فصل: مطلب فتن اليهود وإلقائها بين المسلمين وسبب اتصال الأنصار بحضرة الرسول وألفتهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وغير خاف أن الحج أحد أركان الإسلام الخمس، وله شروط وأركان وسنن مبينة في كتب الفقه، وذكرنا ما يتعلق بالرمي في الآية 113 من سورة الصافات، وفيها ما يرشدك إلى المواضع الأخرى الباحثة عن ذلك، ولبحثه صلة في الآية 25 فما بعدها من سورة الحج الآتية، وقد فرض في السنة التاسعة من الهجر مما يدل على أن هذه الآية متأخرة في النزول عن سورتها، وقد وضعت هنا كفيره بإشارة من حضرة الرسول ودلالة من الأمين جبريل طبق ما هو عند الله.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان.
وبينا أن الصوم فرض في 10 شعبان السنة الثانية من الهجرة.
وأن الصلاة فرضت ليلة الإسراء في 27 رجب السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بسنتين وسبعة أشهر تقريبا، وأن الزكاة فرضت في السنة الثانية من الهجرة ورويا عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لا يشد الرحال إلا لثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرامَ.
{تَبْغُونَها}.
سبيل الله الموصلة إليه {عِوَجًا} بكسر العين أي الزيغ والميل عن الاستواء في الدين والقول والعمل وكل ما لا يرى، أما الجدار والعصا وغيرهما مما تراه العين فيفتح العين راجع الآية الأولى من سورة الكهف، {وَأَنْتُمْ شُهَداءُ} بأن الدين الحق ما عليه محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وأن ما أنتم عليه ضلال {وَمَا الله بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)} من إلقاء الشبه بقصد تشكيك الناس لصدهم عن الإيمان بمحمد واتباع دينه القويم {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100)} فاحذروهم وتباعدوا عنهم.
ثم أتى بما ينم بالتعجب من طروء الكفر على الإيمان بقوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} بالله ورسوله استفهام تعجب يليه جملة حالية أي كيف يكون منكم ذلك {وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} قائم بين أظهركم، أي لا يليق بكم ذلك بل لا يتصور وقوعه منكم وأنتم على ما أنتم عليه من العقل والدراية {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِالله} ويتمسك بدينه ويتبع رسوله {فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} بوصله إلى الجنة لأن من يعصمه الله يقيه من الوقوع في الآفات ويدفع عنه كل شر.

.مطلب فتن اليهود وإلقائها بين المسلمين وسبب اتصال الأنصار بحضرة الرسول وألفتهم:

ولما رأى شاس بن قيس اليهودي ألفة الأوس والخزرج في الإسلام بعد ما كان بينهم في الجاهلية من العدوان قال والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأمر من يذكّرهم بوقائعهم يوم بعاث وما جرى فيه من القتل بينهم والسلب ليوقع بينهم الشحناء ويثير الضغائن الكامنة في قلوبهم، والفتنة قائمة لعن الله من أيقظها ولاسيما والناس كانوا قربي عهد بالإسلام، فذكروهم ولا زالوا يثيرون بينهم ما وقع منهم زمن الجاهلية، حتى استفز أوس بن قبطي من بني حارثة الأوسي وجبار بن صخر من بني سلمة الخزرجي، فتفاخروا وتمارون بما أغضب الفريقين، وحملهما على حمل السلاح وخرجا إلى الحرة ليتقاتلا، قاتل الله اليهود ما ألعنهم، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخذ المهاجرين وخرج إليهم، فقال أجاهلية وأنا بين أظهركم، وقد أكرمكم الله بالإسلام وقطع أمرهم عنكم، وألف بينكم، أترجعون إلى الكفر! الله الله، فوقع كلامه فيهم موقعا بعيدا وزاح عنهم ما بينهم وعرفوا أنها نزعة شيطانية قام بها أعداؤهم اليهود، فألقوا السلاح وتعانقوا، وتباكوا ورجعوا مع حضرة الرسول سامعين مطيعين.
قال جابر فما رأيت يوما أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم، وأنزل الله الآية المارة وأعقبها بقوله جل قوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} وهذه الآية محكمة لأن من التقوى قيام العبد بأداء ما يلزم بقدر طاقته لا أنه يأتي بكل ما يجب عليه للّه ويستحقه، لأنه مما يعجز البشر عنه، ولذلك قال بعض المفسرين إن هذه الآية منسوخة بآية التغابن عدد 16 وهي قوله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} بل هذه الآية مفسرة لها لا ناسخة ولا مخصصة، فمن اتقى الله جهده فقد اتقاه حق تقواه فضلا عن أنه يوجد من الكاملين من يتق الله حق تقواه، إذ يصرف كل زمنه في عبادته والتفكر بآلائه ومصنوعاته ويتداوى بعبادته ويقول فيها:
إذا العبادة لم تنقذك من وصب ** كلا لعمري لم تشفك الأطباء

قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله} الموصل إليه وهو القرآن الأمر بالألفة والمودة والمفضي لدخول الجنة {جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} كاليهود والنصارى الآن وكما كنتم زمن الجاهلية على اختلاف ألوانكم وأجناسكم {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا} كما كنتم قديما لأن أوس وخزرج أخوان شقيقان، فلما تناسلوا وكثروا وقع بينهم الخلاف فتعادوا بسبب حسد بعضهم بعضا ووضع بينهم العداء، وإذا وقع الخصام بين الأقارب كان قويا ولهذا قيل:
وظلم أولي القربى أشدّ مضاضة ** على المرء من وقع الحسام المهند

ولهذا يذكر الله تعالى بحالتهم الأولى وما آبوا إليها بقوله: {وَكُنْتُمْ} قبل الإسلام اشتد بينكم الخصام حتى صرتم {عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ} ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على كفركم {فَأَنْقَذَكُمْ} الله {مِنْها}.
بسبب إيمانكم به واتباعكم رسوله، إذ ألف بينكم الإسلام ونجاكم من الوقوع بالكفر {كَذلِكَ} مثل هذا البيان الشافي {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 103} قال مقاتل بن حبان: افتخر ثعلبة بن غنم الأنصاري من الأوس فقال منا خزيمة بن ثابت ذر الشهادتين، وحنظلة غسيل الملائكة، وعاصم بن ثابت ابن أفلح حمى الدين (واعلم أن {أفلح} اسم تفضيل من أفلح وهو خاص بمن هو أشرم الشفقة السفلى، ويقال لأشرم العلياء {أعلم} وللفرجة التي بين الشاربين تحت ضلع الأنف {نثرة} قف على هذا فقل من يعرفه) وسعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته ورضي الله بحكمه في بني قريظة، فرد عليه سعد بن زرارة الخزرجي فقال منا ابي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد الذين أحكموا القرآن، وسعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم (قيل إن سعدا هذا بال في جحر فقتله الجن وقالوا فيه:
قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده

ضربناه بسهم فلم تخطئ فؤاده ولهذا كره الفقهاء البول في الجحر خوفا من حيوان يؤذي أو يؤذى وتفاخروا فيما بينهما، وتناشدوا الأشعار، وقاموا إلى السلاح، فأتاهم رسول الله فأصلح بينهم، وأنزل الله هاتين الآيتين المتقدمتين على هذه الآية، والأول الذي ذكرناه آنفا في سبب النزول وهو قصد إيقاع الفتنة من اليهود بينهما أولى وأوفق في مناسبة سياق الآية ولفظها، لأن الحوادث التي ذكرت في تفاخرهم من حكم سعد وموته وشهادة خزيمة وموت حنظلة لم يقع قبل نزول هذه الآيات ولا في زمنها حتى يكون سبب النزول مسوفا إليها، وعلى القول بأنها متأخرة بالنزول فكذلك لا يستشهد بها على ذلك.
جاء في افراد مسلم من حديث زيد بن أرقم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ألا وإني تارك فيكم ثقلين، أحدهما كتاب الله هو حبل الله المتين، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة، الحديث.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به.
وروى مسلم حديث ابن أرقم بأطول من ذلك، وفيه وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي كررها مرتين.
واعلم أن سبب اتصال الأنصار بحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم هو أن سويد بن الصامت الذي كان شريفا في قومه ويسمى بينهم الكامل لجده وحسبه ونسبه، قدم مكة بعد مبعث النبي صلّى الله عليه وسلم، فاجتمع به ودعاه للإسلام فقال له إن معي مجلد لقمان يعني كلمته وسيرته، فقال له الرسول اتلها علي فتلاها، فقال هذا حسن، وما معي أفضل منه، قرآن أنزله الله علي نورا وهدى، وتلا عليه مما كان قد نزل، فقال هذا القول حسن وانصرف إلى المدينة، وقتل يوم بغاث، فقال قومه قتل وهو مسلم، ثم قدم أبو الحبس أنس بن رافع وأياس بن معاذ مع فتية من بني عبد الأشهل يلتمسون الحلف من قريش على قومهم الخزرج، فأتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال لهم هل لكم إلى خير مما جئتم به قد بعثني الله إلى العباد رسولا أدعوهم بعدم الشرك وأنزل علي الكتاب، وتلا عليهم منه، فقال أياس أي قوم والله هذا خير، فضربه أبو الحبس بخفنة من الحصباء وقال ما لهذا جئنا، وانصرف رسول الله ورجعوا إلى المدينة، وهلك أياس في واقعة فيما بينهم، ثم خرج الرسول إلى الموسم يدعوا الناس إلى الله كعادته لعله يجد من يأخذ عنه دينه فيهتدي به أو يستحسنه فيذكره لغيره كسويد بن الصامت وأياس بن معاذ المذكورين آنفا، فلقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا وهم أسعد بن زرارة، وعون بن الحارث بن عفراء، ورافع بن مالك العجلاني، وقطبة بن عامر بن خريدة، وعقبة بن عامر بن باني، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم، فجلس إليهم وتلا عليهم قرآنا ودعاهم إلى الإيمان، فآمنوا، وكانوا يسمعون من اليهود أن نبيا يخرج آخر الزمان ويقولون إنهم يتبعونه ويقتلونهم معه وقال بعضهم لبعض لنسبقن اليهود عليه، وقالوا للرسول سندعوا قومنا إلى اتباعك وعسى الله أن يجمعهم عليكم فلا يكون أعزّ منك، ولما دخلوا المدينة ذكروا حضرة الرسول ورغبوا أتباعهم في الإسلام، فأسلموا، وفشا الإسلام بالمدينة لما رأوا من حسن تعاليمه القيمة وعملوا بما بلغهم عنه من المذكورين، وفي الموسم الآخر قدم من المدينة اثنا عشر رجلا زكوان بن عبد القيس وعبادة بن الصامت، وزيد بن ثعلبة، وعباس بن عبادة من الخزرج، وأبو الهيثم ابن التيهان، وعويمر بن مساعدة من الأوس، والستة الأول، فبايعوا حضرة الرسول في العقبة الأولى على صيغة وصفة بيعة النساء المبينة في الآية 13 من سورة الممتحنة الآتية، وقال لهم الرسول إن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئا من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة، وإن ستر عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم، وبعث معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن أسعد بن زرارة وصاروا يجلسون في حائط بني ظفر، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن صفير انطلق إلى هذين الرجلين- يريد مصعبا وأسعد- فازجرهما لئلا يسفها ضعفائنا، فلولا أن أسعد ابن خالتي لكفيتكه، فأخذ حربته وتوجه نحوهما، فلما رآه سعد قال لمصعب هذا سيد قومه، فلما وصلهما قال لهما اعتزلا عنا، فقال له مصعب أو تجلس فإن رضيت أمرا قبلته، وإلا كف عنك ما تكره، قال أنصفت، فركز حربته فكلمه بما يتعلق بالإسلام من آداب وأخلاق وتوحيد الإله وتفنيد الشرك وقرأ عليه القرآن، قالا والله لقد عرفنا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم، فقال لهما ما أحسن هذا وكيف الدخول في هذا الدين؟ قالا تغتسل وتطهر ثوبك وتشهد شهادة الحق وتصلي ركعتين، فقال إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد وأخذ حربته وأقبل على نادي سعد، فقال سعد لمن عنده أحلف لكم أنه جاء بغير الوجه الذي ذهب به فقال يا أسيد ما فعلت؟ قال ما رأيت بهما بأسا وقالا لا نفعل إلا ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه تحقيرا لك لأنهم عرفوه ابن خالتك، فقام مغضبا وأخذ حربته، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا أراد ذهابه إليهما ليسمع منهما، فقال أسعد لمصعب هذا والله سيد قومه، فقال له مصعب أو تقعد فتسمع فإن رغبت قبلت وإن كرهت عزلنا عنك ما تكره، قال أنصفت، فقرأ عليه القرآن وعرض عليه الإسلام، قالا فعرفنا الإسلام في وجهه والله قبل أن يتكلم، فقال وكيف الدخول في دينكم؟ قالا له مثل ما قالا لأسيد وأن مبنى هذا الدين على العفو والسماحة والغيرة والشهامة من كل ما يؤثر في قلب الكريم أمثاله، فقبل ذلك، فقام واغتسل وطهر ثيابه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته وذهب، فلما أقبل على الناس قال أسيد والله أنه رجع بغير الوجه الذي ذهب به، فلما وقف عليهم قال يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم، قالوا سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقية، قال فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فما أمسى في دار بني الأسهل رجل ولا امرأة إلا مسلم ومسلمة، وأمر مصعبا بتلقينهم الإسلام وتعاليمه وتحبب إليهم بالطرق التي تمرن عليها رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، ثم صار مصعب وأسعد يدعوان الناس إلى الإسلام علنا حتى لم يبق في المدينة بيت من بيوت الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار أمية ابن زيد وخطمة ووائل إذ كان فيهم أبو قيس الأسلت فوقف بهم عن الإسلام وكان شاعرا مشهورا.
واعلم أن كلمة الأنصار لم تعرف قبل هجرة الرسول إلى المدينة وإنما كانوا يسمون بقبائلهم، وإنما لقّبوا بها لتشرفهم بموالاة حضرة الرسول ونصرتهم له.
هذا، وفي الموسم الثالث خرج مصعب وأسيد ومعهم سبعون رجلا وامرأتان هما نسيبة بنت كعب وأم عمارة أسماء بنت عمرو أم منيع إلى مكة وأخذوا معهم أبا جابر والتقوا برسول الله بالعقبة، وكان معه العباس ولم يسلم بعد، فقام خطيبا وقال يا معشر الخزرج (وكانوا يطلقون هذه الكلمة على الأوس والخزرج) إن محمدا منا حيث علمتم وقد منعناه عن قومنا ممن هو على مثل رأينا، وهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وأنه قد أبي إلا الانقطاع إليكم والحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم مسلموه وافون إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم به من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة، فقالوا قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك وربك ما شئت، فبدأ صلّى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام، ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم، قال فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا- أي ظهرنا ويطلق على القوة والضعف فهو من الأضداد- فبايعنا يا رسول الله فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناهما كابرا عن كابر، فاعترض القول والبراء يتكلم أبو الهيثم بن التيهان، فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا وعهودا وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم وقال صلّى الله عليه وسلم أخرجوا لي منكم اثنى عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، قال عاصم بن عمر بن قتادة إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله قال العباس بن عبادة بن ثعلبة الأنصاري يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتوه فمن الآن فهو والله خزي في الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما وعدتموه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، ثم قالوا فما لنا بذلك يا رسول الله إن وفينا؟ قال الجنة، قالوا ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه، وأول من ضرب على يده البراء بن معرور، ثم تتابع القوم، قال فلما بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت ما سمع قط (يا أهل الحباحب، هل لكم في مذمم والصياة معه قد أجمعوا على حربكم، فقال صلّى الله عليه وسلم: «هذا عدو الله إبليس هذا أرنب العقبة أي شيطانها، اسمع عدو الله والله لأفرغنّ لك» ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «انفضوا»، فقال العباس بن عبادة والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن عليهم- أي على أهل منى- بأسيافنا، فقال صلّى الله عليه وسلم: «لم نؤمر بذلك» ومن هنا يعلم أن هجرة رسول الله لم تكن عن ضعف وخوف كما أشرنا إليه في بحث الهجرة آخر الجزء الثاني لأنها متصورة قبل اجتماع قريش في دار الندوة على الصورة المارة في بحث الهجرة المذكور.