فصل: قال السعدي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم اعلم أن كثيرًا من الناس جعل الصفات النقلية من الاستواء واليد والقدم والنزول إلى السماء الدنيا والضحك والتعجب وأمثالها من المتشابه، ومذهب السلف والأشعري رحمه الله تعالى من أعيانهم كما أبانت عن حاله الإبانة أنها صفات ثابتة وراء العقل ما كلفنا إلا اعتقاد ثبوتها مع اعتقاد عدم التجسيم والتشبيه لئلا يضاد النقل العقل، وذهب الخلف إلى تأويلها وتعيين مراد الله تعالى منها فيقولون: الاستواء مثلًا بمعنى الاستيلاء والغلبة، وذلك أثر من آثار بعض الصفات الثمانية التي ليس لله تعالى عندهم وراءها صفة حتى ادعى السكوتي وليته سكت أن ما وراء ذلك ممتنع إذ لا يلزم من نفيه محال وكل ما لا يلزم من نفيه محال لا يكون واجبًا، والله تعالى لا يتصف إلا بواجب، وذكر الشعراني في الدرر المنثورة أن مذهب السلف أسلم وأحكم إذ المؤل انتقل عن شرح الاستواء الجسماني على العرش المكاني بالتنزيه عنه إلى التشبيه السلطاني الحادث وهو الاستيلاء على المكان فهو انتقال عن التشبيه بمحدث مّا إلى التشبيه بمحدث آخر فما بلغ عقله في التنزيه مبلغ الشرع فيه في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء} [الشورى: 11] ألا ترى أنه استشهد في التنزيه العقلي في الاستواء بقول شاعر:
قد استوى بشر على العراق ** من غير حرب ودم مهراق

وأين استواء بشر على العراق من استواء الرحمن على العرش، ونهاية الأمر يحتاج إلى القول بأن المراد استيلاء يليق بشأن الرحمن جل شأنه فليقل من أول الأمر قبل تحمل مؤنة هذا التأويل استواء يليق بشأن من عز شأنه وتعالى عن إدراك العقول سلطانه، وهذا أليق بالأدب وأوفق بكمال العبودية وعليه درج صدر الأمة وساداتها وإياها اختار أئمة الفقهاء وقاداتها وإليها دعا أئمة الحديث في القديم والحديث حتى قال محمد بن الحسن كما أخرجه عنه اللالكائي: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه، وورد عن سليمان بن يسار أن رجلًا يقال له ضبيع قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقد أعدّ له عراجين النخل فقال: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله ضبيع فأخذ عمر عرجونًا من تلك العراجين فضربه حتى أدمى رأسه وفي رواية فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرة ثم تركه حتى برئ ثم عاد إليه ثم تركه حتى برئ فدعا به ليعود فقال: إن كنت تريد قتلتي فاقتلني قتلًا جميلًا فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين.
لا يقال إن تركت أمثال هذه المتشابهات على ظواهرها دلت على التجسيم وإن لم ترد ظواهرها فقد أولت لأن التأويل على ما قالوا: إخراج الكلام عن ظاهره لأنا نقول: نختار الشق الثاني ولا نسلم أن التأويل إخراج الكلام عن ظاهره مطلقًا بل إخراجه إلى معنى معين معلوم كما يقال الاستواء مثلا بمعنى الاستيلاء على أن للتأويل معنيين مشهورين لا يصدق شيء منهما على نفي الظاهر من غير تعيين للمراد، أحدهما: ترجمة الشيء وتفسيره الموضح له، وثانيهما: بيان حقيقته وإبرازها إما بالعلم أو بالعقل فإن من قال: بعد التنزيه لا أدري من هذه المتشابهات سوى أن الله تعالى وصف بها نفسه وأراد منها معنى لائقًا بجلاله جل جلاله، ولا أعرف ذلك المعنى لم يقل في حقه أنه ترجم وأوضح ولا بين الحقيقة وأبرز المراد حتى يقال أنه أول، ومن أمعن النظر في مأخذ التأويل لم يشك في صحة ما قلنا، نعم ذهبت شرذمة قليلة من السلف إلى إبقاء نحو المذكورات على ظواهرها إلا أنهم ينفون لوازمها المنقدحة للذهن الموجبة لنسبة النقص إليه عز شأنه ويقولون: إنما هي لوازم لا يصح انفكاكها عن ملزوماتها في صفاتنا الحادثة، وأما في صفات من ليس كمثله شيء فليست بلوازم في الحقيقة ليكون القول بانفكاكها سفسطة وأين التراب من رب الأرباب وكأنهم إنما قالوا ذلك ظنًا منهم أن قول الآخرين من السلف تأويل، و{الراسخون في العلم} لا يذهبون إليه أو أنهم وجدوا بعض الآثار يشعر بذلك مثل ما حكى مقاتل والكلبي عن ابن عباس في {استوى} [طه: 5] أنه بمعنى استقر، وما أخرجه أبو القاسم من طريق قرة بن خالد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة في قوله تعالى: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] إنها قالت: الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به من الإيمان والجحود به كفر.
وقريب من هذا القول ما يصرح به كلام كثير من ساداتنا الصوفية فإنهم قالوا: إن هذه المتشابهات تجرى على ظواهرها مع القول بالتنزيه الدال عليه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ} [الشورى: 11] حيث إن وجود الحق تعالى شأنه لا تقيده الأكوان وإن تجلى فيما شاء منها إذ له كمال الإطلاق حتى عن قيد الإطلاق، ولا يخفى أن إجراء المتشابهات على ظاهرها مع التنزيه اللائق بجلال ذاته سبحانه طور ما وراء طور العقل وبحر لا يسبح فيه إلا من فاز بقرب النوافل.
وذكر بعض أئمة التدقيق أن العقل سبيله في العلم بالصفات الثمانية المشهورة كعلمه بتلك الصفات التي يدعي الخلف رجوعها إليها إذا أحد النظر، فقد قام البرهان وشاهد العيان على عدم المماثلة ذاتًا وصفات أيضا لكن صفاته المتعالية وأسماؤه الحسنى قسمان، قسم يناسب ما عندنا من الصفات نوع مناسبة وإن كانت بعيدة، ولا يقال: فلابد فيه في أفهامنا معاشر الناقصين من أن يسمى بتلك الأسماء المشتهرة عندنا فيسمى علمًا مثلًا لا دواة ولا قلمًا وقسم ليس كذلك وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: «أو استأثرت به في علم الغيب عندك» فقد يذكر له أسماء مشوقة لأن منه ما للإنسان الكامل منه نصيب بطريق التخلق والتحقق فيذكر تارة اليد والنزول والقدم ونحو ذلك من المخيلات مع العلم البرهاني والشهود الوجداني بتنزهه تعالى عن كل كمال يتصوره الإنسان ويحيط به فضلًا عن النقصان، فيعلم أنه أشار إلى ذلك القسم الذي علم بالإجمال ويتوجه إذ ذاك بكليته شطر كعبة الجلال والجمال فيفاض عليه من ينبوع الكمال ما يستأنس عنده وينكشف له جلية الحال، وإذ ليس له مناسبة بما عندنا لا توجد عبارة يترجم عنها إلا على سبيل الخيال، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: «من عرف الله تعالى كلّ لسانه».
وأخرى بين مقصد الكل ومن أحبه سبحانه ما يصان عن تهمة إدراك الأغيار من نحو تلك الفواتح، ولعل إدراكها عند أهلها كإدراك الأوليات إلا أنه لا إحاطة بل لابد من بقاء شيء كما أشير إليه، وعلى هذا أيضا الأليق أن يوقف لأنه شعار من لنا فيهم الأسوة الحسنة مع ظهور وجهه لكن لا تجعل الآية حجة على من تأول نحو: {والأرض جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة} [الزمر: 67] مثلًا إذ لا يسلم أنه داخل في ذلك المتشابه والحمل على المجاز الشائع في كلام العرب والكناية البالغة في الشهرة مبلغ الحقيقة أظهر من الحمل على معنى مجهول، نعم لو قيل: إن تصوير العظمة على هذا الوجه دال على أن العقل غير مستقل بإدراكها وأنها أجل من أن تحيط بها العقول فالكنه من المتشابه الذي دلت الآية عليه ويجب الإيمان به كان حسنًا، وجمعًا بين ما عليه السلف ومشى عليه الخلف وهو الذي يجب أن يعتقد كيلًا يلزم ازدراء بأحد الفريقين كما فعل ابن القيم حتى قال: لام الأشعرية كنون اليهودية أعاذنا الله تعالى من ذلك، وعلى هذا يجب أن يفسر المتشابه في الآية بما يعم القسمين، والمحكم {أم} يرجع إليه في تمييز القسمين أحدهما: فرعه الإيماني. والثاني: فرع الإيقاني، وابن دقيق العيد توسط في مسألة التأويل، ويحتمل أنه لم يخرج ما قاله هذا المدقق أخيرًا من المتشابه فقال: إذا كان التأويل قريبًا من لسان العرب لم ينكر أو بعيدًا توقفنا عنه وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرًا معهودًا من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف كما في قوله تعالى: {ياحسرتى على مَا فَرَّطَتُ في جَنبِ الله} [الزمر: 56] فنحمله على حق الله تعالى وما يجب له فليفهم هذا المقام فكم زلت فيه أقوام بعد أقوام. اهـ.

.قال السعدي:

القرآن العظيم كله محكم كما قال تعالى: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} فهو مشتمل على غاية الإتقان والإحكام والعدل والإحسان {ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} وكله متشابه في الحسن والبلاغة وتصديق بعضه لبعضه ومطابقته لفظا ومعنى، وأما الإحكام والتشابه المذكور في هذه الآية فإن القرآن كما ذكره الله {منه آيات محكمات} أي: واضحات الدلالة، ليس فيها شبهة ولا إشكال {هن أم الكتاب} أي: أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه وأكثره، {و} منه آيات {أخر متشابهات} أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان: لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها، فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد، وهي الأكثر التي يرجع إليها، ومنه آيات تشكل على بعض الناس، فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي، فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضا ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة، ولكن الناس انقسموا إلى فرقتين {فأما الذين في قلوبهم زيغ} أي: ميل عن الاستقامة بأن فسدت مقاصدهم، وصار قصدهم الغي والضلال وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد {فيتبعون ما تشابه منه} أي: يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى المتشابه، ويعكسون الأمر فيحملون المحكم على المتشابه {ابتغاء الفتنة} لمن يدعونهم لقولهم، فإن المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الاشتباه الواقع فيه، وإلا فالمحكم الصريح ليس محلا للفتنة، لوضوح الحق فيه لمن قصده اتباعه، وقوله: {وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله} للمفسرين في الوقوف على {الله} من قوله: {وما يعلم تأويله إلا الله} قولان، جمهورهم يقفون عندها، وبعضهم يعطف عليها {والراسخون في العلم} وذلك كله محتمل، فإن التأويل إن أريد به علم حقيقة الشيء وكنهه كان الصواب الوقوف على {إلا الله} لأن المتشابه الذي استأثر الله بعلم كنهه وحقيقته، نحو حقائق صفات الله وكيفيتها، وحقائق أوصاف ما يكون في اليوم الآخر ونحو ذلك، فهذه لا يعلمها إلا الله، ولا يجوز التعرض للوقوف عليها، لأنه تعرض لما لا يمكن معرفته، كما سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله: {الرحمن على العرش استوى} فقال السائل: كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهكذا يقال في سائر الصفات لمن سأل عن كيفيتها أن يقال كما قال الإمام مالك، تلك الصفة معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، وقد أخبرنا الله بها ولم يخبرنا بكيفيتها، فيجب علينا الوقوف على ما حد لنا، فأهل الزيغ يتبعون هذه الأمور المشتبهات تعرضا لما لا يعني، وتكلفا لما لا سبيل لهم إلى علمه، لأنه لا يعلمها إلا الله، وأما الراسخون في العلم فيؤمنون بها ويكلون المعنى إلى الله فيسلمون ويسلمون، وإن أريد بالتأويل التفسير والكشف والأيضاح، كان الصواب عطف {الراسخون} على {الله} فيكون الله قد أخبر أن تفسير المتشابه ورده إلى المحكم وإزالة ما فيه من الشبهة لا يعلمها إلا هو تعالى والراسخون في العلم يعلمون أيضا، فيؤمنون بها ويردونها للمحكم ويقولون {كل} من المحكم والمتشابه {من عند ربنا} وما كان من عنده فليس فيه تعارض ولا تناقض بل هو متفق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض وفيه تنبيه على الأصل الكبير، وهو أنهم إذا علموا أن جميعه من عند الله، وأشكل عليهم مجمل المتشابه، علموا يقينا أنه مردود إلى المحكم، وإن لم يفهموا وجه ذلك. ولما رغب تعالى في التسليم والإيمان بأحكامه وزجر عن اتباع المتشابه قال: {وما يذكر} أي: يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه إلا {أولوا الألباب} أي: أهل العقول الرزينة لب العالم وخلاصة بني آدم يصل التذكير إلى عقولهم، فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه، وأما من عداهم فهم القشور الذي لا حاصل له ولا نتيجة تحته، لا ينفعهم الزجر والتذكير لخلوهم من العقول النافعة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقد أشارت الآية: إلى أن آيات القرآن صنفان: محكمات وأضدادها، التي سميت متشابهات، ثم بين أن المحكمات هي أم الكتاب، فعلمنا أن المتشابهات هي أضداد المحكمات، ثم أعقب ذلك بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] أي تأويله الذي لا قبل لأمثالهم به فعلمنا أن المتشابهات هي التي لم يتضح المقصود من معانيها، فعلمنا أن صفة المحكمات، والمتشابهات، راجعة إلى ألفاظ الآيات.
ووصف المحكمات بأنها أم الكتاب فاحتمل أن يكون المراد من الأم الأصل، المرجع، وهما متقاربان: أي هن أصل القرآن أو مرجعه، وليس يناسب هذين المعنيين إلا دلالة القرآن؛ إذ القرآن أنزل للإرشاد والهدي، فالمحكمات هي أصول الاعتقاد والتشريع، والآداب والمواعظ، وكانت أصولا لذلك: باتضاح دلالتها، بحيث تدل على معأن لا تحتمل غيرها أو تحتمله احتمالا ضعيفا غير معتد به، وذلك كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [التورات: 11] {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] {وَالله لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40- 41]. وباتضاح معانيها بحيث تتناولها أفهام معظم المخاطبين بها وتتأهل لفهمها فهي أصل القرآن المرجوع إليه في حمل معاني غيرها عليها للبيان أو التفريع.
والمتشابهات مقابل المحكمات، فهي التي دلت على معان تشابهت في أن يكون كل منها هو المراد. ومعنى تشابهها: أنها تشابهت في صحة القصد إليها، أي لم يكن بعضها أرجح من بعض، أو يكون معناها صادقا بصور كثيرة متناقضة أو غير مناسبة لأن تكون مرادا، فلا يتبين الغرض منها، فهذا وجه تفسير الآية فيما أرى.
وقد اختلف علماء الإسلام في تعيين المقصود من المحكمات والمتشابهات على أقوال: مرجعها إلى تعيين مقدار الوضوح والخفاء. فعن ابن عباس: أن المحكم مالا تختلف فيه الشرائع كتوحيد الله تعالى، وتحريم الفواحش، وذلك ما تضمنته الآيات الثلاث من أواخر سورة الأنعام {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] والآيات من سورة الإسراء {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، وأن المتشابه المجملات التي لم تبين كحروف أوائل السور.
وعن ابن مسعود، وابن عباس أيضا: أن المحكم ما لم ينسخ والمتشابه المنسوخ وهذا بعيد عن أن يكون مرادا هنا لعدم مناسبته للوصفين ولا لبقية الآية.
وعن الأصم: المحكم ما اتضح دليله، والمتشابه ما يحتاج إلى التدبر، وذلك كقوله تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف: 11] فأولها محكم وآخرها متشابه.
وللجمهور مذهبان: أولهما أن المحكم ما اتضحت دلالته، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، ونسب هذا القول لمالك، في رواية أشهب، من جامع العتبية، ونسبه الخفاجي إلى الحنفيه وإليه مال الشاطبي في الموافقات.
وثانيهما أن المحكم الواضح الدلالة، والمتشابه الخفيها، وإليه مال الفخر: فالنص والظاهر هما المحكم، لاتضاح دلالتهما، وإن كان أحدهما أي الظاهر يتطرقه احتمال ضعيف، والمجمل والمؤول هما المتشابه، لاشتراكهما في خفاء الدلالة وإن كان أحدهما: أي المؤول دإلا على معنى مرجوح، يقابله معنى راجح، والمجمل دإلا على معنى مرجوح يقابله مرجوح آخر، ونسبت هذه الطريقة إلى الشافعية.
قال الشاطبي: فالتشابه: حقيقي، وإضافي، فالحقيقي: ما لا سبيل إلى فهم معناه، وهو المراد من الآية، والإضافي: ما اشتبه معناه، لاحتياجه إلى مراعاة دليل آخر. فإذا تقصى المجتهد أدلة الشريعة وجد فيها ما يبين معناه، والتشابه بالمعنى الحقيقي قليل جدا في الشريعة وبالمعنى الإضافي كثير.
وقد دلت هذه الآية على أن من القرآن محكما ومتشابها، ودلت آيات أخر على أن القرآن كله محكم، قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] وقال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1] والمراد أنه أحكم وأتقن في بلاغته، كما دلت آيات على أن القرآن كله متشابه، قال تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23] والمعنى أنه تشابه في الحسن والبلاغة والحقية، وهو معنى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فلا تعارض بين هذه الآيات: لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه في مواضعها، بحسب ما تقتضيه المقامات.
وسبب وقوع المتشابهات في القرآن: هو كونه دعوة، وموعظة، وتعليما، وتشريعا باقيا، ومعجزة، وخوطب به قوم لم يسبق لهم عهد بالتعليم والتشريع، فجاء على أسلوب مناسب لجمع هذه الأمور، بحسب حال المخاطبين الذين لم يعتادوا الأساليب التدريسية، أو الأمالي العلمية، وإنما كانت هجيراهم الخطابة والمقاولة، فأسلوب المواعظ والدعوة قريب من أسلوب الخطابة، وهو لذلك لا يأتي على أساليب الكتب المؤلفة للعلم، أو القوانين الموضوعة للتشريع، فأودعت العلوم المقصودة منه في تضاعيف الموعظة والدعوة، وكذلك أودع فيه التشريع، فلا تجد أحكام نوع من المعاملات، كالبيع، متصلا بعضها ببعض، بل تلفيه موزعا على حسب ما اقتضته مقامات الموعظة والدعوة، ليخف تلقيه على السامعين، ويعتادوا علم ما لم يألفوه في أسلوب قد ألفوه فكانت متفرقة يضم بعضها إلى بعض بالتدبر. ثم إن إلقاء تلك الأحكام كان في زمن طويل، يزيد على عشرين سنة، ألقي إليهم فيها من الأحكام بمقدار ما دعت إليه حاجتهم، وتحملته مقدرتهم، على أن بعض تشريعه أصول لا تتغير، وبعضه فروع تختلف باختلاف أحوالهم، فلذلك تجد بعضها عاما، أو مطلقا، أو مجملا، وبعضها خاصا، أو مقيدا، أو مبينا، فإذا كان بعض المجتهدين يرى تخصيص عموم بعض عموماته بخصوص بعض الخصوصيات مثلا، فلعل بعضا منهم لا يتمسك إلا بعمومه، حينئذ، كالذي يرى الخاص والوارد بعد العام ناسخا، فيحتاج إلى تعيين التاريخ، ثم إن العلوم التي تعرض لها القرآن هي من العلوم العليا: وهي علوم فيما بعد الطبيعة، وعلوم مراتب النفوس، وعلوم النظام العمراني، والحكمة، وعلوم الحقوق. وفي ضيق اللغة الموضوعة عن الإيفاء بغايات المرادات في هاته العلوم، وقصور حالة استعداد أفهام عموم المخاطبين لها، ما أوجب تشابها في مدلولات الآيات الدالة عليها. وإعجاز القرآن: منه إعجاز نظمي ومنه إعجاز علمي، وهو فن جليل من الإعجاز بينته في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.