فصل: (سورة آل عمران: الآيات 185- 188)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة آل عمران: الآيات 185- 188]

{كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188)}.
وقوله تعالى: {وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ} [185] وهذه استعارة. لأن الغرور لا متاع له على الحقيقة، وإنما المراد بذلك أن ما يستمتع به الإنسان من حطام الدنيا ظلّ زائل، وخضاب ناصل.
وقوله تعالى في صدر هذه الآية: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ} [185] مستعار أيضا، لأن حقيقة الذوق ما أدرك بحاسة، وإنما حسن وصف النفس بذلك لما يحسّ به من كرب الموت وعذابه، فكأنها تحسّه بذوقه.
وقوله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [186]. فهذه استعارة. لأن الأمور لا عزم لها، وإنما العزم للموطّن نفسه على فعلها، وهو الإنسان.
فالمراد: فإن ذلك من قوة الأمور. لأن العازم على فعل الأمر قويّ عليه.
وقوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ} [187]. وهذه استعارة. والمراد بها: أنهم غفلوا عن ذكره، وتشاغلوا عن فهمه، يعنى الكتاب المنزل عليهم، فكان كالشئ الملقى خلف ظهر الإنسان، لا يراه فيذكره، ولا يلتفت إليه فينظره..
وقوله: {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ} [187]. ومنجاة من العقاب.
والمفازة: الأرض البعيدة التي إذا قطعها الإنسان فاز بقطعها، وأمن من خوفها.

.[سورة آل عمران: الآيات 196- 197]

{لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197)}.
وقوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ} [196، 197] وهذه استعارة. والمراد بالتقلب هاهنا كثرة الاضطراب في البلاد، والتقلقل في الأسفار، والانتقال من حال إلى حال. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة آل عمران:
يستطيع قارئ سورة آل عمران؟ أن يستبين على عجل موضوع السورة الكريمة، فهى تدور على قضيتين كبيرتين:
الأولى: حوار مع أهل الكتاب الذين يخاصمون الإسلام داخل المدينة.
والأخرى: تعليق على هزيمة أحد التي أصابت المسلمين بجرح غائر، وأدخلت الأحزان إلى عشرات البيوت... والحديث في كلتا القضيتين يأخذ بدايته منفردا في أول السورة ووسطها، ثم يختلط الحوار والتعليق أواخر السورة، كأن جهاد الدعوة يقضى بالثبات في الموقفين، ويوجب على المسلمين مواجهة مشتركة لكيد اليهود داخل المدينة وهجوم الوثنيين عليها تمشيا مع عدوانهم السابق.. إننا نعرض دعوتنا على الأحزاب كلها، عرضا لا جور فيه ولا عدوان، فمن استجاب آخيناه، ومن أعرض تركناه، ومن اعتدى تصدينا له معتمدين على الله. وتلمح هذا الموقف في قول الله هنا {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد}.
تبدأ السورة ببيان أن الإسلام هداية عامة وأن كتابه مصدق لما أنزل الله من قبل، وأن الوحى الإلهى كله فرقان بين الحق والباطل، وأن موسى وعيسى ومحمد يسيرون في خط واحد، وأن دائرة الإسلام تشمل الأديان كلها على اختلاف الزمان والمكان. وقد سمى الله التوراة والإنجيل والقرآن {آيات الله}.. وننبه إلى أن هذه الكلمة {آيات الله} تكررت عشر مرات في هذه السورة، بدأت بقوله تعالى: {إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام} وانتهت بقوله تعالى: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا} ولا تناقض بين عناصر الإيمان، ولا بين ما نزل على محمد وما نزل على أخويه السابقين موسى وعيسى. إن التناقض يقع بين وحى الله وأكاذيب البشر. والإيمان كما يوضحه القرآن: إيمان بما أنزل إلينا، وبما أنزل من قبلنا.. وعلى المخالفين أن يثوبوا إلى رشدهم.. وأهل الكتاب صنفان: اليهود والنصارى، ولم يقع حوار ساخن بين المسلمين والنصارى داخل المدينة، وإنما حمى الخصام بين المسلمين واليهود الذين كونوا مستوطنات لهم في المدينة نفسها، وشمالى الحجاز، والذين تصدوا للإسلام يكذبون الله ورسوله ويهاجمون وحيه، ويؤلبون عليه عبدة الأصنام في شتى الأرجاء.. وقد أغراهم بالهجوم أنهم جمعوا مالا وعتادا، وقامت لهم ثروات وحصون، وذاك سر تكرار التنديد بمصادر قوتهم خلال هذه السورة الكريمة: {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار}.
{إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم}.
{إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. وأخيرا قوله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد}. والواقع أن الغنى المفرط ونسيان الله قد يطيشان بالأفراد والجماعات.. واليهود في مستعمراتهم الأولى بالحجاز بلغوا شأوا من الرقى العمرانى والاقتصادى لم يبلغه عرب الجزيرة الأصلاء! فهل سخروا شيئا من هذا في دعم الحق والشرف ومحاربة الفسوق والعصيان؟ كلا، ربما كان المجتمع الجاهلى الوثنى أرقى منهم خلقا، وخيرا مسلكا.
ولذلك كان النبي الخاتم نعم المؤدب لهم عندما اشتبكوا معه مغرورين، فارتدوا على أعقابهم مدحورين، وانكسرت قواهم؟ وطاحت أموالهم.. لقد، استأثر اليهود بالوحى الإلهى أجيالا متعاقبة، فظل في جنسهم أحقابا حتى زعموا أنهم أصحابه؛ وأنه يستحيل أن يتجاوزهم إلى غيرهم!. ولم هذه الاستحالة؟ كل امرئ يفقد أهليته لمنصب ما؟ يجب إبعاده عنه!! وقد صار اليهود آخر تاريخهم عاجزين تمام العجز عن الارتفاع إلى مستوى الوحى، فقلوبهم حجارة وأخلاقهم نذالة، وأثرتهم طافحة، وتخصصهم الأول والأخير التشبع من الدنيا والعكوف على مطالبها، والجراءة على الله، وكراهية أمره ورفض حكمه. فما بد من صرف الوحى إلى جنس آخر، قد يكون خيرا منهم حالا ومآلا، وهذا سر قوله تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير أنك على كل شيء قدير}. وهذه الآية سبقتها آيات كانت مقدمات لهذه النتيجة أو حيثيات لهذا الحكم، منها قوله تعالى- قبل هذه الآية مباشرة: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات}. إنهم أمنوا العقاب الرادع فرفعوا راية العصيان السافر! وقرروا إهدار الشريعة وأحكامها... وكان الرد الإلهى تقرير العدالة العامة بين صنوف البشر، وأن مزاعم الأجناس لا وزن لها {فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} والتعبير بكل نفس، يفيد أن الإضافات المفتعلة للأفراد لا قيمة لها، فالنفس الإنسانية المجردة تلقى جزاء ما قدمت، وسوف يحشر الناس عراة كما خلقوا، لا تكسوهم إلا ألبسة التقوى وحدها إن كانوا أهل تقوى! والكلام وإن كان تقريعا لليهود ففيه إيماءة خفية إلى غيرهم من الأمم، فإن الله لن يعاقب أبناء إسرائيل إذا فسدوا ويترك أبناء إسماعيل إذا قلدوهم في سيرتهم، واقتفوا آثارهم، إن تشابه البيئات يقتضى تشابه العقوبات.
وقد ظن اليهود أنهم لم يشرفوا بالتوراة، ولعلهم يحسبون التوراة شرفت بجنسهم فغالوا بأنفسهم على نحو دمرهم تدميرا. ويوجد الآن عرب يرفضون أن يشرفوا بالإسلام، فتراهم يجردون العروبة منه، أتظن عقباهم خيرا من بنى إسرائيل الذين مسخوا قردة وخنازير؟ إن سنن الله لا تتخلف، والناس لديه سواسية.. استغرق الحوار مع أهل الكتاب بضع عشرة صفحة، اتجه إلى اليهود أولا لأن المسلمين صلوا بنارهم، ولم أر في الصفحة الأولى إلا إشارة خفيفة إلى النصارى تلقح عن بعد إلى ميلاد عيسى بن مريم، {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم} فالآية وإن تحدثت عن عمل القدرة العليا في تخلق الإنسان، وملامحه المادية والأدبية، تشير إلى أن عيسى بن مريم واحد من ألوف الذين أبدعهم الخالق من عدم، وأفاض عليهم من الصفات المتفاوتة ما يثير العجب، بعضهم يعجز عن فهم ما يسمع ويرى، وبعضهم يخترق الحجب على نحو ما قيل: والألمعى الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا. هناك من لا يحسن ركوب دابة، وهناك من يغزو الفضاء! هناك من يحتبس داخل هواه، وهناك من يفنى في الله! وعيسى وإن ولد من غير أب إلا أنه مندرج في سياق قانون القدرة، وأرى أن نؤخر الكلام عنه حتى نفرغ من اليهود أولا وموقفهم المريب من الإسلام..
كراهية اليهود للعرب قديمة، سببها الأول أن تحول النبوة عنهم بدأ بمحمد، وقد كانت لهم دالة على البشر ببقاء الرسالات السماوية فيهم، فلما رأوا الوحى ينزل بين العرب جن جنونهم، وكرهوا الأرض والسماء!! وقد اتجه إليهم الخطاب الإلهى منددا بهذا الموقف {يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون}؟. وظاهر من هذا التوبيخ أن اليهود كانوا يعرفون يقينا أن محمدا حق، وأنه يتحدث باسم الله، وأن الله عاقبهم على معاصيهم التاريخية المتوارثة، ولكنهم بدلا من أن يصطلحوا مع الله، مضوا في طريق المشاكسة والتحدى ينكرون النبوة الخاتمة ويحادونها بالكلام والسلاح، ويحيكون المؤامرات بين عبدة الأوثان حتى يصرفوهم عن الإيمان الصحيح. ولذلك تكرر في أكثر من موضع لوْم اليهود على هذا الموقف الرديء {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات...}؟. ثم يجرى الله على لسان رسوله هذا التساؤل: {قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون}؟. ويتفتق الفكر اليهودى عن حيلة خبيثة ليردوا الناس عن الإسلام ويصدوا عن سبيل الله، يقولون: إن الناس قد يتهموننا بالتعصب لما لدينا، ويظنوننا كرهنا الإسلام لذلك، فلنتظاهر باعتناق الإسلام، ولنوهم الناس أننا أحرار الفكر ولذلك تركنا ديننا إلى غيره! فلما وجدنا هذا الغير لا يصلح تركناه لعلة فيه لا لعلة فينا!! {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون}. وأظهروا إصرارهم على كره الوحى الجديد، وانتقال الرسالة بعيدا عن العبريين، فقالوا: {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم...} فلا يجوز أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ولا أن يشابهكم في تلقى الوحى. وظاهر أن القوم كارهون لما صنع الله، وضائقون بمشيئته في إيثار العرب، واختصاصهم بالوحى الجديد، وهم يحاولون إرغامه- سبحانه وتعالى- على تغيير أقداره، والعودة إليهم هم! وكان الجواب الحاسم {إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم}. لقد التقت في بنى إسرائيل رذائل الصلف والقسوة والغرور، وهى رذائل قد يخفيها الضعف فتكون حقدا دفينا، وقد يبديها الثراء والغلب فتكون عدوانا مبينا، وقد دفعهم هذا وذاك إلى التقوقع في حاراتهم بعواصم الشرق والغرب، وإكنان الشر للناس مع الاستعلاء والاستخذاء جميعا..!! ونقرأ في سورة آل عمران علة ما يفعلون {... ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون}. والأميون جمع منسوب إلى الأمة أو إلى الأم، فإن كان إلى الأم، بمعنى العجز عن القراءة، فالمقصود العرب لشيوع الأمية فيهم، وإن كان منسوبا إلى الأمم فالمراد الناس كلهم، وهذا الشرح أدنى إلى خلائق اليهود ومزاعمهم التي يتدارسونها في توراتهم وتلمودهم، والتى جعلت دول أوروبا كلها تتنكر قديما لهم، وتنزل نكالها بهم، وكان هتلر آخر هذه السلسلة من الحكام الباطشين، ولن يكون آخر من يؤدبون المجرمين! وقد شرح القرآن الكريم أن العلاقة بين الناس وربهم لا تقوم على الدعوى الكذوب، بل على الخلق العالى، على الوفاء والتقى {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين}. وقد تساءلت: إذا كان النصف الأول من سورة آل عمران يقوم على الحوار مع أهل الكتاب وقصص أحوالهم فلماذا جاء ذكر الحج هنا؟ ولماذا جاء الحديث قبله عن الأطعمة المحرمة والمحللة؟؟. وبعد إعمال الذهن وإدامة التدبر لم أعد بطائل، فقلت: أستفتى صاحب المنار وأتعرف على رأى الأستاذ الإمام، فوجدت الجواب السائغ! قالوا: كأن اليهود- والإسلام يعرض عليهم- يتساءلون: كيف نتبع دينا يستبيح الأطعمة المحرمة علينا ونحن نبتعد عنها فلا ترى قط على موائدنا؟. وأجيبوا بأن الحظر الذي يحترمونه كان موقوتا وطارئا، لقد كانت الأطعمة كلها حلا عليهم، فلما فسقوا واستمروا العدوان حرمت عليهم عقابا من الله... وقد فصل الله ذلك في سورة الأنعام وختم التحريم بقوله:{... ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين}. والمعروف أن رسالة عيسى بدأت بالتخفيف من آصار اليهود، وورد ذلك في قوله تعالى على لسان المسيح {ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم}.
فلما نزل القرآن الكريم عاد بالتشريع إلى أصله، فلم تحرم إلا أنواع الميتة، ولحوم الخنازير، والدماء المسفوحة، وما أهل لغير الله به، أما ما وراء ذلك فحلال. وفى هذا يقول تعالى: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة...} إلخ. وكذلك الكلام في شأن القبلة، فإن البيت الحرام في مكة المكرمة هو القبلة الأولى والأخيرة للناس كافة {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين}. وإذا كان بيت المقدس لظروف عارضة قد صار قبلة، فقد زالت العوارض ورجعت المياه إلى مجاريها، واستؤنف التكريم للبيت الذي أسس حصنا للتوحيد، وكان موضع التقدير من جملة الأنبياء السابقين... وندع الفروق بين شتى الشرائع لنقرر أن التربية الصحيحة على مهاد من العقيدة المكينة هي أساس الارتقاء البشرى على اختلاف العصور، وقد ذكرت سورة آل عمران ذلك في أولها، قال تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}. إن هذه الغرائز لابد منها لقيام الحياة، فلو لم تكن الغريزة الجنسية مثلا ما اتصلت قوافل الأحياء على ظهر الأرض، وكذلك سائر الغرائز الأخرى، والمهم ألا تتجاوز طور الاعتدال، وألا تضل سواء السبيل. والإسلام أباح ما يفيد وحرم ما يضر، وبنى قواعد الحلال والحرام على الإيمان والعمل الصالح، وشرع من عناصر التقوى ما يستبقى العلاقة قوية بالله واليوم الآخر! وقد استمعت إلى خطاب زعيم كبير يحذر من مرض الإيدز فرأيته يوصى باستعمال وقاء معين عند المباشرة الحرام، أنه يائس من العفة فلا يوصى بها لاستحالتها في منطقه، وهى مستحيلة مع فقدان اليقين بالحى القيوم. وسوف يبقى أتباع الأديان الشكلية يلقون العنت من غرائزهم التي فقدوا السيطرة عليها، حتى يفهموا قول الله تعالى: {قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار}. لقد تصدرت هذه الآية في أوائل السورة، لتقول لأهل الكتاب: إن النجاة عقيدة أساسها {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} ثم تربية تقر الطبائع البشرية في حدود الطهر، وتكره الإفراط والتفريط.. وتجعل البصر بالحياة الدنيا بصيرة تهدى للحياة الآخرة، وتمضى على الصراط المستقيم.