فصل: من فوائد الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي:

قال رحمه الله:
{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}.
إذن فلم يعطنا سبحانه مقومات المادة فقط، ولكن أعطانا مقومات القيم أيضا؛ لأن المادة بدون قيم تكون شرسة هوجاء رعناء، فيريد الله أن يجعل المادة في مستوى إيماني. إذن لابد أن تنزل القيم. لذلك قال سبحانه: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} و{نَزَّلَ} تفيد شيئا قد وجب عليك؛ لأن النزول معناه: شيء من أعلى ينزل، وهو يقول لك: لا تتأبى على القيم التي جاءت لك من أعلى منك؛ لأنها ليست من مساو لك، إنها من خالق الكون والبشر، والذي يمكنك أن تتأبى عليه ما يأتي ممن هو أدنى منك.
لكن حين يجيء لك التقنين ممن هو أعلى منك فلا تتأبّ عليه؛ لأن خضوعك له ليس ذلة بل عزة، فقال: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}. وفي سياق القرآن نجده سبحانه يقول: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193].
ومرة أخرى يقول في القرآن الكريم: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء: 105].
ولكن هل نزل القرآن وحده؟ لقد كان جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعني ذلك خروج القرآن عن كونه نزل، فجبريل عليه السلام كان ينزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء: 105].
وبذلك تتساوى أنزل مع نزل. وحين نأتي للحدث أي الفعل في أي وقت من الأوقات فإننا نتساءل: أهو موقوت بزمن أم غير موقوت بزمن؟ إن القرآن الكريم قد نزل على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وعشرين عاما وينزل القرآن حسب الحوادث، فكل نجم من نجوم القرآن ينزل حسب متطلبات الأحداث. ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1].
والحق هنا يحدد زمنا. ولنا أن نعرف أن القرآن الذي نزل في ثلاثة وعشرين عاما هو الذي أنزله الله في ليلة القدر.
إذن فللقرآن نزولان اثنان: الأول: إنزال من أنزل.
الآخر: تنزيل من نَزّل.
إذن فالمقصود من قوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليباشر مهمته في الكون، وهذا ما أنزله الله في ليلة القدر.
والكتاب الكريم الذي أنزله الله في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ينزلُ منجما على حسب الأحداث التي تتطلب تشريعا أو أيضاحا لأمر.
لكن الكتب الأخرى لم يكن لها ذلك اللون من النزول والتنزيل، لقد نزلت مرة واحدة؛ لا حسب الأحداث والمناسبات، لقد جاءت مرة واحدة، كما نزل القرآن أولا من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.
ولننظر إلى الأداء القرآني حين يقول: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [آل عمران: 3].
وهنا يجب أن نلتفت إلى أن الحق قال عن القرآن: {نَزَّل} وقال عن التوراة والإنجيل: {أنزل}. لقد جاءت همزة التعدية وجمع سبحانه بين التوراة والإنجيل في الإنزال، وهذا يوضح لنا أن التوراة والإنجيل إنما أنزلهما الله مرة واحدة، أما القرآن الكريم فقد نَزَّله الله في ثلاث وعشرين سنة منجما ومناسبًا للحوادث التي طرأت على واقع المسلمين، ومتضمنا البلاغ الشامل من يوم الخلق إلى يوم البعث.
ونَزَّل الله القرآن منجما مناسبًا للأحداث، ليثبت فؤاد رسول الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتعرض لأحداث شتى، كلما يأتي حدث يريد تثبيتا ينزل نجم من القرآن.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32].
وكان النجم من القرآن ينزل، ويحفظه المؤمنون، ويعملون بهديه، ثم ينزل نجم آخر، والله سبحانه يقول: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33].
فمن رحمته سبحانه وتعالى بالمسلمين أن فتح لهم المجال لأن يسألوا، وأن يستوضحوا الأمور التي تغمض عليهم.
وجعل الحق سبحانه لأعمال المؤمنين الاختيارية خلال الثلاثة والعشرين عاما فرصة ليقيموا حياتهم في ضوء منهج القرآن، وصوب لهم القرآن ما كان من خطأ وذلك يدل على أن القرآن قد فرض الجدل والمناقشة، وفرض مجيء الشيء في وقت طلبه؛ لأن الشيء إذا ما جيء به وقت طلبه فإن النفس تقبل عليه وترضى به.
ومثال ذلك في حياتنا اليومية أن الواحد منا قد يملك في منزله صندوقا للأدوية مُمتلئا بألوان شتى من الداء، ولكن عندما يصاب صاحب هذا الصندوق بقليل من الصداع فهو يبحث عن قرص أسبرين، قد لا يعرف مكانه في صندوق الدواء فيبعث في شرائه، وذلك أسهل وأوثق. والحق سبحانه قد جمع للقرآن بين {نزّل} و{أنزل} فقال: {مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ}. اهـ.

.تفسير الآية رقم (4):

قوله تعالى: {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)}:

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما لم يكن إنزالهما مستغرقًا للماضي لأنه لم يكن في أول الزمان أدخل الجار معريًا من التقيد بمن نزلا عليه لشهرته وعدم النزاع بخلاف القرآن {من قبل} أي من قبل هذا الوقت إنزالًا انقضى أمره ومضى زمانه حال كون الكل {هدى} أي بيانًا، ولذا عم فقال: {للناس} وأما في أول البقرة فبمعنى خلق الهداية في القلب، فلذا خص المتقين؛ والحاصل أن هذه الآية كالتعليل لآخر البقرة فكأنه قيل: كل آمن بالله لأنه متفرد بالألوهية، لأنه متفرد بالحياة، لأنه متفرد بالقيومية؛ وآمن برسله الذين جاؤوا بكتبه المنزلة بالحق من عنده بواسطة ملائكته.
ولما كانت مادة فرق للفصل عبر بالإنزال الذي لا يدل على التدريج لما تقدم من إرادة الترجمة بالإجمال والتفصيل على غاية الإيجاز لاقتضاء الإعجاز، وجمع الكتابين في إنزال واحد واستجد لكتابنا إنزالًا تنبيهًا على علو رتبته عنهما بمقدار علو رتبه المتقين الذين هو هدى لهم، وبتقواهم يكون لهم فرقان على رتبة الناس الذين هما هدى لهم فقال تعالى: {وأنزل الفرقان} أي الكتاب المصاحب للعز الذي يكسب صاحبه قوة التصرف فيما يريد من الفصل والوصل الذي هو وظيفه السادة المرجوع إليهم عند الملمات، المقترن بالمعجزات الفارقة بين الحق والباطل، وسترى هذا المعنى إن شاء الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال بأوضح من هذا؛ فعل ذلك لينفذ قائله أمر الكتاب المقرر فيه الشرع الحق المباين لجميع الملل الباطلة والأهواء المضلة والنحل الفاسدة، وذلك هو روح النصر على أعداء الله المرشد إلى الدعاء به ختام البقرة.
قال الحرالي: فكان الفرقان جامعًا لمنزل ظاهر التوراة ومنزل باطن الإنجيل جمعًا يبدي ما وراء منزلهما بحكم استناده للتقوى التي هي تهيؤ لتنزل الكتاب {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} [الانفال: 29] فكان الفرقان أقرب الكتب للكتاب الجامع، فصار التنزيل في ثلاث رتب: رتبة الكتاب المنزل بالحق الجامع، ثم رتبة الفرقان المظهر لمحل الجمع بين الظاهر والباطن، ثم منزل التوراة والإنجيل المختفي فيه موضع ظاهر التوراة بباطن الإنجيل انتهى.
ومناسبة ابتدائها بالتوحيد لما في أثنائها أنه لما خلق عيسى عليه الصلاة والسلام من أنثى فقط وهي أدنى أسباب النماء كان وجوده إشارة إلى أن الزيادة قد انتهت، وأن الخلق أخذ في النقصان، وهذا العالم أشرف على الزوال، فلم يأت بعده من قومه نبي بل كان خاتم أنبياء بني إسرائيل، وكان هذا النبي الذي أتى بعده من غير قومه خاتم الأنبياء مطلقًا، وكان مبعوثًا مع نفس الساعة، وكان نزوله هو آخر الزمان علمًا على الساعة، وصدرت هذه السورة التي نزل كثير منها بسببه بالوحدانية إشارة إلى أن الوارث قد دنا زمان إرثه، وأن يكون ولا شيء معه كما كان، وأن الحين الذي يتمحض فيه تفرد الواحد قد حان، والآن الذي يقول فيه سبحانه له الملك اليوم قد آن؛ ويوضح ذلك أنه لما كان آدم عليه الصلاه والسلام مخلوقًا من التراب الذي هو أمتن أسباب النماء، وهو غالب على كل ما جاوره، وكانت الأنثى مخلوقة من آدم الذي هو الذكر وهو أقوى سببي التناسل كان ذلك إشارة إلى كثرة الخلائق ونمائهم وازديادهم، فصدر أول سورة ذكر فيها خلقه وابتداء أمره بالكتاب إشارة إلى أن ما يشير إليه ذكره من تكثر الخلائق وانتشار الأمم والطوائف داع إلى إنزال الشرائع وإرسال الرسل بالأحكام والدلائل، فالمعنى أن آدم عليه الصلاة والسلام لما كان منه الابتداء وعيسى عليه الصلاة والسلام لما كان دليلًا على الانتهاء اقتضت الحكمة أن يكون كل منهما مما كان منه، وأن تصدر سورة كل بما صدرت به والله سبحانه وتعالى الموفق.
وقال ابن الزبير ما حاصله: إن اتصالها بسورة البقرة والله سبحانه وتعالى أعلم من جهات: إحداها ما تبين في صدر السورة مما هو إحالة على ما ضمن في سورة البقرة بأسرها، ثانيها الإشارة في صدر السورة أيضا إلى أن الصراط المستقيم قد تبين شأنه لمن تقدم في كتبهم، فإن هذا الكتاب جاء مصدقًا لما نزل نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه، فهو بيان لحال الكتاب الذي هو هدى للمتقين، ولما بين افتراق الأمم بحسب السابقة إلى أصناف ثلاثة، وذكر من تعنت بني إسرائيل وتوقفهم ما تقدم أخبر سبحانه وتعالى هنا أنه أنزل عليهم التوراة، وأنزل بعدها الإنجيل، وأن كل ذلك هدى لمن وفق، إعلامًا منه سبحانه وتعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن من تقدمهم قد بين لهم {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} [الإسراء: 15]؛ والثالثة قصة عيسى عليه الصلاة والسلام وابتداء أمره من غير أب والاعتبار به نظير الاعتبار بآدم عليه الصلاة والسلام ولهذا أشار قوله سبحانه وتعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} [آل عمران: 59] انتهى.
ولما علم بذلك أمر القيوم سبحانه وتعالى بالحق وهو الإيمان علم أن لمخالفي أمره من أضداد المؤمنين الموصوفين وهم الكفرة المدعو بخذلانهم المنزل الفرقان لمحو أديانهم الويل والثبور، فاتصل بذلك بقوله: {إن الذين كفروا} أي غطوا ما دلتهم عليه الفطرة الأولى التي فطرهم الله سبحانه وتعالى عليها، ثم ما بينت لهم الرسل عليهم الصلاة والسلام عنه سبحانه وتعالى من البيان الذي لا لبس معه {بآيات الله} المستجمع لصفات الكمال إقبالًا منهم على ما ليس له أصلًا صفة كمال، وهذا الكفر كما قال الحرالي دون الكفر بأسماء الله الذي هو دون الكفر بالله، قال: فكما بدأ خطاب التنزيل من أعلاه نظم به ابتداء الكفر من أدناه انتهى.
{لهم عذاب شديد} كما تقتضيه صفتا العزة والنقمة، وفي وصفه بالشدة إيذان بأن من كفر دون هذا الكفر كان له مطلق عذاب.
قال الحرالي: ففي إشعاره أن لمن داخله كفر ما حط بحسب خفاء ذلك الكفر، فأفصح الخطاب بالأشد وألاح بالأضعف انتهى.
والآية على تقدير سؤال ممن كأنه قال: ماذا يفعل بمن أعرض عن الكتب الموصوفة؟ أو يقال: أنه لما قال: {وأنزل الفرقان} [آل عمران: 4] أي الفارق بين الحق والباطل من الآيات والأحكام عليك وعلى غيرك من الأنبياء لم يبق لأحد شبهة فقال: وأحسن من ذلك كله أنه سبحانه وتعالى ولما أنزل سورة البقرة على طولها في بيان أن الكتاب هدى للمتقين، وبين أن أول هذه وحدانيته وحياته وقيوميته الدالة على تمام العلم وشمول القدرة، فأنتج ذلك صدق ما أخبر به سبحانه وتعالى، أيد ذلك بالإعلام بأن ذلك الكتاب مع أنه هاد اليه حق، ودل على ذلك لمصادقته لما قبله من الكتب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {مِن قَبْلُ هُدًى لّلنَّاسِ}:
فاعلم أنه تعالى بيّن أنه أنزل التوراة والإنجيل قبل أن أنزل القرآن، ثم بيّن أنه إنما أنزلهما هدى للناس، قال الكعبي: هذه الآية دالة على بطلان قول من يزعم أن القرآن عمى على الكافرين وليس بهدى لهم، ويدل على معنى قوله: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44] أن عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز، كقول نوح عليه السلام {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَارًا} [نوح: 6] لما فروا عنده.
واعلم أن قوله: {هُدًى لّلنَّاسِ} فيه احتمالان الأول: أن يكون ذلك عائدًا إلى التوراة والإنجيل فقط، وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هدى والوصفان متقاربان.
فإن قيل: أنه وصف القرآن في أول سورة البقرة بأنه هدىً للمتقين، فلم لم يصفه هاهنا به؟.
قلنا: فيه لطيفة، وذلك لأنا ذكرنا في سورة البقرة أنه إنما قال: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] لأنهم هم المنتفعون به، فصار من الوجه هدىً لهم لا لغيرهم، أما هاهنا فالمناظرة كانت مع النصارى، وهم لا يهتدون بالقرآن فلا جرم لم يقل هاهنا في القرآن أنه هدىً بل قال: أنه حق في نفسه سواء قبلوه أو لم يقبلوه، وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون في صحتهما ويدعون بأنا إنما نتقول في ديننا عليهما فلا جرم وصفهما الله تعالى لأجل هذا التأويل بأنهما هدىً، فهذا ما خطر بالبال والله أعلم.
القول الثاني: وهو قول الأكثرين: أنه تعالى وصف الكتب الثلاثة بأنها هدى، فهذا الوصف عائد إلى كل ما تقدم وغير مخصوص بالتوراة والإنجيل، والله أعلم بمراده. اهـ.

.قال الألوسي:

{مِن قَبْلُ} متعلق بأنزل أي أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب، وقيل: من قبلك والتصريح به مع ظهور الأمر للمبالغة في البيان كذا قالوا برمتهم، وأنا أقول التصريح به للرمز إلى أن إنزالهما متضمن للإرهاص لبعثته صلى الله عليه وسلم حيث قيد الإنزال المقيد بمن قبل بقوله سبحانه: {هُدًى لّلنَّاسِ} أي أنزلهما كذلك لأجل هداية الناس الذين أنزلا عليهم إلى الحق الذي من جملته الإيمان به صلى الله عليه وسلم واتباعه حيث يبعث لما اشتملتا عليه من البشارة به والحث على طاعته عليه الصلاة والسلام والهداية بهما بعد نسخ أحكامهما بالقرآن إنما هي من هذا الوجه لا غير، والقول بأنه يهتدى بهما أيضا فيما عدا الشرائع المنسوخة من الأمور التي يصدقها القرآن ليس بشيء لأن الهداية إذ ذاك بالقرآن المصدق لا بهما كما لا يخفى على المنصف، ويجوز أن ينتصب {هدى} على أنه حال منهما والإفراد لما أنه مصدر جعلا نفس الهدى مبالغة أو حذف منه المضاف أي ذوي هدى، وجعله حالًا من {الكتاب} [آل عمران: 3] مما لا ينبغي أن يرتكب معه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وتقديم {مِنْ قَبْلُ} على {هُدىً لِلنَّاسِ} للاهتمام به. وأما ذكر هذا القيد فلكي لا يتوهم أن هدى التوراة والإنجيل مستمر بعد نزول القرآن. وفيه إشارة إلى أنها كالمقدمات لنزول القرآن، الذي هو تمام مراد الله من البشر {أن الدين عِنْدَ الله الإسلام} [آل عمران: 19] فالهدى الذي سبقه غير تام.
و{لِلنَّاسِ} تعريفه إما للعهد: وهم الناس الذين خوطبوا بالكتابين، وإما للاستغراق العرفي: فإنهما وإن خوطب بهما ناس معروفون، فإن ما اشتملا عليه يهتدي به كل من أراد أن يهتدي، وقد تهود وتنصر كثير ممن لم تشملهم دعوة موسى عليه وعيسى عليهما السلام، ولا يدخل في العموم الناس الذين دعاهم محمد صلى الله عليه وسلم: لأن القرآن أبطل أحكام الكتابين، وأما كون شرع من قبلنا شرعا لنا عند معظم أهل الأصول، فذلك فيما حكاه عنهم القرأن لا ما يوجد في الكتابين، فلا يستقيم اعتبار الاستغراق بهذا الاعتبار بل بما ذكرناه. اهـ.