر في جميع الكتب السماوية {وَقالَتْ طائِفَةٌ} أخرى من هؤلاء اليهود المعدودين {مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا} أظهروا الإيمان {بِالَّذِي} بالكتاب الذي {أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} بمحمد {وَجْهَ النَّهارِ} أوله وحينما تواجهون المؤمنين به {وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} وهذا يدل على أن استعمال كلمة وجه بمعنى الأول، وعليه قول الربيع بن زياد:
من كان مسرورا بمقتل مالك ** فليأت نسوتنا بوجه نهار

وقيل في الوجه نفسه:
وما الوجه إلا واحد غير أنه ** إذا أنت عودت المزايا تعودا

{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (72) عن دينهم لقد تفنن اليهود بالتلبيس لأنهم من جند إبليس فقد استجروا أولا معاذ بن جبل وحذيفة اليمان وعمار بن ياسر وجما وحببوا لهم دينهم وترك الإسلام فنزلت فيهم الآية المتقدمة قبل هذه فلم يتجحوا ثم صاروا يحرفون الكتب الإلهية ويغيرون ما فيها من نعت الرسول والبشارة والأمر باتباعه كما فعلوا زمن عيسى، فلم يفلحوا، ثم اخترعوا هذه الطريقة الثالثة فتواطأ منهم اثنا عشر رجلا من أحبارهم بأن يؤمنوا بمحمد بادئ الرأي، يكفروا به، ليبينوا للناس أنه تبين لهم أنه على غير الحق وأنه غير النبي المبعوث آخر الزمان المخبر عنه في كتابهم، ليشككوا الناس فيه، فنزلت هذه الآية فيه ليخبر حضرة الرسول أصحابه بما دبروه من الكيد والحيل ليكونوا على بصيرة أمرهم.
تشير هذه الآية إلى أن اليهود دأبهم إضمار الشر للمسلمين، فيجب أن يحذروا من مكايدهم لأنهم جبلوا على السوء، وأنهم لا يحسنون ظنهم بمن هو ليس على دينهم، وإلى هنا انتهى قول اليهود والذي حكاه الله عنهم.
ثم التفت يخاطب المؤمنين بعد أن بين لهم مطويات اليهود الخبثاء، فقال: {وَلا تُؤْمِنُوا} أيها المؤمنون {إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} وانقاد لأوامر شريعتكم، لأن النصير واجبة لبعضكم على بعض، وإياكم أن تركنوا لأقوال أهل الكتاب، فإنهم لا يودّوكم إلا ظاهرا، وإنهم يبطنون لكم الشر، وإياكم والميل إليهم، وعليكم أن تتناصحوا بينكم وتتصادقوا، فالمؤمن أخو المؤمن لا يكذبه ولا يحقره ولا يسلمه في كل حال مهما استطاع.
وأعرضوا بكلكم عن خلط أهل الكتاب وخاصة اليهود فإنهم أهل بهت يريدون أن يوقعوا الشك في دينكم، وليس بنافعهم ذلك، ولم يزدهم إلا فضيحة وضلالا، ويزيد المؤمنين تصديقا ويقينا، فلا تقبلوا نصيحة ما إلا من أهل دينكم، وإن هؤلاء الأحبار وغيرهم يقصدون إضلالكم لتكونوا مثلهم، فالحذر كل الحذر منهم.
ثم التفت إلى رسوله فقال: {قُلْ} يا سيد الرسل إلى قومك وغيرهم {إِنَّ الْهُدى} الذي جئتكم به وأدعوكم إليه أيها الناس هو {هُدَى الله} فتمسكوا به فهو الذي يقيكم من مكايدهم وان كل ما يأتون به من خدع وتلبيس لا يؤثر فيكم أيها المؤمنون ما دمتم متمسكين بهدى الله، لأن المؤمن المخلص لا يصده صادّ عن دينه، ولا تصدقوا أبدا {أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ} من الكتاب والهدى والدين، واعلموا أنه لا نبي بعد نبيكم، ولا شريعة بعد شريعتكم إلى يوم القيامة، ولا تصدقوا أقوال اليهود بأنهم يخاصمونكم {أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} بأن دينهم هو الواجب التقيد به، كلا فإن دينكم خير الأديان وقد جعله الله ناسخا لما تقدمه مما يخالفه، فلا يقدرون على محاجتكم في هذا لأنكم أحق منهم وأهدى.
وقد جاءت جملة إن الهدى اعتراضية لتأكيد أحقية دين الإسلام وتعجيل المسرة بالنتيجة.
ويا سيد الرسل {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ} من عباده إنعاما منه {وَالله واسِعٌ} على من يريد أن يوسع عليه، لأن خزانته لا تنفد، وعطاءه غير محدود، وهو {عَلِيمٌ (73)} بمن يؤهله لعطائه ويفضله على غيره ويوسع عليه برحمته.
وهذا الذي جرينا عليه في تفسير هذه الآية على رأي بعض المفسرين أولى من غيره وأحسن بالمقام.
وقال أكثر المفسرين إن الخطاب في هذه الآية لليهود من تتمة ما حكاه الله عنهم، وعليه يكون المعنى لا تصدقوا أيها اليهود إلا لمن يتبع دينكم من ملتكم، لأن أحدا لم يؤت مثل ما أوتيتم من التوراة التي فيها العلم والحكمة والآيات التي أظهرها الله على يد رسولكم موسى، ولا تصدقوا أن الإسلام يخاصمونكم عند الله كما يقوله محمد، لأن دينكم أقدم الأديان وأصحها {إِنَّ الْهُدى} إلخ اعتراضية أيضا، وقد أتى بها بمعنى أن الذي أنتم عليه إنما صار دينا بحكم الله وهو الهدي الذي هدى الناس إليه وأمر باتباعه، فإذا أمر باتباع دين غيره وجب الانقياد إليه إذعانا لحكمه ولكنه لم يأمر.
وقال بعض المفسرين انتهى ما حكاه الله عن اليهود عند قوله: {إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} وما بعد خطاب لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم، وعليه تتجه قراءة الحسن والأعمش {أَنْ يُؤْتى} بكسر الهمزة (من إن) وما جرينا عليه أولى لسلامة الآية عن التبعيض ولمناسبتها لسياق ما بعدها وكون التفضيل المنبئة عنه هذه الآية أولى بأن يعزى لسيد الأنبياء وسيد الكتب وخير الأمم.
وهذه الآية من أصعب آيات القرآن تفسيرا بعد سورة البينة، والآية 108 من المائدة الآتيتين، هذا والله أعلم، وهو الذي {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ} من خلقه {وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)} الذي لا يوازيه فضل.
تشير هذه الآية إلى أن فضل الله ورحمته لا يتقدان بسبب ولا علة وان من هداه الله لحقه عن يقين لن يرجع عن هداه بترهات المبطلين، وان التذبذب في الإنسان دليل على عدم صحة عقيدته.
قال تعالى مبينا شأن أولئك الظالمين {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} عند ما تطلبه منه دون مماطلة أو جحود تقيّدا بما أمرهم الله به من أداء الأمانة {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا} بالمطالبة والإلحاح {ذلِكَ} عدم أدائه الأمانة ناشئ عن استحلال مال من لم يكن على دينهم خلافا لدينهم {بأنهمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} أي ليس عليهم إثم في أكل أموال الأميين أمة محمد لأنهم على غير دينهم ويعزون هذا إلى التوراة، فكذّبهم الله بقوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ} بنسبة ما لم يذكره في كتابهم إليه {وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} أنه كذب، والواو هنا حالية أي يقولون ذلك والحال أنهم يعلمون خلافه وعدم صحته.
قالوا نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام إذ أودع عنده رجل من قريش قبل إسلامه ألفا ومئتي أوفية من ذهب فأداها إليه حال طلبه والشق الأخير منها في فنخاص ابن عازوراء إذ استودعه رجل من العرب دينارا واحدا فجحده ولم يؤده إليه إلا بعد مخاصمة وبيّنة.
وهي عامة في كل من هذا شأنه من الطرفين، وقد بينا ما يتعلق بحق الأمانة أول سورة المؤمنين.
قال تعالى: {بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ} الذي عاهد عليه ربه في التوراة الذي من جملته لزوم أداء الأمانة إلى أي كان {وَاتَّقى} الخيانة فيها والمماطلة بدفعها إذ عليه أن يؤدي ما ائتمن عليه لأنه من الوفاء المأمور به، والتقوى التي هي أساس الدين {فَإِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)} روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} قلله الله تعالى لأنه مهما كان كثيرا فهو قليل بالنسبة لما ينجم عنه، لأن فيه أكل مال الغير بغير حقه وهو عظيم عند الله تعالى لأنه أعظم من أكله أموال الناس بالباطل، راجع الآيتين 188/ 282 من سورة البقرة المارة، والآيتين 28/ 72 من سورة الأحزاب الآتية، ولهذا قد وجه الله تعالى إلى أمثال هؤلاء الذمّ والمهانة في الدنيا، وأكبر لهم العقاب في الآخرة بقوله: {أُولئِكَ} الذين هذا شأنهم في خيانة الأمانة وبيع آيات الله بالثمن البخس وكتم ما أنزل الله فيها وتبديله أو تغييره والحلف كذبا ولا يضعون نصب أعينهم العاقبة الوخيمة ولا يتخيّلون ما رتب الله عليهم من العذاب {لا خَلاقَ} حظ ولا نصيب {لَهُمْ فِي} منافع ونعيم وفضل {الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ الله} بما يسرّهم فيها {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} نظر رحمة وعطف {يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} من أدران الذنوب وأوساخ العيوب {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 77} لا تطيقه قواهم.
يدخل في هذه الآية رؤساء اليهود كأبي رافع ولبابة أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأضرابهم الذين اعتادوا هذه الأفعال القبيحة تجاه ما يأخذونه من رعاعهم.