فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَأَنزَلَ الفرقان}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَأَنزَلَ الفرقان}:

.قال ابن عاشور:

والفرقان في الأصل مصدر فرق كالشكران والكفران والبهتان، ثم أطلق عليه ما يفرق به بين الحق والباطل قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الفرقان: 41] وهو يوم بدر.
وسمي به القرآن قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] والمراد بالفرقان هنا القرآن؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، وفي وصفه بذلك تفضيل لهديه على هدي التوراة والإنجيل، لأن التفرقة بين الحق والباطل أعظم أحوال الهدي، لما فيها من البرهان، وإزالة الشبهة. وإعادة قوله: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} بعد قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} للاهتمام، وليوصل الكلام به في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ الله} [آل عمران: 4] الآية أي بآياته في القرآن. اهـ.

.قال الفخر:

ولجمهور المفسرين فيه أقوال:
الأول: أن المراد هو الزبور، كما قال: {وَءَاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُورًا} [النساء: 163] والثاني: أن المراد هو القرآن، وإنما أعاده تعظيمًا لشأنه ومدحًا بكونه فارقًا بين الحق والباطل أو يقال: أنه تعالى أعاد ذكره ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ليجعله فرقًا بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل، وعلى هذا التقدير فلا تكرار.
والقول الثالث: وهو قول الأكثرين: أن المراد أنه تعالى كما جعل الكتب الثلاثة هدى ودلالة، فقد جعلها فارقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع، فصار هذا الكلام دإلا على أن الله تعالى بيّن بهذه الكتب ما يلزم عقلًا وسمعًا، هذا جملة ما قاله أهل التفسير في هذه الآية وهي عندي مشكلة أما حمله على الزبور فهو بعيد، لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام، بل ليس فيه إلا المواعظ، ووصف التوراة والإنجيل مع اشتمالهما على الدلائل، وبيان الأحكام بالفرقان أولى من وصف الزبور بذلك، وأما القول الثاني: وهو حمله على القرآن فبعيد من حيث إن قوله: {وَأَنزَلَ الفرقان} عطف على ما قبله، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه والقرآن مذكور قبل هذا فهذا يقتضي أن يكون هذا الفرقان مغايرًا للقرآن، وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث، لأن كون هذه الكتب فارقة بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب وعطف الصفة على الموصوف وإن كان قد ورد في بعض الأشعار النادرة إلا أنه ضعيف بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام الله تعالى، والمختار عندي في تفسير هذه الآية وجه رابع، وهو أن المراد من هذا الفرقان المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال هذه الكتب، وذلك لأنهم لما أتوا بهذه الكتب وادعوا أنها كتب نازلة عليهم من عند الله تعالى افتقروا في إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم وبين دعوى الكذابين، فلما أظهر الله تعالى على وفق دعواهم تلك المعجزات حصلت المفارقة بين دعوى الصادق وبين دعوى الكاذب، فالمعجزة هي الفرقان، فلما ذكر الله تعالى أنه أنزل الكتاب بالحق، وأنه أنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك، بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة، فهذا هو ما عندي في تفسير هذه الآية، وهب أن أحدًا من المفسرين ما ذكره إلا أن حمل كلام الله تعالى عليه يفيد قوة المعنى، وجزالة اللفظ، واستقامة الترتيب والنظم، والوجوه التي ذكروها تنافي كل ذلك، فكان ما ذكرناه أولى والله أعلم بمراده. اهـ.

.قال الطبري:

والتأويل الذي ذكرناه عن محمد بن جعفر بن الزبير في ذلك، أولى بالصحة من التأويل الذي ذكرناه عن قتادة والربيع وأن يكون معنى {الفرقان} في هذا الموضع: فصل الله بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والذين حاجُّوه في أمر عيسى، وفي غير ذلك من أموره، بالحجة البالغة القاطعة عذرَهم وعذرَ نُظرائهم من أهل الكفر بالله.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب، لأن إخبارَ الله عن تنزيله القرآنَ- قبل إخباره عن تنزيله التوراة والإنجيل في هذه الآية- قد مضى بقوله: {نزل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقًا لما بين يديه}. ولا شك أن ذلك {الكتاب}، هو القرأن لا غيره، فلا وجه لتكريره مرة أخرى، إذ لا فائدة في تكريره، ليست في ذكره إياه وخبره عنه ابتداءً. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَأَنزَلَ الفرقان} الفرقانُ في الأصل مصدرٌ كالغفران أُطلق على الفاعل مبالغة والمرادُ به هاهنا إما جنسُ الكتبِ الإلهية عُبِّر عنها بوصف شامل لما ذُكر منها وما لم يُذكر على طريق التتميم بالتعميم إثرَ تخصيصِ بعضِ مشاهيرها بالذكر كما في قوله عز وجل: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا} إلى قوله تعالى: {وفاكهة} وإما نفسُ الكتبِ المذكورة أعيد ذكرها بوصف خاص لم يُذكر فما سبق، على طريقة العطفِ بتكرير لفظِ الإنزال تنزيلًا للتغايُر الوصفي منزلةَ التغايُر الذاتي كما في قوله سبحانه: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} وأما الزبورُ فإنه مشتمِلٌ على المواعظ الفارقة بين الحقِّ والباطِلِ الداعية إلى الخير والرشاد الزاجرةِ عن الشر والفساد، وتقديمُ الإنجيل عليه مع تأخره عنه نزولًا لقوة مناسبته للتوراة في الاشتمال على الأحكام والشرائع وشيوعِ اقرانِهما في الذكر وأما القُرآنُ نفسُه فذُكر بنعت مادحٍ له بعد ما ذكر باسم الجنس تعظيمًا لشأنه ورفعًا لمكانه وقد بُين أولًا تنزيلُه التدريجيُّ إلى الأرض وثانيًا إنزالُه الدفعيّ إلى السماء الدنيا أو أريد بالإنزال القدْرُ المشترك العاري عن قيد التدريج وعدمِه، وإما المعجزاتُ المقرونةُ بإنزال الكتبِ المذكورة الفارقة بين المُحقِّ والمُبْطل. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَأَنزَلَ الفرقان} أخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه القرآن فرق به بين الحق والباطل فأحل فيه حلاله وحرم حرامه وشرع شرائعه وحد حدوده وفرائضه وبين بيانه وأمر بطاعته ونهى عن معصيته، وذكر بهذا العنوان بعد ذكره باسم الجنس تعظيمًا لشأنه ورفعًا لمكانه، وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير أنه الفاصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى عليه السلام وغيره، وأيد هذا بأن صدر السورة كما قدمنا نزلت في محاجة النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر أخيه عيسى عليه السلام وعليه يكون المراد بالفرقان بعض القرآن ولم يكتف باندراجه في ضمن الكل اعتناءًا به، ومثل هذا القول ما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن المراد به كل آية محكمة، وقيل: المراد به جنس الكتب الإلهية عبر عنها بوصف شامل لما ذكر منها وما لم يذكر على طريق التتميم بالتعميم إثر تخصيص بعض مشاهيرها بالذكر، وقيل: نفس الكتب المذكورة أعيد ذكرها بوصف خاص لم يذكر فيما سبق على طريق العطف بتكرير لفظ الإنزال تنزيلًا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي، وقيل: المراد به الزبور وتقديم الإنجيل عليه مع تأخره عنه نزولًا لقوة مناسبته للتوراة في الاشتمال على الأحكام وشيوع اقترانهما في الذكر، واعترض بأن الزبور مواعظ فليس فيه ما يفرق بين الحق والباطل من الأحكام، وأجيب بأن المواعظ لما فيها من الزجر والترغيب فارقة أيضا ولخفاء الفرق فيها خصت بالتوصيف به، وأورد عليه بأن ذكر الوصف دون الموصوف يقتضي شهرته به حتى يغني عن ذكر موصوفه والخفاء إنما يقتضي إثبات الوصف دون التعبير به، وقيل: المراد به المعجزات المقرونة بإنزال الكتب المذكورة الفارقة بين المحق والمبطل، وعلى أي تقدير كان فهو مصدر في الأصل كالغفران أطلق على الفاعل مبالغة. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقال بعض المفسرين، {الفرقان} هنا كل أمر فرق بين الحق والباطل، فيما قدم وحدث، فيدخل في هذا التأويل طوفان نوح، وفرق البحر لغرق فرعون، ويوم بدر، وسائر أفعال الله تعالى المفرقة بين الحق والباطل، فكأنه تعالى ذكر الكتاب العزيز، ثم التوراة والإنجيل، ثم كل أفعاله ومخلوقاته التي فرقت بين الحق والباطل، كما فعلت هذه الكتب. اهـ.

.قال القشيري:

{وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى للنَّاسِ وَأَنزَلَ الفُرْقَانَ}.
أي إنا أنزلنا قبلك كُتُبَنَا على المرسلين فما أخْلَيْنَا كتابًا من ذِكْرِكْ، قال قائلهم:
وعندي لأحبابنا الغائبين ** صحائفُ ذِكرُك عنوانُها

وكما أتممنا بك أنوار الأنبياء زيَّنا بذكرك جميع ما أنزلنا من الأذكار. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من فوائد الشعراوي:
قال رحمه الله:
{مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.
ويأتي القول الفصل في: {وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ}.
هنا الجمع بين {نزل} و{أنزل}.
وساعة يقول الحق عن القرآن: {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} فمعنى ذلك أن القرآن يوضح المتجه؛ أنه مصدق لما قبله ولما سبقه، أنه مصدق للقضايا العقدية الإيمانية التي لا يختلف فيها دين عن دين؛ لأن الديانات إن اختلفت فإنما تختلف في بعض الأحكام، فهناك حكم يناسب زمنا وحكم آخر لا يناسب ذلك الزمن. أما العقائد فهي لا تتغير ولا تتبدل، وكذلك الأخبار وتاريخ الرسل، فليس في تلك الأمور تغيير.
ومعنى {مصدق} أي أن يطابق الخبر الواقع، وهذا ما نسميه الصدق. وإن لم يطابق الخبر الواقع فإننا نسميه كذبا. إذن، فالواقع هو الذي يحكم. ولذلك قلنا من قبل: إن الصادق هو الذي لا تختلف روايته للأحداث؛ لأنه يستوحي واقعا، وكلما روى الحادثة فإنه يرويها نفسها بكلماتها وتفاصيلها، أما الكاذب فلا يوجد له واقع يحكي عنه، لذلك يُنشئ في كل حديث واقعا جديدا، ولذلك يقول الناس: إن كنت كذوبا فكن ذكورا. أي إن كنت تكذب- والعياذ بالله- فتذكر ما قلت؛ حتى لا تناقضه بعد ذلك. فالصادق هو من يستقرئ الواقع، ومادام يروي عن صدق فهو يروي عن أمر ثابت لا تلويه الأهواء، فلا يحكي مرة بهوى، ومرة بهوى آخر.
ومادام الخبر صادقًا فإنه يصبح حقًا؛ لأن الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير وسبحانه يقول هنا: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ}.
وقد تكلمنا من قبل عن التوراة، وقلنا: إن بعضًا من العلماء حين يتعرض للفظ من الألفاظ فهو يحاول أن يجعله من اللغة العربية، ويحاول أن يعثر له على وزن من الأوزان العربية، وأن يأتي له بصفة من الصفات العربية، فقال بعضهم من التوراة: إنها الوَرْى- بسكون الراء- وكان الناس قديمًا يشعلون النار بضرب عود في عود آخر، ويقولون: الزند قد ورى، أي قد خرجت ناره. وقال بعض العلماء أيضا: إن الإنجيل من النجْل، وهو الزيادة.
وأقول لهؤلاء العلماء: لقد نظرتم إلى هذه الألفاظ على أنها ألفاظ عربية، لكن التوراة لفظ عبري، والإنجيل لفظ سرياني أو لفظ يوناني، وصارت تلك الكلمات علما على تلك الكتب وجاءت إلى لغتنا. ولا تظنوا أن القرآن مادام قد نزل عربيًا فكل ألفاظه عربية، لا. صحيح أن القرآن عربي، وصحيح أيضا أنه قد جاء وهذه الألفاظ دائرة على لسان العرب، وإذا تم النطق بها يُفهم معناها.
والمثال على ذلك أننا في العصر الحديث أدخلنا في اللغة كلمة بنك وتكلمنا بها، فأصبحت عربية؛ لأنها تدور على اللسان العربي، فمعنى أن القرآن عربي أن الله حينما خاطب العرب خاطبهم بألفاظ يفهمونها، وهي دائرة في ألسنتهم، وإن لم تكن في أصلها عربية. وحينما تكلم الحق عن التوراة والإنجيل وقال: إن القرآن جاء مصدقا لهما قال جل شأنه: {مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 4].
فأي ناس هؤلاء الذين قال عنهم: {هُدًى لِّلنَّاسِ}؟ لاشك أنهم الناس الذين عاصروا الدعوة لتلك الكتب. وإذا كان القرآن قد جاء مصداقا لما في التوراة والإنجيل ألا تكون هذه الكتب هداية لنا أيضا؟ نعم هي هداية لنا، ولكن الهداية إنما تكون بتصديق القرآن لها، حتى لا يكون كل ما جاء فيهما ومنسوبا إليهما حجة علينا. فالذي يصدقه القرآن هو الحجة علينا، فيكون {هُدًى لِّلنَّاسِ} معناها: الذين عاصروا هذه الديانات وهذه الكتب، ونحن مؤمنون بما فيها بتصديق القرآن لها.
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى: {وأنزل الفرقان} يدل على أن الكتاب- أي القرآن- سيعاصر مهمة صعبة؛ فكلمة الفرقأن لا تأتي إلا في وجود معركة، ونريد أن نفرق بين أمرين: هدى وضلال، حق وباطل، شقاء وسعادة، استقامة وانحراف، إذن فكلمة الفرقان تدل على أن القرآن إنما جاء ليباشر مهمة صعبة وهو أنه يفرق بين الخير والشر، ومادام يفرق بين الخير والشر إذن ففيه خير وله معسكر، وفيه شر وله معسكر، إذن ففيه فريقان. ويأتي للفريق الذي يدافع عن الحق نضالًا وجهادًا بما يفرق له ويميز به بين الحق والباطل ويختم الحق هذه الآية بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.
ولماذا جاء هذا التذييل على هذه الصورة في هذه الآية؟ أي مادام القرآن فرقانًا فلابد أن يفرق بين حق وباطل، والحق له جنوده، وهم المؤمنون، والباطل له جنوده وهم الكافرون، والشر قد جاء من الكافرين فلابد أن يتكلم عن الذين كفروا {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}. والعذاب إيلام، ويختلف قُوّة وضعفا باعتبار المؤلم المباشر للعذاب. فصفعة طفل غير صفعة شاب غير صفعة رجل قوي، كل واحد يوجه الصفعة بما يناسب قوّته، فإذا كان العذاب صادرًا من قوة القوي وهو الله، إذن فلابد أنه عذاب لا يطاق.
{لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} أي لا يُغلب على أمره، ولا توجد قوة أخرى ضده، وانتقامه لن يستطيع أحد أن يرده.
وقوله الحق سبحانه وتعالى: أنه قيّوم أي يقوم بشئون خلقه إيجادًا وإمدادًا، بناء مادة وإيجاد قيم، لابد أن يتفرع من ذلك أنه يعلم كل الخلق ويعلم الخبايا، ولذلك يضع التقنين المناسب لكل ما يجري لهم، والتقنينات التي تأتي من البشر تختلف عن التقنينات الموجودة من الله، لماذا؟
لأن الله حين يقنن بكتاب ينزله على رسوله ليبلغ حكم الله فيه فهو سبحانه يقنن لما يعلم، وما يعلمه سبحانه قد يعلمه خلقه وقد لا يعلمونه، وقد تأتي الأحداث بما لم يكن في بال المشرع البشري المقنن حين يقنن، ولذلك يضطرون عادة إلى تغيير القانون؛ لأنه قد جدّت أحداث لم يلتفت إليها المشرع البشري.
ولماذا لم يلتفت إليها المشرع البشري؟ لأن علمه مقصور على المرئيات التي توجد في عصره وغير معاصر للأشياء التي تحدث بعد عصره، وأيضا يقنن لملكات خفية عنه.
إن الحق سبحانه وتعالى لكونه قيّوما ويُنزل ما يفرق بين الحق والباطل، فهو سبحانه يعلم علمًا واسعًا، بحيث لا يُستدرك عليه، ولذلك فالذين يحاولون أن يقولوا: إن هذا الحكم غير ملائم للعصر، نقول لهم: أتستدركون على الله؟! كأنكم تقولون: إن الله قد فاته مثل هذه الحكاية ونريد أن نصححها له!.
لا، لا تستدركوا على الله، وخذوا حكم الله هكذا؛ لأن هذا هو الحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه حكم من عالم لا يتجدد علمه، ولا يطرأ شيء على علمه، وفوق كل ذلك فهو سبحانه لا ينتفع بما يقنن، وهو سبحانه يقول: {إِنَّ الله لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ}. اهـ.