فصل: مطلب في الحلف الكاذب والمانّ بما أعطى والمسبل إزاره وخلف الوعد ونقض العهد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب في الحلف الكاذب والمانّ بما أعطى والمسبل إزاره وخلف الوعد ونقض العهد:

روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن منصور أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان.
قال عبد الله ثم قرأ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله تعالى هذه الآية.
ولفظ المسلم هنا ليس بقيد ولا شرط في هذا الحديث والذي بعده لأن اللفظ عام فيشمل هذا الحديث كل أحد.
ورويا عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط ليوقع رجلا من المسلمين فنزلت هذه الآية.
وعهد الله يشمل جميع العهود والمواثيق والوعود سواء كانت بين الرجل وربه أو بين الرجل وغيره، راجع الآية 34 من الإسراء فيما يتعلق بالعهود والمعاهدات.
ورويا عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها حق امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماله فيقول الله له اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك.
وروى مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال فقرأها ثلاث مرات، قلت خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال المسبل (أي إزاره) والمان (أي فيما أعطى) والمنفق سلعته بالحلف الكاذب.
وللنسائى المانّ بما أعطى والمسيل إزاره، إلخ.
وروى مسلم عن أبي أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب النار، فقالوا يا رسول الله وإن كان شيئا يسيرا؟ قال وإن كان قضيبا من أراك وكلمة بعد العصر في الحديث السابق مثل كلمة المسلم في غيره ليست بقيد ولا شر فسواء كانت اليمين بعد العصر والمحلوف له مسلما أو كانت في أي وقت كان والمحلوف له كتابيا أو مجوسيا فهو يمين يستحق صاحبها الوعيد المذكور.
ولا يخفى أن اليم على نية المحلف لا على نية الحالف، ألا فليتيقظ المتيقظون، ولينتبه الغافلون فإن الله لا يخفى عليه شيء وإنه ينظر إلى نياتكم وقلوبكم.
قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ} اليهود {لَفَرِيقًا يَلْوُونَ} يفتلون ويصرفون {أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ} التوراة عن المعنى المراد فيها إلى غيره وهو ضرب من ضروب التبديل والتحريف لكتاب الله ويفعلون ذلك {لِتَحْسَبُوهُ} أيها الناس وهو محرف مبدل {مِنَ الْكِتابِ} الذي أنزله الله عليهم والله تعالى يقول لكم أنه مغير {وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله} والله يقول لكم أنه مبدل محرف {وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ الله} وكررت هذه الجملة في لفظ متحد لقصد التأكيد وهو مطلوب هنا لاسيما في هذه المواقع لما فيها من نسبة ما لم يكن للحضرة الإلهية {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ} خلافا لما هو في علمه {وَهُمْ يَعْلَمُونَ 78} أنه كذب ليس من الكتاب ولا من عند الله، وكررت الجملة الأخيرة أيضا بعين ما هو في الآية 75 المارة لأنها بصنف غير الصنف المبين فيها لما اجتمع اليهود مع وقد نجران، قال أبو رافع القرظي أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ وقال السيد من وفد نجران أتريد ذلك يا محمد وأن نعبدك كما تعبد اليهود عزيرا وكما تعبد بنو مليح الملائكة؟ قال معاذ الله أن نعبد أو نأمر أو نريد غير عبادة الله وحده ما بذلك بعثت يا قوم ولا أمرني ربي به وليس هو من شأني، فأنزل الله: {ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ الله الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبادًا لِي مِنْ دُونِ الله} أي لا ينبغي هذا لأحد أصلا فضلا عن هذا الصنف الذي هو أبعد الناس عن مثله، لأن هذه النعم التي منّ الله بها عليه تمنعه من ذلك {وَلكِنْ} يقول لهم {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} علماء حكماء تربّون الناس بأخلاقكم وآدابكم الحسنة وتعلمونهم طرق الخير وسلوك سبل الرشاد وتمحضونهم التوحيد وأن لا تنسبوا للحضرة الإلهية ما لا يليق بها، وأن تنزهوه ولا تعزو شيئا مما في هذا الكون إلا إليه وحده {بِما} بسبب ما {كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ} لغيركم {وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} على الغير ممن تقدمكم من أهل العلم، لأنهم لم يولوكم إلا على هذا وأن تقرءوا لمن معكم ولأنفسكم ما أنزل الله لكم حرفيا، ومن هنا جاءت النسبة لأن الرباني هو المنسوب إلى الرب، وزيادة الألف والنون دلالة على كمال هذه الصفة، ومبالغة لاسم الفاعل الذي هو ربان {وَلا يَأْمُرَكُمْ} أيها البشر {أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبابًا} وهذا تنديد في بني مليح ومن تبعهم والصابئين القائلين إن الملائكة بنات الله، واليهود والنصارى القائلين إن عزيرا والمسيح ابنا الله {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ} أيها الناس {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)} وهذا استفهام على طريق التعجب والإنكار وفيها من إلقاء الروعة والمهابة ما فيها لمن كان له قلب أو ألقى السمع.
وفي يأمركم ثلاث لغات: إسكان الراء لعدم توالي الحركات، والنصب بالعطف على يقول، والرفع على الاستئناف المؤيدة بقراءة ولن يأمركم بدل من ولا يأمركم الأولى وهو ما مشيت عليه، لأنه الأظهر لخلوها عن تكلف جعل الأمر بمعنى النهي عند جعل لا غير زائدة عند من يرى ذلك، لأني أرى أن لا زائد في القرآن وأن من يقول نجاء بالحرف الزائد لتحسين الكلام وتقويته وتأكيده يقال له إذا ليس بزائد لأنه أدى معنى لم يكن عند عدمه، وكل ما يجاء به لمعنى فهو غير زائد، ولأن القراءة بالنصب تستدعي صلة لا وجعلها للتأكيد فقط أو جعلها غير زائدة بجعل عدم الأمر في معنى النهي، فيكون معنى أيأمركم ينهاكم، وتستدعي القراءة التقديم على جملة {وَلكِنْ كُونُوا} إلخ تدبر.
يفهم من هذه الآيات أن الأمانة وما يضاهيها لا يثاب عليها المرء إلا إذا راعى فيها خوف الله، وإن أداءها حال طلبها من الخصال الحميدة، وإن جميع الشرائع تحت على أدائها بالمعروف على الوفاء بالعهد والوعد، وإن الخيانة والنكث من الكبائر التي نهى الله ورسوله عنها، وإنما كان أداؤها محمودا لما فيه من الوثوق بالناس ومحافظة حقوقهم، وبضدها عدم الثقة وضياع الحقوق.
وترمي هذه الآيات لعدم الوثوق بأهل الكتاب فيما ينقلونه من أمر الدين، وان اتخاذ الإيمان الكاذبة وسائل لبيع السلع وأخذ مال الغير حرام قطعا.
وتشير أيضا إلى حرمة ما يتفكه به من معارضة الكوثر أعطيناك كلام الله كقولهم بدل إنا أعطيناك كذا، أو أنك أقصر من سورة الكوثر، أو أفرغ من فؤاد أم موسى، وقولهم والسماء والطارق أي لا يملك شيئا من حطام الدنيا على قبيل ضرب المثل، لأن كلام الله لا يجوز أن يدخله الهزل والسخرية وهو منزه منهما، وعدم جواز قراءة شيء منه يقصد به إيهام سامعه أنه من كلام الله على سبيل التفكه أيضا، لأنه يعد من قبيل الانتهاك لحرمته مما قد يؤدي إلى الكفر.
وتفيد الآيتان الأخيرتان إلى أن ما يدعيه أهل الكتاب من أن الأنبياء دعوا الناس إلى عبادتهم أو إلى عبادة الملائكة كذب بحت وباطل محض، يدحضه الشرع وينفيه العقل.
وتفيد أن من أوتي سلطة ما ليس له أن يستعبد الناس أو يسترقهم أو يتعاظم عليهم بها، وأن ليس للبشر أن يحب الأنبياء والصالحين كحب الله ولا يخافهم كخوفه ولا يعظمهم كتعظيمه ولا ينسب إليهم ضرا ولا نفعا مطلقا.
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما} تقرأ بفتح اللام أي من أجل الذي، وبكسرها توطئة للقسم، لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستخلاف، ويكون المعنى وإذا استخلف النبيين للذي {آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ} من الكتب الإلهية، وجواب القسم قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} أي الرسول والمراد به هنا محمد صلّى الله عليه وسلم لما أخرج ابن جرير عن علي كرم الله وجهه قال: لم يبعث الله نبيا، آدم فمن بعده إلا أخذ الله تعالى عليه العهد في محمد صلّى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حيّ ليؤمنن به وليتصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه، ثم تلا هذه الآية.
وإذا كان حكم الأنبياء هكذا فأممهم من باب أولى، لأن العهد مع المتبوع عهد مع التابع حتما {قالَ} تعالى بعد أخذ العهد عليهم {أَأَقْرَرْتُمْ} بهذا الميثاق {وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ} العهد {إِصْرِي} ميثاقي {قالُوا أَقْرَرْنا قالَ} تعالى لهم {فَاشْهَدُوا} على بعضكم في هذا الإقرار {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)} عليه وعلى تشاهدكم على بعضكم، ثم هدد من ينكث ذلك الميثاق بقوله: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ} فأعرض عن هذا الميثاق ونكث عهده وأنكر شهادته ولم يؤمن بهذا الرسول {فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82)} الخارجون عن الإيمان كله هذا عهد النبوة أما عهد الربوبية فقد تقدم في الآية 173 من سورة الأعراف.
ولما تخاصم إلى حضرة الرسول وفد نجران مع اليهود في ادعاء كل منهم دين إبراهيم وقال لهما كل منكما بريء منه، وقالا له لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك وأصر كل منهم على قوله أنزل الله عز وجل: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ} حكما بينهم {وَلَهُ أَسْلَمَ} انقاد وخضع {مَنْ فِي السَّماواتِ} من الملائكة {وَالْأَرْضِ} من الإنس والجن {طَوْعًا} بالنظر والاستدلال والإنصاف من النفس {وَكَرْهًا} بالقوة حال الصحة كنتق الجبل على اليهود أو عند معاينة العذاب كالغرق لآل فرعون، والإشفاء على الموت كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِالله وَحْدَهُ} الآية 84 من سورة المؤمن فرد الله عليهم {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ} في الآية 85 منها {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} في الآخرة فاتركهم يا سيد الرسل و{قُلْ آمَنَّا بِالله وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا} من القرآن.
واعلم أنه لما كان الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسول عدّى ما أنزل في سورة البقرة في الآية 136 المارة بإلى المفيدة للانتهاء، وعدّاه هنا بعلى المفيدة للاستعلاء على المعنيين تارة بإلى وطورا بعلى، وقدم القرأن لانه أشرف الكتب وأجمع لمراد الله فيها {وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ} من الصحف {وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ} من الصحف والوصايا {وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى} من التوراة والإنجيل {وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} من كتب وصحف {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} لأنهم كلهم مرسلون من قبله وأن ما أنزل عليهم من عنده {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)} لا لغيره.
قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} لأنه هو المقبول عنده لا دين غيره البتة {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)} ثواب عمله فكل من يطلب دينا غير الإسلام فقد خسر الدنيا والآخرة.
تدل هذه الآيات على وجوب الإيمان بالرسل كافة، وعلى محاربة الشرك بجميع أنواعه، وأن كل ما يخالف تعاليم دين الإسلام باطل، وأن جميع ما أنزل من عند الله متحد المعنى في أصول الدين، لأن الرسل كلهم جاءوا من عند الله على وتيرة واحدة، وأن الاختلاف في الفروع وقع لمصلحة الأمم بحسب حالهم واختلاف مداركهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأن الإيمان بجميع الكتب الإلهية والعمل بآخرها وهي شريعة الإسلام واجبة على جميع الخلق، لأن التشريع الأخير يلغي ما قبله وهذه سنة الله في خلقه، وعليه جرت عباده إلى الآن وإلى ما بعد حتى يأتي الله بقيام الساعة.
هذا وان حضرة الرسول بعد أن صدع بأمر الله بما أنزل إليه من عنده تمنى لو أن ربه يمن عليه بإيقاع الهدى في قلوب خلقه لينقادوا إليه فيما يأمره وينهاه، فرد الله تعالى على ما وقع في قلبه وهو العالم بذات الصدور بقوله عز قوله: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ} ببعثتك وتوقعهم ظهورك اتباعا لما وجدوه في كتبهم {وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} أي أنك صادق بدعواك الرسالة عند ما ظهرت لهم البشائر بها وانطبقت عليك الصفات المذكورة في كتبهم {وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ} على صدق نبوتك، وإنما ساءهم أنك لست منهم وخافوا أن يحرموا الرياسة فعدلوا عن قبول الهدى الذي جئتهم به فظلموا أنفسهم قصدا {وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)} أنفسهم ببيعهم الآخرة بالدنيا اختيارا، وقد قضت سنة الله أن لا يهدي من يعرض عن الهدى برضاه ولا يهدي إلا ذوي النفوس الطاهرة والنية الخالصة، أما هولاء الذين ألفوا الكبر والإصرار على الكفر فلا سبيل لهدايتهم {أُولئِكَ} الذين هذه صفتهم {جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)} وان مأواهم النار {خالِدِينَ فِيها} مع هذه الفظيعة المفضية للطرد من رحمة الله {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)} يؤخرون عن وقته {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} الارتداد والكفر وندموا على ما وقع منهم وآمنوا وأخلصوا {وَأَصْلَحُوا} عملهم بالتوبة النصوح {فَإِنَّ الله غَفُورٌ} لهم {رَحِيمٌ (89)} بهم وبجميع عباده وخاصة من يتوب ويحسن توبته.
نزلت هذه الآيات في الحارث بن سويد الأنصاري وطعمة بن أبيرق وجموح بن الأسلت ورفقائهم التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة إلى مكة كفارا، وقد ندم أحدهم وهو الحارث وأرسل لحضرة الرسول بقبول توبته.
وآخر هذه الآيات عام في جميع الكفرة المرتد منهم وغيره، وهذه آخر ال 89 آية من هذه السورة التي نزلت في وفد نجران ومحاججتهم مع اليهود ومجادلتهم مع حضرة الرسول وما تفرع عن ذلك، ولبعضها أسباب أخرى لصلاحيتها لها، لأن السبب الواحد قد يكون لأغراض كثيرة تنطبق عليها، كما أن بعضها تكون عامة فيهم وفي غيرهم، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
ويفهم من هذه الآيات جواز لعن المرتد والكافر على العموم، وعدم جواز تخصيص أحد منهم باللعن إلا إذا تحقق موته على الكفر.
وأن العمل الصالح شرط لقبول التوبة ممن يتوب من كفره، وأنها تمحو ذنوب التائب إذا خلصت نيته، ثم بين تعالى أن من لم يتب توبة خالصة ورجع إلى كفره فسيغلق الله في وجهه باب التوبة بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بسيدنا عيسى {بَعْدَ إِيمانِهِمْ} بسيدنا موسى وما أنزل عليهما من الإنجيل والتوراة {ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا} بجحودهم رسالة محمد وما أنزل عليه من القرآن {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)} الذين لا سبيل إلى هدايتهم، لأن الله تعالى إنما قبل توبة المرتد والكافر على أن يطهر دخيلة قلبه بالأعمال الصالحة التي يستدل بها الناس على صحة إيمانه وقبول توبته فلا تقبل توبته، ولهذا أجمعت الأمة على أن المرتد يمهل ثلاثة أيام فإن أصر على كفره قتل وإلا فلا، أما الكافر الذي نشأ على الكفر فقد جعل الله أمامه باب التوبة مفتوحا، ووعده بغفران ما كان منه حال كفره إذا أسلم.
قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ} الآية 39 من سورة الأنفال المارة، فإذا حق عليه الشقاء ومات على كفره فتبا له وسحقا، وإذا حفته السعادة فآمن نجا، قالوا نزلت هذه الآية في اليهود خاصة، وقيل في المشركين والنصارى لأنهم كفروا بمحمد وازداد كفرهم بإقامتهم على الكفر، إلا أنها لا تنطبق على المشركين لأنهم لم يؤمنوا قبل بسيدنا محمد ولا بموسى ولا بعيسى لأنهم أهل شرك انقرضت النبوة فيهم وآثارها بعد وفاة إسماعيل عليه السلام الذي لم يترك لهم كتابا أو يدون لهم شريعة يتدينون بها من بقايا الشرائع القديمة، لذلك فان نزولها باليهود أوفق للمعنى وأطبق للحال.

.مطلب وقت قبول التوبة وعدم قبولها ومعنى البر والإثم والتصديق بالطيب والوقف الذري وتبدل الأحكام بتبدل الأزمان:

ومعنى قوله لن تقبل توبتهم محمول على قوله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ} الآية 18 من سورة النساء الآتية، لأن الله تعالى علم قولهم فيما بينهم أنهم يبقون على الكفر حتى إذا نزل بهم الموت تابوا، ولا تقبل التوبة عنده.