فصل: تفسير الآية رقم (3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقول الحق سبحانه في ختام سورة البقرة: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} يناسب أيضا سورة آل عمران، لماذا؟ لأن الإسلام سيأتي ليواجه معسكر كفر ومعسكر أهل الكتاب، فحتى لا تتشقق دعوة الله التي صدرت عن الله بمواكب الرسل جميعًا الذين سبقوا محمدًا صلى الله عليه وسلم وأن هذا جاء ليناقض شيئًا منه، أنه قد جاء ليعزز دعوة الله، ولتكون هذه الأمم التي تبعت هذه الديانات في صف الإسلام. ولذلك حينما أنكر العرب رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله لهم: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أي أن من عنده علم الكتاب يشهد أنك رسول الله.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِالله شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43].
فكان المفروض في أهل الكتاب أنهم حينما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكونوا هم أول المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه جاء ليؤكد موكب الإيمان ويأتي لهم بسورة يسميها آل عمران حتى يعلم الجميع أنك يا محمد لم تأتي لتهدم ديانة عيسى، ولكن لتبقى ديانة عيسى ولتؤيد ديانة عيسى، فإن كنتم يا من آمنتم بعيسى مؤمنين بعيسى فاهرعوا حالًا إلى الإيمان بمحمد؛ فقد سماها الله آل عمران، وجعل لهم سورة في القرآن.
إن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم تأت للعصبية، أو لتمحو ما قبلها كما تأتي عصبيات البشر حين يأتي قوم على أنقاض قوم، ويهدمون كل ما يتصل بهؤلاء القوم حتى التاريخ يمحونه، والأشياء يمسخونها؛ لأنهم يريدون أن ينشئوا تاريخًا جديدًا. لا إن هذا القرآن يريد أن يصوب التاريخ، فيأتي بسورة اسمها آل عمران وذلك تكريم عال لهذه الديانة ولتابعيها.
وبعد ذلك يأتي الحق فيستهلها: بقوله جل شأنه: {الله لا إله إلا هو الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. اهـ.
وقال الشعراوي:
{الله لا إله إلا هو الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.
تلك هي قضية القمة، ولذلك يتكرر في القرآن التأكيد على هذه القضية، {الله لا إله إلا هو}.
و{الله} كما يقولون مبتدأ، و{لا إله إلا هو} خبر، والمبتدأ لابد أن يكون متضحًا في الذهن، فكأن كلمة {الله} متضحة في الذهن، ولكنه يريد أن يعطي لفظ {الله} الوصف الذي يليق به وهو {لا إله إلا هو}. ولذلك يقول الحق: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ الله فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61].
إذن فالله متضح في أذهانهم، ولكن السلطات الزمنية أرادت أن تطمس هذا الأيضاح، فجاء القرآن ليزيل ويمحو هذا الطمس مؤكدا {الله لا إله إلا هو} فهذه قضية أطلقها الحق شهادة منه لنفسه: {شَهِدَ الله أنه لا إله إلا هو} [آل عمران: 18].
وكفى بالله شهيدًا؛ لأنها شهادة الذات للذات، وشهدت الملائكة شهادة المشهد فلم يروا أحدًا آخر إلا هو، وكذلك، شهد أولو العلم الذين يأخذون من الأدلة في الكون ما يثبت صدق الملائكة ويؤكد صدق الله، فإذا ما نظرنا نظرة أخرى نقول: إن الحق أطلقها على نفسه وقال: {لا إله إلا هو}؛ وجعلها كلمة التوحيد وجعل الأمر في غاية اليسر والسهولة والبساطة؛ فلم يشأ الله أن يجعل دليل الإيمان بالقوة العليا دليلًا معقدًا، أو دليلًا فلسفيًا، أو لا يستطيع أحد أن يصل إليه إلا أهل الثقافة العالية، لا، أن الدين مطلب للجميع؛ من راعي الشاة إلى الفيلسوف؛ أنه مطلوب للذي يكنس في الشارع كما هو مطلوب من الأستاذ الجامعي.
فيجب أن تكون قضية الإيمان في مستوى هذه العقول جميعًا؛ فلا فلسفة في هذه المسألة، لذلك شاء الحق أن يجعل هذه المسألة في منتهى البساطة فأوضح الله: أنا شهدت ألا إله إلا أنا، فإما أن يكون الأمر صدقًا وبذلك تنتهي المشكلة، وليس من حق أحد الاعتراض، وإن لم تكون صدقًا فقولوا لنا: أين الإله الآخر الذي سمع التحدي، وأخذ الله منه ذلك الكون، وقال: أنا وحدي في الكون، وأنا الذي خلقت، ثم لم نسمع ردًا عليه ولا عن معارض له، ألم يدر ذلك الإله الآخر؟
إذن فذلك الآخر لا ينفع أن يكون إلهًا، فإن علم ذلك الآخر ولم يدافع عن نفسه وملكيته للكون فإنه لا يصلح أن يكون إلهًا. وتصبح القضية لله إلى أن يظهر مدع ليناقضها، فـ {لا إله إلا هو} كلمة حق، وبالعقل والمنطق هو إله ولم نجدً معارضًا. وقلنا سابقًا: إن الدعوى حين تُدعى ولا يوجد معارض حين نَسمعها تكون لصاحبها إلى أن يوجد المعارض. وضربنا مثلا: نحن مجتمعون في حجرة، عشرة أشخاص، وبعد ذلك انصرفوا فوجد صاحب البيت حافظة نقود، فجاء واحد متلهفا وقال: لقد ضاعت مني حافظة نقود.
فقال له صاحب البيت: وجدنا حافظة ولكن كان هنا عشرة، فلما جئ بالعشرة، وسئلوا لم يدعها أحد، إذن فهي له.
إن الله قد قال: {لا إله إلا هو}، فإن كان هناك إله آخر فليظهر لنا، ولكن لا تظهر لنا إلا قوة الله {لا إله إلا هو} ومادام لا إله إلا هو، وهذا الكون يحتاج إلى قيومية لتدبيره، فلابد أن يكون حيا حياة تناسبه، لأنه سيهب حيوات كثيرة لكل الأجناس، للإنسان وللحيوان وللنبات وللجماد، إذن فالذي يوجدها لابد أن يكون حيًا ولابد أن تكون حياته مناسبة له.
وقيّوم هذه يسمونها صيغة مبالغة؛ لأنّ الحدث إذا وقع فإنه يقع مرة على صورة عادية، ومرة يقع على صورة قوية. مثلما تقول: فلان أكول، وأكول غير آكل، فكلنا نأكل، وكلنا يطلق علينا آكل، لكن ليس كلنا يُطلق علينا أكول لأن هذه اسمها صيغة مبالغة في الحدث.
وإذا كان الله هو الذي يدبر ويقوم على أمر كل عوالم الكون هل يكون قائما أو قَيُّومًا؟ لابد أن يكون قَيُّومًا. وقيوم معناها أيضا: قائم بذاته. فما شكل هذا القيام؟ إنه قيام أزلي كامل.
إذن فكلمة قيّوم صيغة مبالغة من القيام على الأمر، قائم بنفسه، قائم بذاته، ويُقيم غيره، والغير متعدد متكرر، فعندما يكون هذا الغير متعددًا ومتكررًا فهو يحتاج إلى صفة قوية في خالقه، فيكون الخالق قيّوما.
إن قوله الحق: {الله لا إله إلا هو الْحَيُّ الْقَيُّومُ} هو سند المؤمن في كل حركات حياته، عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: {الله لا إله إلا هو الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فضرب في صدري وقال: «ليهنك العلمُ أبا المنذر».
وقولوا لنا بالله: حين يوجد ولد وأب، هل يحمل الولد همّا لأي مسألة من مسائل الحياة؟ لا؛ لأن الأب متكفل بها، والمثل العامي يقول: الذي له أب لا يحمل همّا، إذن فالذي له ربٌّ عليه أن يستحي؛ لأنه سبحانه يقول: أنا حيّ، وأنا قيّوم، وقيّوم يعني قائم بأمرك.
ويؤكد سبحانه هذه القيّومية في سورة البقرة، فقال في آية الكرسي: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}، كأنه يقول لنا: ناموا أنتم لأنني لا أنام، وإلا فإن نمت أنت عن حراسة حركة حياتك فمن يحرسها لك؟ أنه سبحانه يتفضل علينا بقيوميته فـ {الله لا إله إلا هو الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، وما دام هو {الحيّ} و{القيّوم} فأمر منطقي أنه قائم بأمر الخلق جميعا وقد وضع لكل الخلق ما تقوم به حياتهم من مادة وصيانة مادة ومن قيم وصيانة قيم.
ومادام هو القيوم القائم بالأمر والمتولي الشئون للخلق فلابد أن يؤدي لهم مطلوبات مادتهم وما يبقيها، ومطلوبات قيمهم وما يبقيها. أما مطلوبات المادة فيقول فيها: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10].
إنه سبحانه يطمئنا على القوت، وأما مطلوبات القيم فقال سبحانه: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}. اهـ.

.تفسير الآية رقم (3):

قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان من معنى القيوم أنه المدبر للمصالح اتصل به الإعلام بتنزيل ما يتضمن ذلك، وهو الكتاب المذكور في قوله: {بما أنزل إليه من ربه} [البقرة: 285] والكتب المذكورة في أول البقرة في قوله: {بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} [البقرة: 4] وفي آخرها بقوله: {وكتبه ورسله} [البقرة: 285] التي من جملتها التوراة والإنجيل اللذان فيهما الآصار المرفوعة عنا، ثم شرح بعده أمر التصوير في الأحشاء، وذلك لأن المصالح قسمان: روحانية وجسمانية، وأشرف المصالح الروحانية العلم الذي هو الروح كالروح للبدن فإنها تصير به مرآة مجلوة ينجلي فيها صور الحقائق، وأشرف المصالح الجسمانية تعديل المزاج وتسوية البنية في أحسن هيئة، وقدم الروحانية المتكفل بها الكتاب لأنها أشرف.
ولما كانت مادة كتب دائرة على معنى الجمع عبر بالتنزيل الذي معناه التفريق لتشمل هذه الجملة على وجازتها من أمره على إجمال وتفصيل فقال: وقال الحرالي: ولما كانت إحاطة الكتاب أي في البقرة ابتداء وأعقبها أي في أول هذه السورة إحاطة الإلهية جاء هذا الخطاب ردًا عليه، فتنزل من الإحاطة الإلهية إلى الأحاطة الكتابية بالتنزيل الذي هو تدرج من رتبة إلى رتبة دونها؛ انتهى فقال: {نزّل} أي شيئًا فشيئًا في هذا العصر {عليك} أي خاصة بما اقتضاه تقديم الجار من الحصر، وكأن موجب ذلك ادعاء بعضهم أنه يوحي إليه وأنه يقدر على الإتيان بمثل هذا الوحي {الكتاب} أي القرآن الجامع للهدى منجمًا بحسب الوقائع، لم يغفل عن واحدة منها ولا قدم جوابها ولا أخره عن محل الحاجة، لأنه قيوم لا يشغله شأن عن شأن.
قال الحرالي: وهذا الكتاب هو الكتاب المحيط الجامع الأول الذي لا ينزل إلا على الخاتم الآخر المعقب لما أقام به حكمته من أن صور الأواخر مقامة بحقائق الأوائل، فأول الأنوار الذي هو نور محمد صلى الله عليه وسلم هو قثم خاتم الصور التي هي صورة محمد انتهى.
تنزيلًا ملتبسًا {بالحق} أي الأمر الثابت، فهو ثابت في نفسه، وكل ما ينشأ عنه من قول وفعل كذلك.
قال الحرالي: وكما أن هذا الكتاب هو الكتاب الجامع الأول المحيط بكل كتاب كذلك هو الحق المنزل به هذا الكتاب هو الحق الجامع المحيط الذي كل حق منه، وهو الحق الذي أقام به حكمته فيما رفع ووضع انتهى.
حال كونه {مصدقًا} ولما كان العامل مرفوعًا لأنه أمر فاعل قواه في اللام فقال: {لما بين يديه} أي من الكتب السماوية التي أتت بها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم عن الحضرة الإلهية.
قال الحرالي: لما كان هذا الكتاب أولًا وجامعًا ومحيطًا كان كل كتاب بين يديه ولم يكن من ورائه كتاب انتهى.
ولما كان نزاع وفد ونجران في الإله أو النبي أو فيهما كان هذا الكلام كفيلًا على وجازتة بالرد عليهم في ذلك ببيان الحق في الإله بالقيومية، وفي المعنى بالكتاب المعجز، ولما كانوا مقرين بالكتب القديمة أشار إلى أن ليس لهم إنكار هذا الكتاب وهو أعلى منها في كل أمر أوجب تصديقها وإلى أن من أنكره بعد ذلك كان من الأمر الظاهر أنه معاند لا شك في عناده فقال: {وأنزل التوراة} وهو فوعلة لو صرفت من الورى وهو قدح النار من الزند، استثقل اجتماع الواوين فقلب أولهما تاء كما في اتحاد واتّلاج واتّزار واتّزان ونحوه قال الحرالي: فهي توراة بما هي نور أعقبت ظلام ما وردت عليه من كفر دعي إليها من الفراعنة، فكان فيها هدى ونور {والإنجيل} من النجل، وضع على زيادة إفعيل لمزيد معنى ما وضعت له هذة الصيغة، وزيادتاها مبالغه في المعنى، وأصل النجل استخراج خلاصه الشيء، ومنه يقال للولد: نجل أبيه.
كان الإنجيل استخلص خلاصه نور التوراة فأظهر باطن ما شرع في التوراة ظاهرة، فإن التوراة كتاب إحاطة لأمر الظاهر الذي يحيط بالأعمال وإصلاح أمر الدنيا وحصول الفوز من عاقبة يوم الأخرى فهو جامع إحاطة الظواهر، وكل آية ظاهرة فمن كتاب التوراة والإنجيل كتاب إحاطة لأمر البواطن يحيط بالأمور النفسانية التي بها يقع لمح موجود الآخرة مع الإعراض عن إصلاح الدنيا بل مع هدمها، فكان الإنجيل مقيمًا لأمر الآخرة هادمًا لأمر الدنيا مع حصوله أدنى بلغة، وكانت التوراة مقيمة لإصلاح الدنيا مع تحصيل الفوز في الآخرة، فجمع هذان الكتابان إحاطتي الظاهر والباطن، فكان منزل التوراة من مقتضى اسمه الظاهر، وكان منزل الإنجيل من مقتضى اسمه الباطن، كما كان منزل الكتاب الجامع من مقتضى ما في أول هذه السورة من أسمائه العظيمة مع لحظ التوحيد ليعتبر الكتاب والسورة بما نبه بتنزيله من اسمه الله وسائر أسمائه على وجوه إحاطاتها انتهى وفيه تصرف؛ فأحاط هذا الكتاب إحاطة ظاهرة بأمري الظاهر والباطن بما أذن منه تصديقه للكتابين، وخصهما سبحانه وتعالى بالتنويه بذكرهما إعلامًا بعلي قدرهما. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن الكتاب هاهنا هو القرآن، وقد ذكرنا في أول سورة البقرة اشتقاقه، وإنما خص القرآن بالتنزيل، والتوراة والإنجيل بالإنزال، لأن التنزيل للتكثير، والله تعالى نزل القرآن نجما نجما، فكان معنى التكثير حاصلًا فيه، وأما التوراة والإنجيل فإنه تعالى أنزلهما دفعة واحدة، فلهذا خصهما بالإنزال، ولقائل أن يقول: هذا يشكل بقوله تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} [الكهف: 1] وبقوله: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإسراء: 105].
واعلم أنه تعالى وصف القرآن المنزّل بوصفين:
الوصف الأول: قوله: {بالحق} قال أبو مسلم: أنه يحتمل وجوهًا أحدها: أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السالفة وثانيها: أن ما فيه من الوعد والوعيد يحمل المكلف على ملازمة الطريق الحق في العقائد والأعمال، ويمنعه عن سلوك الطريق الباطل وثالثها: أنه حق بمعنى أنه قول فصل، وليس بالهزل ورابعها: قال الأصم: المعنى أنه تعالى أنزله بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية، وشكر النعمة، وإظهار الخضوع، وما يجب لبعضهم على بعض من العدل والإنصاف في المعاملات وخامسها: أنزله بالحق لا بالمعاني الفاسدة المتناقضة، كما قال: {أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} وقال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيرًا} [النساء: 82].
والوصف الثاني: لهذا الكتاب قوله: {مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} والمعنى أنه مصدق لكتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولما أخبروا به عن الله عزّ وجلّ، ثم في الآية وجهان الأول: أنه تعالى دلّ بذلك على صحة القرآن، لأنه لو كان من عند غير الله لم يكن موافقًا لسائر الكتب، لأنه كان أُميًا لم يختلط بأحد من العلماء، ولا تتلمذ لأحد، ولا قرأ على أحد شيئًا، والمفتري إذا كان هكذا امتنع أن يسلم عن الكذب والتحريف، فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصص بوحي الله تعالى الثاني: قال أبو مسلم: المراد منه أنه تعالى لم يبعث نبيًا قط إلا بالدعاء إلى توحيده، والإيمان به، وتنزيهه عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان، وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان، فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك، بقي في الآية سؤالان:
السؤال الأول: كيف سمي ما مضى بأنه بين يديه.
والجواب: أن تلك الأخبار لغاية ظهورها سماها بهذا الاسم.
السؤال الثاني: كيف يكون مصدقًا لما تقدمه من الكتب، مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام؟.
والجواب: إذا كانت الكتب مبشرة بالقرآن وبالرسول، ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثه، وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن، كانت موافقة للقرآن، فكان القرآن مصدقًا لها، وأما فيما عدا الأحكام فلا شبهة في أن القرآن مصدق لها، لأن دلائل المباحث الإلهية لا تختلف في ذلك، فهو مصدق لها في الأخبار الواردة في التوراة والإنجيل. اهـ.