فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

ومن بدائع البلاغة أن ذكر في القصر فعل أنزل، الذي هو مختص بالله تعالى ولو بدون صيغة القصر، إذ الإنزال يرادف الوحي ولا يكون إلا من الله بخلاف ما لو قال هو الذي آتاك الكتاب. اهـ.

.قال ابن قتيبة:

باب المتشابه:
وأما قولهم: ماذا أراد بإنزال المتشابه في القرآن، من أراد بالقرآن لعباده الهدى والتّبيان؟.
- فالجواب عنه: أن القرآن نزل بألفاظ العرب ومعانيها، ومذاهبها في الإيجاز والاختصار، والإطالة والتوكيد، والإشارة إلى الشيء، وإغماض بعض المعاني حتى لا يظهر عليه إلا اللّقن، وإظهار بعضها، وضرب الأمثال لما خفي.
ولو كان القرآن كله ظاهرا مكشوفا حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل، لبطل التفاضل بين الناس، وسقطت المحنة، وماتت الخواطر.
ومع الحاجة تقع الفكرة والحيلة، ومع الكفاية يقع العجز والبلادة.
وقالوا: عيب الغنى أنه يورث البله، وفضيلة الفقر أنه يبعث الحيلة.
وقال: أكثم بن صيفيّ: ما يسرّني أني مكفيّ كلّ أمر الدنيا. قيل له: ولم؟ قال:
أكره عادة العجز.
وكل باب من أبواب العلم: من الفقه والحساب والفرائض والنحو، فمنه ما يجلّ، ومنه ما يدقّ، ليرتقي المتعلم فيه رتبة بعد رتبة، حتى يبلغ منتهاه، ويدرك أقصاه ولتكون للعالم فضيلة النظر، وحسن الاستخراج، ولتقع المثوبة من الله على حسن العناية.
ولو كان كل فن من العلوم شيئا واحدا: لم يكن عالم ولا متعلم، ولا خفيّ ولا جليّ لأن فضائل الأشياء تعرف بأضدادها، فالخير يعرف بالشر، والنفع بالضرّ، والحلو بالمر، والقليل بالكثير، والصغير بالكبير، والباطن بالظاهر.
وعلى هذا المثال كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكلام صحابته والتابعين، وأشعار الشعراء، وكلام الخطباء- ليس منه شيء إلا وقد يأتي فيه المعنى اللطيف الذي يتخيّر فيه العالم المتقدّم، ويقرّ بالقصور عنه النّقّاب المبرّز.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تجدون الناس كإبل مائة ليس فيها راحلة».
وقال: «لا تستضيئوا بنار المشركين».
وقال: «إنّ ممّا ينبت الرّبيع ما يقتل حبطا أو يلمّ».
وقال للضحّاك بن سفيان حين بعثه إلى قومه: «إذا أتيتهم فاربض في دارهم ظبيا».
وقال: «الكاسيات العاريات لا يدخلن الجنة».
وكتب في كتاب صلح: «و إن بيننا وبينكم عيبة مكفوفة».
وقال: «أجد نفس ربّكم من قبل اليمن».
وقال أبو بكر الصديق: نحن حفنة من حفنات الله.
وقال عمر بن الخطاب للعريف الذي أتاه بالمنبوذ: عسى الغوير أبؤسا.
وقال عليّ بن أبي طالب: من يطل هن أبيه ينتطق به.
وحدّثت عن الأصمعي أنه قال: أعياني أن أعلم معنى قول عمر: أيما رجل بايع عن غير مشاورة، فلا يؤمّر واحد منهما تغرّة أن يقتلا.
وقال المازنيّ: سألت الأخفش عن حرف رواه سيبويه عن الخليل في (باب من الابتداء يضمر فيه ما بني على الابتداء) وهو قوله: ما أغفله عنك شيئا، أي دع الشّكّ: ما معناه؟.
قال الأخفش: أنا مذ ولدت أسأل عن هذا.
وقال المازنيّ: سألت الأصمعي وأبا زيد، وأبا مالك عنه، فقالوا: ما ندري ما هو.
والعرب تقول:
(حور في محارة).
و(جري المذكّيات غلاب).
و(عيل ما هو عائله).
و(إنّه لشرّاب بأنقع).
و(عاط بغير أنواط).
و(إلّا ده فلا ده).
و(النّفاض يقطّر الجلب).
و(به داء ظبي).
و(أراك بشر ما أحار مشفر).
و(أفلت فلان بجريعة الذّقن).
و(غبار ذيل المرأة الفاجرة يورث السّلّ).
و(هو كبارح الأرويّ).
و(عبد وخلى في يديه).
و(رمّدت الضأن فربّق ربّق، ورمّدت المعزى فرنّق رنّق).
و(أفواهها مجاسّها).
و(نجارها نارها).
في أشباه لهذا كثيرة، لولا العلماء المنقّبون في البلاد، المنقّرون عن الخبء، الناظرون للخلوف، الطالبون أعقاب الأحاديث، ولسان الصّدق في الباقين- لطال علينا أن نطلع على خفيّاتها، أو نظهر مستورها.
وإن آثرت أن تعرف معانيها التمستها في كتابنا المؤلف في (تفسير غريب الحديث) فإنك واجدها أو أكثرها هناك، إن شاء الله تعالى.
وحدثني أبو حاتم، عن الأصمعي أنه قال: سألت عيسى بن عمر عن قول أمية بن أبي الصّلت:
والأرض نوّخها الإله طروقة ** للماء حتّى كلّ زند مسفد

فقال: لا أعرفه، وقد سألت عنه فلم أجد من يعرفه.
فهذا الأصمعي، وعيسى بن عمر، ومن سأله عيسى من أهل اللّغة، لم يعرفوا هذا البيت، وفسّره من دونهم فقال: معناه: أن الله جعل الأرض كالأنثى للماء، وجل الماء كالذكر للأرض، فإذا مطرت أنبتت.
ثم قال: وهكذا كل شيء حتى الزّنود، فإن على الزّندين ذكر، والأسفل أنثى، والنار لهما كالولد.
و(مسفد) بمعنى: منكح. تقول: سفد الذكر الأنثى، والله أسفده، كما تقول:
نكح والله أنكحه.
ومثل هذا قول ذي الرّمة.
وسقط كعين الدّيك عاورت صحبتي ** أباها وهيّأنا لموقعها وكرا

مشهّرة لا تمكن الفحل أمّها ** إذا هي لم تمسك بأطرافها قسرا

أراد بالسّقط: النار، وأراد بالأب: الزّند الأعلى، وبالأمّ: الزند الأسفل.
وحدثني أبو حاتم عن الأصمعي أيضا، عن عيسى بن عمر، أنه قال: لا أدري ما معنى قول أميّة بن أبي الصّلت الثّقفي، ولا رأيت أحدا يحسنه:
سلع ما ومثله عشر ما ** عائل ما وعالت البيقورا

هكذا رواه عسل ما وإنما هو: سلع ما.
ومعنى البيت: أنهم كانوا يستمطرون بالسّلع والعشر، وهما ضربان من الشجر، فيعقدونهما في أذناب البقر، ويضرمون فيهما النار.
وقوله: «وعالت البيقور» يعني: سنة الجدب أثقلت البقر بما حمّلت من الشجر والنار فيها والعائل: الفقير.
والدليل على أنّ الرّواية (سلع ما) قول الآخر:
أجاعل أنت بيقورا مسلّمة ** ذريعة لك بين الله والمطر

وحدثني أيضا أبو حاتم، عن الأصمعي، أنه قال في بيت امرئ القيس:
نطعنهم سلكى ومخلوجة ** كرّك لأمين على نابل

ذهب من يحسن هذا الكلام.
وقال مثل ذلك في بيت الحارث بن حلّزة:
زعموا أنّ كلّ من ضرب العي ** ر موال لنا وأنّا الولاء

وفسّره الأصمعيّ فقال: أراد نطعنهم طعنة سلكى، أي مستوية، ومخلوجة: عادلة ذات اليمين وذات الشمال، كما تردّ سهمين على صاحب سهام قد دفعهما إليك لتنظر إليهما، وإذا أنت ألقيتهما إليه: لم يقعا جميعا مستويين على جهة واحدة، ولكن أحدهما يعوجّ، ويستوي الآخر. فشبّه جهتي الطعنتين، بجهتي هذين السهمين.
وقال الزّيادي: كان زيد بن كثوة العنبريّ يقول: الناس يغلطون في لفظ هذا البيت ومعناه، وإنما هو: كرّ كلامين على نابل. أي: نطعن طعنتين متواليتين لا نفصل بينهما، كما تقول للرامي: ارم ارم، فهذان كلامأن لا فصل بينهما، شبّه بهما الطعنتين في موالاته بينهما. وكان يستحسن هذا المعنى.
وأما (العير) فقد اختلفوا فيه: فكان بعضهم يجعله الوتد، سمّاه عيرا لنتوئه مثل عير نصل السّهم، وهو الناتئ وسطه. يريد: أن كل من ضرب خباء من أهل العمد، فضرب له وتدا- رمونا بذنبه.
وقال بعضهم: هو كليب وائل، والعير: سيّد القوم، سمّي بذلك لأنّ العير أكبر الوحش، ولذلك قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، لأبي سفيان: «كلّ الصّيد في جوف العير».
وقال آخر: العير جبل بالمدينة، ومنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرّم ما بين عير إلى ثور. يرد كلّ من ضرب إلى ذلك الموضع وبلغه.
وقال آخر: هو الحمار نفسه، يريد أنفسهم يضيفون إلينا ذنوب كلّ من ساق حمارا.
ومعنى هذا كله: أنهم يلزموننا بذنوب الناس جميعا، ويجعلوننا أولياءهم.
وقال الأصمعي: لا أدري ما معنى قول رؤبة:
يغمسن من غمسنه في الأهيغ

ثم قال بعده: يوهم أنّ ثمّ ماء.
وقال ابن الأعرابي: يقال: فلان منغمس في الأهيغين، يراد: الأكل والنّكاح.
وقال أيضا: لا أدري ما معنى قول رؤبة في صفة الثور:
كأنه حامل جنب أخذعا وقال ابن الأعرابي: أراد: كأنه ضرب بالسيف ضربة فتعلّقت جنبه وهو حاملها، وذلك لميله من بغيه على أحد جانبيه. والخذع: الميل.
ومثل هذا كثير، وفيما ذكرنا منه ما أقنع ودلّ على ما أردناه، إن شاء الله تعالى.
ولسنا ممن يزعم: أنّ المتشابه في القرأن لا يعلمه الراسخون في العلم.
وهذا غلط من متأوّليه على اللّغة والمعنى.
ولم ينزل الله شيئا من القرآن إلا لينفع به عباده، ويدلّ به على معنى أراده.
فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطّاعن مقال، وتعلّق علينا بعلّة.
وهل يجوز لأحد أن يقول: إن رسول، الله صلّى الله عليه وسلّم، لم يكن يعرف المتشابه؟!.
وإذا جاز أن يعرفه مع قول الله تعالى: {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله} [آل عمران: 7] جاز أن يعرفه الرّبّانيون من صحابته، فقد علّم عليّا التفسير.
ودعا لابن عباس فقال: «اللهم علّمه التأويل، وفقّهه في الدين».
وروى عبد الرّزّاق، عن إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: كلّ القرآن أعلم إلا أربعا: غسلين، وحنانا، والأوّاه، والرّقيم.
وكان هذا من قول ابن عباس في وقت، ثمّ علم ذلك بعد.
حدثني محمد بن عبد العزيز، عن موسى بن مسعود، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: تعلمونه وتقولون: آمنا به.
ولو لم يكن للراسخين في العلم حظ في المتشابه إلا أن يقولوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا [آل عمران: 7]- لم يكن للراسخين فضل على المتعلمين، بل على جهلة المسلمين، لأنهم جميعا يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.
وبعد:
فإنّا لم نر المفسرين توقّفوا عن شيء من القرآن فقالوا: هذا متشابه لا يعلمه إلا الله، بل أمرّوه كلّه على التفسير، حتى فسروا (الحروف المقطّعة) في أوائل السّور، مثل: الر، وحم، وطه، وأشباه ذلك. وسترى ذلك في الحروف المشكلة، إن شاء الله.
فإن قال قائل: كيف يجوز في اللغة أن يعلمه الراسخون في العلم، والله تعالى يقول: {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] وأنت إذا أشركت الراسخين في العلم انقطعوا عن {يقولون}، وليست هاهنا واو نسق توجب للراسخين فعلين. وهذا مذهب كثير من النحويين في هذه الآية، ومن جهته غلط قوم من المتأوّلين؟.
قلنا له: إن {يقولون} هاهنا في معنى الحال، كأنه قال: الرّاسخون في العلم قائلين: آمنا به. ومثله في الكلام: لا يأتيك إلا عبد الله، وزيد يقول: أنا مسرور بزيارتك. يريد: لا يأتيك إلا عبد الله وزيد قائلا: أنا مسرور بزيارتك.
ومثله لابن مفرّغ الحميريّ يرثي رجلا في قصيدة أولها:
أصرمت حبلك من أمامه ** من بعد أيّام برامه

والرّيح تبكي شجوها ** والبرق يلمع في غمامه

أراد: والبرق لا معا في غمامة تبكي شجوه أيضا، ولو لم يكن البرق يشرك الرّيح في البكاء، لم يكن لذكره البرق ولمعه معنى.
وأصل (التّشابه): أن يشبه اللفظ اللفظ في الظاهر، والمعنيان مختلفان. قال الله جل وعز في وصف ثمر الجنة: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا} [البقرة: 25]، أي متّفق المناظر، مختلف الطّعوم. وقال: {تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118] أي يشبه بعضها بعضا في الكفر والقسوة.
ومنه يقال: اشتبه عليّ الأمر، إذا أشبه غيره فلم تكد تفرّق بينهما، وشبّهت عليّ:
إذا لبّست الحقّ بالباطل، ومنه قيل لأصحاب المخاريق أصحاب الشّبه، لأنهم يشبّهون الباطل بالحق.
ثم قد يقال لكلّ ما غمض ودقّ متشابه، وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشّبه بغيره، ألا ترى أنه قد قيل للحروف المقطّعة في أوائل السّور: متشابه، وليس الشك فيها، والوقوف عندها لمشاكلتها غيرها، والتباسها بها.
ومثل المتشابه (المشكل). وسمي مشكلا: لأنه أشكل، أي دخل في شكل غيره فأشبهه وشاكله.
ثم قد يقال لما غمض- وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة-: مشكل.
وقد بيّنت ما غمض من معناه لا لتباسه بغيره، واستتار المعاني المختلفة تحت لفظه، وتفسير (المشكل) الذي ادّعي على القرآن فساد النّظم فيه.
وقدّمت قبل ذلك (أبواب المجاز): إذ كان أكثر غلط المتأوّلين من جهته.
وأرجو أن يكون في ذلك ما شفي مرض القلوب، وهدى من الحيرة، إن شاء الله. اهـ.