فصل: قال البقاعي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال المحققون: إن هذا يعم جميع المبطلين، وكل من احتج لباطله بالمتشابه، لأن اللفظ عام، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه ومن جملته ما وعد الله به الرسول من النصرة وما أوعد الكفار من النقمة ويقولون {ائتنا بِعَذَابِ الله} [العنكبوت: 29] {ومتى تَأْتِينَا الساعة} [سبأ: 3] {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} [الحجر: 7] فموهوا الأمر على الضعفة، ويدخل في هذا الباب استدلال المشبهة بقوله تعالى: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] فإنه لما ثبت بصريح العقل أن كل ما كان مختصًا بالحيز فإما أن يكون في الصغر كالجزء الذي لا يتجزأ وهو باطل بالاتفاق وإما أن يكون أكبر فيكون منقسمًا مركبًا وكل مركب فإنه ممكن ومحدث، فبهذا الدليل الظاهر يمتنع أن يكون الإله في مكان، فيكون قوله: {الرحمن عَلَى العرش استوى} متشابهًا، فمن تمسك به كان متمسكًا بالمتشابهات ومن جملة ذلك استدلال المعتزلة بالظواهر الدالة على تفويض الفعل بالكلية إلى العبد، فإنه لما ثبت بالبرهان العقلي أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي، وثبت أن حصول ذلك الداعي من الله تعالى، وثبت متى كان الأمر كذلك كان حصول الفعل عند تلك الداعية واجبًا، وعدمه عند عدم هذه الداعية واجبًا، فحينئذ يبطل ذلك التفويض، وثبت أن الكل بقضاء الله تعالى وقدره ومشيئته، فيصير استدلال المعتزلة بتلك الظواهر وإن كثرت استدلالًا بالمتشابهات، فبيّن الله تعالى في كل هؤلاء الذين يعرضون عن الدلائل القاطعة ويقتصرون على الظواهر الموهمة أنهم يتمسكون بالمتشابهات لأجل أن في قلوبهم زيغًا عن الحق وطلبًا لتقرير الباطل.
واعلم أنك لا ترى طائفة في الدنيا إلا وتسمي الآيات المطابقة لمذهبهم محكمة، والآيات المطابقة لمذهب خصمهم متشابهة ثم هو الأمر في ذلك ألا ترى إلى الجبائي فإنه يقوله: المجبرة الذين يضيفون الظلم والكذب، وتكليف ما لا يطاق إلى الله تعالى هم المتمسكون بالمتشابهات.
وقال أبو مسلم الأصفهاني: الزائغ الطالب للفتنة هو من يتعلق بآيات الضلال، ولا يتأوله على المحكم الذي بيّنه الله تعالى بقوله: {وَأَضَلَّهُمُ السامرى} [طه: 85] {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى} [طه: 79] {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26] وفسروا أيضا قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} [الإسراء: 16] على أنه تعالى أهلكهم وأراد فسقهم، وأن الله تعالى يطلب العلل على خلقه ليهلكهم مع أنه تعالى قال: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185] {وَيُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ} [النساء: 26] وتأولوا قوله تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل: 4] على أنه تعالى زين لهم النعمة ونقضوا بذلك ما في القرآن كقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون} [القصص: 59] وقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17] وقال: {فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} [يونس: 108] وقال: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] فكيف يزين النعمة؟ فهذا ما قاله أبو مسلم، وليت شعري لم حكم على الآيات الموافقة لمذهبه بأنها محكمات، وعلى الآيات المخالفة لمذهبه بأنها متشابهات؟ ولم أوجب في تلك الآيات المطابقة لمذهبه إجرائها على الظاهر، وفي الآيات المخالفة لمذهبه صرفها عن الظاهر؟ ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالرجوع إلى الدلائل العقلية الباهرة، فإذا دلّ على بطلان مذهب المعتزلة الأدلة العقلية، فإن مذهبهم لا يتم إلا إذا قلنا بأنه صدر عن أحد الفعلين دون الثاني من غير مرجح، وذلك تصريح بنفي الصانع، ولا يتم إلا إذا قلنا بأن صدور الفعل المحكم المتقن عن العبد لا يدل على علم فاعله به، فحينئذ يكون قد تخصص ذلك العدد بالوقوع دون الأزيد والأنقص لا لمخصص، وذلك نفي للصانع، ولزم منه أيضا أن لا يدل صدور الفعل المحكم على كون الفاعل عالمًا وحينئذ ينسد باب الاستدلال بأحكام أفعال الله تعالى على كون فاعلها عالمًا، ولو أن أهل السموات والأرض اجتمعوا على هذه الدلائل لم يقدروا على دفعها، فإذا لاحت هذه الدلائل العقلية الباهرة فكيف يجوز لعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه، فظهر بما ذكرناه أن القانون المستمر عند جمهور الناس أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة.
وأما المحقق المنصف، فإنه يحمل الأمر في الآيات على أقسام ثلاثة أحدها: ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية، فذاك هو المحكم حقًا وثانيها: الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها، فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله تعالى غير ظاهره وثالثها: الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه، فيكون من حقه التوقف فيه، ويكون ذلك متشابهًا بمعنى أن الأمر اشتبه فيه، ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر، إلا أن الظن الراجح حاصل في إجرائها على ظواهرها فهذا ما عندي في هذا الباب والله أعلم بمراده. اهـ.

.قال البقاعي:

وقد بين سبحانه وتعالى أنه لا يضل بحرف المتشابه إلا ذوو الطبع العوج الذين لم ترسخ أقدامهم في الدين ولا استنارت معارفهم في العلم فقال: {فأما الذين في قلوبهم زيغ} أي اعوجاج عدلوا به عن الحق.
وقال الحرالي: هو ميل المائل إلى ما يزين لنفسه الميل إليه، والمراد هنا أشد الميل الذي هو ميل القلب عن جادة الاستواء وفي إشعاره ما يلحق بزيغ القلوب من سيئ الأحوال في الأنفس وزلل الأفعال في الأعمال، فأنبأ تعالى عما هو الأشد وأبهم ما هو الأضعف: {فيتبعون} في إشعار هذه الصيغة بما تنبئ عنه من تكلف المتابعه بأن من وقع له الميل فلفته لم تلحقه مذمه هذا الخطاب، فإذا وقع الزلل ولم يتتابع حتى يكون اتباعًا سلم من حد الفتنة بمعالجة التوبة {ما تشابه منه} فأبهمه إبهامًا يشعر بما جرت به الكليات فيما يقع نبأ عن الحق وعن الخلق من نحو أوصاف النفس كالتعليم والحكيم وسائر أزواج الأوصاف كالغضب والرضى بناء على الخلق في بادئ الصورة من نحو العين واليد والرجل والوجه وسائر بوادي الصورة، كل ذلك مما أنه متشابهات أنزلها الله تعالى ليتعرف للخلق بما جبلهم عليه مما لو لم يتعرف لهم به لم يعرفوه، ففقائدة إنزالها التعرف بما يقع به الامتحان بإحجام الفكر عنه والإقدام على التعبد له، ففائدة إنزاله عملًا في المحكم وفائدة إنزاله فيه توقفًا عنه ليقع الابتلاء بالوجهين: عملًا بالمحكم ووقوفًا عن المتشابه، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تتفكروا في الله» وقال علي رضي الله عنه: من تفكر في ذات الله تزندق ووافق العلماء إنكار الخلق عن التصرف في تكييف شيء منه، كما ذكر عن مالك رحمه الله تعالى في قوله: الكيف مجهول والسؤال عنه بدعة، فالخوض في المتشابه بدعة، والوقوف عنه سنة؛ وأفهم عنه الإمام أحمد يعني فيما تقدم في آيات الصفات من أن تأويلها تلاوتها، هذا هو حد الإيمان وموقفه، وإليه أذعن الراسخون في العلم، وهم الذين تحققوا في أعلام العلم، ولم يصغوا إلى وهم التخييل والتمثل به في شيء مما أنبأ الله سبحانه وتعالى به نفسه ولا في شيء مما بينه وبين خلقه وكان في توقفهم عن الخوض في المتشابه تفرغهم للعمل في المحكم، لأن المحكم واضح وجداني، متفقه عليه مدارك الفطن وإذعان الجبلات ومنزلات الكتب، لم يقع فيه اختلاف بوجه حتى كأن لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، للزوم الواجب من العمل بالمحكم في إذعان النفس، فكما لا يصلح العراء عن الاتصاف بالمحكم لا يصلح الترامي إلى شيء من الخوض في المتشابه لأحد من أهل العلم والإيمان أهل الدرجات، لأن الله سبحانه وتعالى جبل الخلق وفطرهم على إدراك حظ من أنفسهم من أحوالهم، وأوقفهم عن إدراك ما هو راجع إليه، فأمر الله وتجلياته لا تنال إلا بعنايه منه، يزج العبد زجه يقطع به الحجب الظلمانية والنورانية التي فيها مواقف العلماء؛ فليس في هذا الحرف المتشابه إلا أخذ لسانين: لسان وقفة عن حد الإيمان للراسخين في العلم المشتغلين بالاتصاف بالتذلل والتواضع والتقوى والبر الذي أمر صلى الله عليه وسلم أن يتبع فيه حتى ينتهي العبد إلى أن يحبه الله، فيرفع عنه عجز الوقفه عن المتشابه، وينقذه من حجاب النورانية، فلا يشكل عليه دقيق ولا يعييه خفي بما أحبه الله، وما بين ذلك من خوض دون إنقاذ هذه العناية فنقص عن حد رتبة الإيمان والرسوخ في العلم، فكل خائض فيه ناقص من حيث يحب أن يزيد، فهو إما عجز إيماني من حيث الفطر الخلقي، وإما تحقق إيقاني توجبه العناية والمحبة انتهى.
ولما ذكر سبحانه وتعالى اتباعهم له ذكر علته فقال: {ابتغاء الفتنة} أي تمييل الناس عن عقائدهم بالشكوك {وابتغاء تأويله} أي ترجيعه إلى ما يشتهونه وتدعوا إليه نفوسهم المائلة وأهويتهم الباطلة بادعاء أنه مآله.
قال الحرالي: والابتغاء افتعال: تكلف البغي، وهو شدة الطلب، وجعله تعالى ابتغاءين لاختلاف وجهيه، فجعل الأول فتنة لتعلقه بالغير وجعل الثاني تأويلًا أي طلبًا للمآل عنده، لاقتصاره على نفسه، فكان أهون الزيغين انتهى.
ولما بين زيغهم بين أن نسبة خوضهم فيما لا يمكنهم علمه فقال: {وما} أي والحال أنه ما {يعلم} في الحال وعلى القطع {تأويله} قال الحرالي: هو ما يؤول إليه أمر الشيء في مآله إلى معاده {إلا الله} أي المحيط قدرة وعلمًا، قال: ولكل باد من الخلق مآل كما أن الآخرة مآل الدنيا {يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق} [الأعراف: 53] لذلك كل يوم من أيام الآخرة مآل للذي قبله، فيوم الخلود مآل يوم الجزاء، ومآل الأبد مآل يوم الخلود؛ وأبد الأبد مآل الأبد، وكذلك كل الخلق له مآل من الأمر فأمر الله مآل خلقه وكذلك الأمر، كل تنزيل أعلى منه مآل التنزيل الأدنى إلى كمال الأمر، وكل أمر الله مآل من أسمائه وتجلياته، وكل تجل أجلى مآل لما دونه من تجل أخفى، قال عيه الصلاة والسلام:
«فيأتيهم ربهم في غير الصورة التي يعرفونها الحديث إلى قوله: أنت ربنا» فكان تجليه الأظهر لهم مآل تجليه الأخفى عنهم؛ فكان كل أقرب للخلق من غيب خلق وقائم أمر وعلى تجل إبلاغًا إلى ما وراءه فكان تأويله، فلم تكن الإحاطة بالتأويل المحيط إلا لله سبحانه وتعالى.
ولما ذكر الزائغين ذكر الثابتين فقال: {والراسخون في العلم} قال الحرالي: وهم المتحققون في أعلام العلم من حيث إن الرسوخ النزول بالثقل في الشيء الرخو ليس الظهورعلى الشيء، فلرسوخهم كانوا أهل إيمان، ولو أنهم كانوا ظاهرين على العلم كانوا أهل إيقان، لكنهم راسخون في العلم لم يظهروا بصفاء الإيقان على نور العلم، فثبتهم الله سبحانه وتعالى عند حد التوقف فكانوا دائمين على الإيمان بقوله: {يقولون آمنا به} بصيغة الدوام انتهى أي هذا حالهم في رسوخهم.
ولما كان هذا قسيمًا لقوله: {وأما الذين في قلوبهم زيغ} كان ذلك واضحًا في كونه ابتداء وأن الوقوف على ما قبله، ولما كان هذا الضمير محتملًا للمحكم فقط قال: {كل} أي من المحكم والمتشابه.
قال الحرالي: وهذه الكلمة معرفة بتعريف الإحاطة التي أهل النحاة ذكرها في وجوه التعريف إلا من ألاح معناها منهم فلم يلقن ولم ينقل جماعتهم ذلك؛ وهو من أكمل وجوه التعريف، لأن حقيقة التعريف التعين بعيان أو عقل، وهي إشارة إلى إحاطة ما أنزله على إبهامه، فكان مرجع المتشابه والمحكم عندهم مرجعًا واحدًا، آمنوا بمحل اجتماعه الذي منه نشأ فرقانه، لأن كل مفترق بالحقيقة إنما هو معروج من حد اجتماع، فما رجع إليه الإيمان في قلولهم: آمنا به، هو محل اجتماع المحكم والمتشابه في إحاطة الكتاب قبل تفصيله انتهى.
{من عند ربنا} أي المحسن إلينا بكل اعتبار، ولعله عبر بعند وهي بالأمر الظاهر بخلاف لدن إشارة إلى ظهور ذلك عند التأمل، وعبروه عن الاشتباه.
ولما كان مع كل مشتبه أمر إذا دقق النظر فيه رجع إلى مثال حاضر للعقل إما محسوس وإما في حد ظهور المحسوس قال معممًا لمدح المتأملين على دقة الأمر وشدة عموضه بإدغام تاء التفعل مشيرًا إلى أنهم تأهلوا بالرسوخ إلى الارتقاء عن رتبته، ملوحًا إلى أنه لا فهم لغيرهم عاطفًا على ما تقديره: فذكرهم الله من معاني المتشابه ببركه إيمانهم وتسليمهم بما نصبه من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم ما يمكن أن يكون إرادة منه سبحانه وتعالى وإن لم يكن على القطع بأنه إرادة: {وما يذكر} أي من الراسخين بما سمع من المتشابه ما في حسه وعقله من أمثال ذلك {إلا أولوا الألباب} قال الحرالي: الذين لهم لب العقل الذي للراسخين في العلم ظاهره، فكان بين أهل الزيغ وأهل التذكر مقابلة بعيدة، فمنهم متذكر ينتهي إلى إيقان، وراسخ في العلم يقف عند حد إيمان، ومتأول يركن إلى لبس بدعة، وفاتن يتبع هوى؛ فأنبأ جملة هذا البيان عن أحوال الخلق بالنظر إلى تلقي الكتاب كما أنبأ بيان سورة البقرة عن جهات تلقيهم للأحكام انتهى. اهـ.

.قال الفخر:

واعلم أنه تعالى لما بيّن أن الزائغين يتبعون المتشابه، بيّن أن لهم فيه غرضين، فالأول: هو قوله تعالى: {ابتغاء الفتنة} والثاني: هو قوله: {وابتغاء تَأْوِيلِهِ}.
فأما الأول: فاعلم أن الفتنة في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه، يقال: فلان مفتون بطلب الدنيا، أي قد غلا في طلبها وتجاوز القدر، وذكر المفسرون في تفسير هذه الفتنة وجوهًا: أولها: قال الأصم: إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين، صار بعضهم مخالفًا للبعض في الدين، وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة وثانيها: أن التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتونًا بذلك الباطل عاكفًا عليه لا ينقلع عنه بحيلة ألبتة وثالثها: أن الفتنة في الدين هو الضلال عنه ومعلوم أنه لا فتنة ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه.
وأما الغرض الثاني لهم: وهو قوله تعالى: {وابتغاء تَأْوِيلِهِ} فاعلم أن التأويل هو التفسير وأصله في اللغة المرجع والمصير، من قولك آل الأمر إلى كذا إذا صار إليه، وأولته تأويلًا إذا صيرته إليه، هذا معنى التأويل في اللغة، ثم يسمى التفسير تأويلًا، قال تعالى: {سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78] وقال تعالى: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] وذلك أنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى، واعلم أن المراد منه أنهم يطلبون التأويل الذي ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان، مثل طلبهم أن الساعة متى تقوم؟ وأن مقادير الثواب والعقاب لكل مطيع وعاص كم تكون؟ قال القاضي: هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين أحدهما: أن يحملوه على غير الحق: وهو المراد من قوله: {ابتغاء الفتنة} والثاني: أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه، وهو المراد من قوله: {وابتغاء تَأْوِيلِهِ} ثم بيّن تعالى ما يكون زيادة في ذم طريقة هؤلاء الزائغين فقال: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} واختلف الناس في هذا الموضع، فمنهم من قال: تم الكلام هاهنا، ثم الواو في قوله: {والراسخون فِي العلم} واو الابتداء، وعلى هذا القول: لا يعلم المتشابه إلا الله، وهذا قول ابن عباس وعائشة ومالك بن أنس والكسائي والفرّاء، ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي وهو المختار عندنا.
والقول الثاني: أن الكلام إنما يتم عند قوله: {والرسخون فِي العلم} وعلى هذا القول يكون العلم بالمتشابه حاصلًا عند الله تعالى وعند الراسخين في العلم وهذا القول أيضا مروي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين والذي يدل على صحة القول الأول وجوه:
الحجة الأولى: أن اللفظ إذا كان له معنى راجح، ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد، علمنا أن مراد الله تعالى بعض مجازات تلك الحقيقة، وفي المجازات كثرة، وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية، والترجيحات اللغوية لا تفيد إلا الظن الضعيف، فإذا كانت المسألة قطعية يقينية، كان القول فيها بالدلائل الظنية الضعيفة غير جائز، مثاله قال الله تعالى: {لا يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ثم قال الدليل القاطع على أن مثل هذا التكليف قد وجد على ما بينا في البراهين الخمسة في تفسير هذه الآية فعلمنا أن مراد الله تعالى ليس ما يدل عليه ظاهر هذه الآية، فلابد من صرف اللفظ إلى بعض المجازات، وفي المجازات كثرة وترجيح بعضها على بعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية، وأنها لا تفيد إلا الظن الضعيف، وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية، فوجب أن يكون القول فيها بالدلائل الظنية باطلًا، وأيضا قال الله تعالى: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] دلّ الدليل على أنه يمتنع أن يكون الإله في المكان، فعرفنا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها، إلا أن في مجازات هذه اللفظة كثرة فصرف اللفظ إلى البعض دون البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية الظنية، والقول بالظن في ذات الله تعالى وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين، وهذه حجة قاطعة في المسألة والقلب الخالي عن التعصب يميل إليه، والفطرة الأصلية تشهد بصحته، وبالله التوفيق.