فصل: فصل في خواتم الفواتح الكلّيّة وجوامع الحكم والأسرار الإلهيّة القرآنيّة والفرقانيّة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في خواتم الفواتح الكلّيّة وجوامع الحكم والأسرار الإلهيّة القرآنيّة والفرقانيّة:

وهو آخر فصول الكتاب والله متمّ نوره، فمن ذلك خاتمة تكون لمعظم أسرار الحقّ وأسمائه وأسرار الفاتحة موضحة وفاتحة، فنقول- مبتدئين من بسم اللّه إلى آخر السورة إن شاء الله-:
اعلم أنّ الأسماء- على اختلاف ضروبها ومفهوماتها في الحقيقة- هي أسماء للأحوال، ولذي الحال- من حيث هو ذو حال، ومن حيث هو مدرك نفسه وما فيها في كلّ حال بحسبه- مبدأ تعيّن الجمع وهو مقام أحديّة الجمع الذي نبّهتك عليه غير مرّة، وأخبرتك أنّه ليس وراءه اسم ولا رسم، ولا تعيّن ولا صفة ولا حكم، لكن تعيّن الأسماء من هذا المقام على نحوين:
النحو الواحد هو بحسب أحكام الكثرة التي يشتمل عليها هذا المقام وهي الأسماء المنسوبة إلى الكون، ولهذا نقول وقتا: الكثرة وصف العالم من كونه عالما وسوى، وفي تجلّي الكثرة وأحكامها تتلاشى العقول النظريّة وتفشّ عن درك سرّ الوحدة والحسن المستجنّ فيها، فتجبن عن إضافة شيء من أحكام إلى الحقّ المتعيّن عندها، وترد بأحكام الكثرة عليها ولا تدري.
وسبب ذلك كونها لم تشهد الوحدة الحقيقيّة التي لا تضادّها الكثرة ولا تقابلها، بل هي نسبة الوحدة المعلومة عندهم وعند غيرهم من المحجوبين وأكثر العارفين والكثرة أيضا إلى هذه الوحدة المشار إليها على السواء، لأنّها منبع لهما ولأحكامهما، مع عدم التقيّد بالمنبعيّة وغيره.
ثم نرجع ونقول: ومعقوليّة النسبة الجامعة لأحكام الكثرة من حيث وحدتها عبارة عن حقيقة العالم، وتعيّن الحقّ من حيثها عبارة عن وجود العالم.
ثم إنّ هذا الوجود بعد ظهوره بشئونه انقسم بالقسمة الأولى من حيث التعيّن إلى ثلاثة أقسام: إلى ما غلب عليه طرف الوحدة والبطون كالأرواح على اختلاف مراتبها بحسب درجات هذا القسم، وإلى ما ظهر وغلب عليه أحكام الكثرة كالأجسام المركّبة على اختلاف مراتبها أيضا بحسب الدرجات، وإلى ما توسّط بينهما.
ثم إنّ المتوسّط انقسم إلى ما غلب عليه حكم الروحانيّة وحكم مجمل الظهور الأوّل كالعرش والكرسي، وإلى ما غلب عليه نسبة الجمع بكمال الظهور التفصيلي آخرا كالمواليد الثلاث على ما بينها من التفاوت في الدرجات، مع دخولها تحت قسم واحد يسمّى بعالم الشهادة، فإنّه هو المقابل لعالم الأرواح وعالم الغيب على ما ذكر في أوّل الكتاب عند الكلام على الحضرات الخمس. وبقي الوسط الذي تفرّع منه ما تفرّع مشتملا على درجات لكلّ منها أهل، كالسماوات السبع، والأسطقسات الأربع.
وظهر الإنسان آخرا بصورة الكلّ مقام الجمع الأحدي، الذي لا يتعيّن قبله أوّليّة ولا غيرها، وله العماء، وقد مرّ حديثه في صدر الكتاب فاذكر.
والخلافة للإنسان بهذه الصورة هي من حيث صحّة المحاذاة والمحاكاة والمطابقة لما ظهر من صورته في الحكم والجمع والمحاكاة لما عداهما وغيرهما لما بطن منه، والاستخلاف لما بطن هو من حيث السببيّة الأولى في تعيّن صورة نفسه الجامعة لما اشتملت عليه ذاته، والاستعلاء بعد التحقّق بالكمال على الخلافة والخروج عنها بردّها إلى الأصل أو إلى المثل بمزيد من الحسن والبهاء، كما مثّل لك في ماء الورد وغيره من قبل، واستحضار قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها، هو بخصوصيّة حكم مقام أحدية الجمع المتنزّه عن التقيّدات بوصف وحال معيّن من خلافة ونيابة وغيرهما، لاستيعابه كلّ حال ومقام ووصف، واشتماله وقبوله كلّ حكم واسم وفعل وحرف. ألا كلّ شيء ما خلا اللّه باطل.
{كُلُّ شَيْءٍ هالِك إِلَّا وَجْهَهُ}.
ثم نقول: المسمّيات موجودات هي- كما ذكر لك- تعيّنات شؤونه سبحانه وهو ذو الشؤون، فحقائق الأسماء، والأعيان عين شؤونه التي لم تتميّز عنه إلّا بمجرّد تعيّنها منه، من حيث هو غير متعيّن. والوجود المنسوب إليها عبارة عن تلبّس شؤونه بوجوده، وتعدّدها واختلافها عبارة عن خصوصياته المستجنّة في غيب هويّته، ولا موجب لتلك الخصوصيّات لأنّها غير مجعولة، ولا يظهر تعدّدها إلّا بتنوّعات ظهوره، لأنّ تنوّعات ظهور ذاته في كلّ منها هو المظهر لأعيانها ليعرف البعض منها من حيث تميّزه البعض ومن أيّ وجه يتّحد فلا يغايره، ومن أيّه يتميّز فيسمّى غيرا وسوى، وإن شئت فقل: كان ذلك ليشهد هو خصوصيّات ذاته في كلّ شأن من شؤونه.
ومثال هذا التقلّب في الشؤون- وللّه المثل الأعلى-: تقلّب الواحد في مراتب الأعداد لإظهار أعيانها، ولإظهار عينه من حيثها، فأوجد الواحد العدد، وفصّل العدد الواحد، بمعنى أنّ ظهوره في كلّ مرتبة- ممّا نسمّيه في حقّ الحقّ شأنا كما أخبر عن نفسه سبحانه- يخالف ظهوره في المرتبة الأخرى، ويتبع كلّ ظهور من حيثيّة كلّ شأن من الأسماء والأوصاف والأحوال والأحكام بمقدار سعة دائرة ذلك الشأن وتقدّمه على غيره من الشؤون.
وكلّ ما يرى ويدرك- بأيّ نوع كان من أنواع الإدراك- فهو حقّ ظاهر بحسب شأن من شؤونه القاضية بتنوّعه وتعدّده ظاهرا، من حيث المدارك التي هي أحكام تلك الشؤون مع كمال أحديّته في نفسه، أعني الأحديّة التي هي منبع لكلّ وحدة وكثرة، بساطة وتركيب، وظهور وبطون، فافهم.
وانظر إلى أحديّة الصورة الجسميّة التي يدركها بصرك، وكون الفواصل المتعدّدة لمطلق الصورة الجسميّة أمورا غيبيّة غير مدركة، كالمعنى الفاصل بين الظلّ والشمس، والسواد والبياض، واللطيف والكثيف، والصلب والرخو، وكلّ برزخ بين أمرين مميّز بينهما يرى حكمه ظاهرا، وهو غيب لا يظهر.
ألا وإن الفواصل البرزخيّة هي الشؤون الإلهيّة، وهي على قسمين: تابعة، ومتبوعة.
والمتبوعة على قسمين: متبوعة تامّة الحيطة، وغير تامّة.
فالتابعة أعيان العالم. والمتبوعة- التي ليست تامّة الإحاطة- هي أجناس العالم وأصوله وأركانه، وإن شئت فسمّها الأسماء التالية التفصيلية وأنت صادق. والمتبوعة التامّة الحيطة والحكم أسماء الحقّ وصفاته، وفي التحقيق الأوضح فالجميع شؤونه وأسماء شؤونه وأسماؤه من حيث هو ذو شأن أو ذو شؤون كما مرّ، فلا تغلط واذكر.
فتسميته واحدا هي باعتبار معقوليّة تعيّنه الأوّل بالحال الوجودي بالنسبة إليه إذ ذاك، لا بالنسبة إليه من حيث تعيّن ظهوره في شأن من شؤونه وبحسبه.
وتسميته ذاتا هي باعتبار ظهوره في حالة من الأحوال التي تستلزم تبعيّة الأحوال الباقية لها، وأحواله وإن كان- كما قلنا- بعضها تابعا وبعضها متبوعا، وحاكما ومحكوما، فإنّ كلّا منها من وجه له الكلّ، بل هو عينه.
وتسميته: {اللّه} هي باعتبار تعيّنه في شأنه الحاكم فيه على شؤونه القابلة به منه أحكامه وآثاره.
وتسميته: {الرحمن} عبارة عن انبساط وجوده المطلق على شؤونه الظاهرة بظهوره فإنّ الرحمة نفس الوجود. والرحمن الحقّ من كونه وجودا منبسطا على كلّ ما ظهر به ومن حيث كونه أيضا باعتبار وجوده له كمال القبول لكلّ حكم في كلّ وقت بحسب كلّ مرتبة وحاكم على كلّ حال.
وتسميته رحيما هي من كونه مخصّصا ومخصّصا لأنّه خصّص بالرحمة العامّة كلّ موجود، فعمّ تخصيصه وظهوره سبحانه.
ومن حيث الحالة المستلزمة الاستشراف على الأحكام المتّصلة من بعضها بالبعض تبعيّة ومتبوعيّة، وتأثيرا وتأثّرا كما قلنا، واجتماعا وافتراقا، بتناسب وتباين، واتّحاد واشتراك سمّي علما. وهو من تلك الحيثيّة وباعتبار كونه مدركا نفسه وما انطوت عليه في كلّ حال وبحسبه سمّى نفسه عالما.
والسريان الذاتي الشرطي من حيث التنزّه عن الغيبة والحجبة، ودوام الإدراك المتعدّي حكمه إلى سائر الشؤون يسمّى حياة، وهو الحيّ بهذا الاعتبار.
والميل المتصل من بعض الشؤون بسرّ الارتباط بشئون أخر بموجب حكم المناسبة الثابتة في البين المرجّحة تغليب حكم بعض الشؤون على البعض، وإظهار التخصيص الثابت في الحالة المسمّاة علما لتقدّم ظهور بعض الشؤون على البعض يسمّى إرادة، وهو من حيثها يكون مريدا.
والحالة التي من حيثها يظهر أثره في أحواله بترتيب يقتضيه التخصيص المذكور والنسب المتفرّعة عن كلّ حال منها تسمّى قدرة، وهو من حيثها قادر.
وانتظم أمر الوجود وارتبط، وزهق الباطل وسقط.
وها أنا قد فتحت لك بابا لا يلجه ولا يطرقه إلّا النّدر من أهل العناية الكبرى، فإن كنت ممّن يستحقّ مثل هذا، فلج وافتح بهذا المجمل مفصّله، وكن بكلّيّتك للّه فمن كان للّه كان اللّه له.
وصل منه بلسان جمع الجمع:
اعلم، أنّ تقديم الشيء على سواه، وتصدير الأمور به يؤذن بتهمّم المقدّم لذلك الأمر، المصدّر له به، فتقديم الحقّ ثناءه في صدر كلامه دليل على أمور منها: التهمّم به والتعريف بمزيّته فإنّه المفتاح المشير إلى المقصد الغائي، الذي هو عبارة عن الحال الكلّي الأخير، الذي يستقرّ عليه أمر الكلّ من حيث الجملة، وإنّه ناتج من بين معرفتهم التامّة بالحقّ وبكلّ ما يسمّى سوى وبين شهودهم الذاتي الخصوصي، المتفرّعين عن الهداية الخاصّة، المحرّض على طلبها والمتكفّل بإنالتها طالبيها، لكن بعد حسن التوسّل بجزيل الذكر وجميل الثناء وتجريد التوحيد حال التوجّه بالعبادة، وكمال الاعتراف بالعجز والقصور والاستناد مع الإذعان. كلّ ذلك بمعرفة الاستحقاق وتعيّن موجبات الرغبة المنبّه عليها في رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وموجبات الرهبة المندرجة في {مالك يوم الدين} والتنبيه أيضا على أنّ من لم يتّسم بسمة الهداية المعنيّة بحيث يسري حكمها في أحوال المهتدي وأفعاله، وعاجل أمره وآجله ومآله، حتى ينتهي به الأمر إلى الاحتظاء بما حظي به الكمّل من ربّهم قبله، أو السعداء مثله، وإلّا فهو بصدد الانصباغ بحكم الغضب، والوقوع في مهواة الحيرة وبيداء التيه.
والغاية القصوى ما سبق الإشارة إليه من حال الكمّل لأنّ السبب الأوّل في إيجاد العالم هو حبّ الحقّ أن يعرف ويعبد كما أخبر، ويشهد كماله بظهوره ووجوده.
والمراتب الوجوديّة والعلميّة إنّما تقوم وتدوم في كلّ زمان بالكامل المستناب والمستندب لتكميل ذلك وحفظ نظامه في ذلك الزمان، فلا جرم وقع الأمر كما هو عند من يعرفه. وقد تكرّرت التنبيهات الإلهيّة على ذلك في الكتب المنزلة، وبلسان الكمّل.
فمن ذلك قوله سبحانه في التوراة: يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك، وخلقتك من أجلي ومثله قوله لموسى- على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام-: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي وقوله لمجموع الكمّل: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ، بعد التعديد والتفصيل غير مرّة، ونحو هذا ممّا يطول ذكره، ولم يختلف فيه أحد من أهل الاستبصار.
ولمّا كان الثناء من كلّ مثن على كلّ مثنى عليه تعريفا للمثنى عليه، ومتضمّنا دعوى المثني أنّه عارف بمن يثني عليه من حيث هو مثنى عليه، وكانت الحجّة البالغة للّه، أراد سبحانه أن يظهر كمال الحجّة- الّتي بها كمال المعرفة المطلوبة- كتعلّق إرادته بإظهار كمال باقي شؤونه، فإنّ ثبوت معرفته بنفسه وبكلّ شيء عند نفسه يكون حجّة من حيث كمال العلم، وزوال التهمة، لكن لا تكون بالغة إلّا إذا تمّ ظهورها في كلّ مرتبة، وعند جميع من كان من أهل تلك المرتبة، أو ظهر بها وفيها، كظهورها ووضوحها في نفس المبرهن الحقّ المحقّ. وتذكّر قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة بَعْدَ الرُّسُلِ} وما ورد عنه صلّى اللّه عليه وآله من «أنّ اللّه لا يؤاخذ أحدا يوم القيامة حتى يعذر من نفسه» يعني: حتى تتركّب حجّة اللّه عليه ويفلج، ومن ذلك قوله أيضا صلّى اللّه عليه وآله: «ليس أحد أحبّ إليه العذر من اللّه، ومن أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب» و، فافهم.