فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فلما تعرض القرآن إلى بعض دلائل الأكوان وخصائصها، فيما تعرض إليه، جاء به محكيا بعبارة تصلح لحكاية حالته على ما هو في نفس الأمر، وربما إدراك كنه حالته في نفس الأمر مجهولا لأقوام، فيعدون تلك الآي الدالة عليه من المتشابه فإذا جاء من بعدهم علموا أن ما عده الذين قبلهم متشابها ما هو إلا محكم.
على أن من مقاصد القرآن أمرين آخرين:
أحدهما كونه شريعة دائمة، وذلك يقتضي فتح أبواب عباراته لمختلف استنباط المستنبطين، حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين، وثانيهما تعويد حملة هذه الشريعة، وعلماء هذه الأمة، بالتنقيب، والبحث، واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة، حتى تكون طبقات علماء الأمة صالحة في كل زمان لفهم تشريع الشارع ومقصده من التشريع، فيكونوا قادرين على استنباط الأحكام التشريعية، ولو صيغ لهم التشريع في أسلوب سهل التناول لاعتادوا العكوف على ما بين أنظارهم في المطالعة الواحدة. من أجل هذا كانت صلوحية عباراته لاختلاف منازع المجتهدين، قائمة مقام تلاحق المؤلفين في تدوين كتب العلوم، تبعا لاختلاف مراتب العصور.
فإذا علمت هذا علمت أصل السبب في وجود ما يسمى بالمتشابه في القرآن. وبقي أن نذكر لك مراتب التشابه وتفاوت أسبابها. وأنها فيما انتهى إليه استقراؤنا الآن عشر مراتب:
أولاها: معان قصد إيداعها في القرآن، وقصد إجمالها: إما لعدم قابلية البشر لفهمها، ولو في الجملة، إن قلنا بوجود المجمل، الذي أستأثر الله بعلمه، على ما سيأتي، ونحن لا نختاره، وإما لعدم قابليتهم لكنه فهمها، فألقيت إليهم على وجه الجملة أو لعدم قابلية بعضهم في عصر، أوجهة، لفهمها بالكنه ومن هذا أحوال القيامة، وبعض شؤون الربوبية كالإتيان في ظلل من الغمام، والرؤية، والكلام، ونحو ذلك.
وثانيتها: معان قصد إشعار المسلمين بها، وتعين إجمالها، مع إمكان حملها على معان معلومة، لكن بتأويلات: كحروف أوائل السور، ونحو: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29]1.
ثالثتها: معان عالية ضاقت عن إيفاء كنهها اللغة الموضوعة لأقصى ما هو متعارف أهلها، فعبر عن تلك المعاني بأقصى ما يقرب معانيها إلى الأفهام، وهذا مثل أكثر صفات الله نحو الرحمان، الرؤوف، المتكبر، نور السماوات والأرض.
رابعتها: معان قصرت عنها الأفهام في بعض أحوال العصور، وأودعت في القرآن ليكون وجودها معجزة قرآنية عند أهل العلم في عصور قد يضعف فيها إدراك الإعجاز النظمي، نحو قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} [الزمر: 5] {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88] {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35] {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] وذكر سد يأجوج ومأجوج2.
خامستها: مجازات وكنايات مستعملة في لغة العرب، إلا أن ظاهرها أوهم معاني لا يليق الحمل عليها في جانب الله تعالى: لإشعارها بصفات تخالف كمال الإلهية، وتوقف فريق في محملها تنزيها، نحو: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]3.
وسادستها: ألفاظ من لغات العرب لم تعرف لدى الذين نزل القرآن بينهم: قريش والأنصار مثل {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] ومثل {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]1 {إِنَّ إبراهيم لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36]2.
سابعتها: مصطلحات شرعية لم يكن للعرب علم بخصوصها، فما اشتهر منها بين المسلمين معناه، صار حقيقة عرفية: كالتيمم، والزكاة، وما لم يشتهر بقي فيه إجمال: كالربا قال عمر نزلت آيات الربا في آخر ما أنزل فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينها وقد تقدم في سورة البقرة.
ثامنتها: أساليب عربية خفيت على أقوام فظنوا الكلام بها متشابها، وهذا مثل زيادة الكاف في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ومثل المشاكلة في قوله: {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] فيعلم أن إسناد خادع إلى ضمير الجلالة إسناد بمعنى مجازي اقتضته المشاكلة.
وتاسعتها: آيات جاءت على عادات العرب، ففهمها المخاطبون، وجاء من بعدهم فلم يفهموها، فظنوها من المتشابه، مثل قوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، في الموطإ قال ابن الزبير قلت لعائشة وكنت يومئذ حدثا لم أتفقه لأرى بأسا على أحد إلا يطوف بالصفا والمروة فقالت له: ليس كما قلت إنما كان الأنصار يهلون لمناة الطاغية إلخ. ومنه {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 187] {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93] الآية فإن المراد فيما شربوا من الخمر قبل تحريمها.
عاشرتها: أفهام ضعيفة عدت كثيرا من المتشابه وما هو منه، وذلك أفهام الباطنية، وأفهام المشبه، كقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42].
وليس من المتشابه ما صرح فيه بأنا لا نصل إلى علمه كقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ولا ما صرح فيه بجهل وقته كقوله: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} الأعراف: 187].
وليس من المتشابه ما دل على معنى يعارض الحمل عليه دليل آخر، منفصل عنه؛ لأن ذلك يرجع إلى قاعدة الجمع بين الدليلين المتعارضين، أو ترجيح أحدهما على الآخر، مثل قوله تعالى خطابا لإبليس {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64] الآية في سورة الإسراء مع ما في الآيات المقتضية {فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] {وَالله لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205].
وقد علمتم من هذا أن ملاك التشابه هو عدم التواطؤ بين المعاني واللغة: إما لضيقها عن المعاني، وإما لضيق الأفهام عن استعمال اللغة في المعنى، وإما لتناسي بعض اللغة، فيتبين لك أن الإحكام والتشابه: صفتان للألفاظ، باعتبار فهم المعاني.
وإنما أخبر عن ضمير آيات محكمات، وهو ضمير جمع، باسم مفرد ليس دإلا على أجزاء وهو {أَمْ}، لأن المراد أن صنف الآيات المحكمات يتنزل من الكتاب منزلة أمه أي أصله ومرجعه الذي يرجع إليه في فهم الكتاب ومقاصده. والمعنى: هن كأم للكتاب. ويعلم منه أن كل آية من المحكمات أم للكتاب في ما تتضمنه من المعنى. وهذا كقول النابغة يذكر بني أسد:
فهم درعي التي استلأمت فيها أي مجموعهم كالدرع لي، ويعلم منه أنه كل أحد من بني أسد بمنزلة حلقة من حلق الدرع. ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]. اهـ.

.قال الشوكاني:

اعلم أن هذا الاضطراب الواقع في مقالات أهل العلم أعظم أسبابه اختلاف أقوالهم في تحقيق معنى المحكم، والمتشابه؛ وقد قدّمنا لك ما هو الصواب في تحقيقهما، ونزيدك هاهنا أيضاحًا، وبيانًا، فنقول: إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدّمناه فواتح السور، فإنها غير متضحة المعنى، ولا ظاهرة الدلالة، لا بالنسبة إلى أنفسها؛ لأنه لا يدري من يعلم بلغة العرب، ويعرف عرف الشرع ما معنى الم، المر، حم، طس، طسم ونحوها؛ لأنه لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب، ولا من كلام الشرع، فهي غير متضحة المعنى، لا باعتبارها نفسها، ولا باعتبار أمر آخر يفسرها، ويوضحها، ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم، والألفاظ الغريبة التي لا يوجد في لغة العرب، ولا في عرف الشرع ما يوضحها، وهكذا ما استأثر الله بعلمه كالروح، وما في قوله: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} إلى الآخر الآية [لقمان: 34]، ونحو ذلك، وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار غيره، كورود الشيء محتملًا لأمرين احتمالًا لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة، وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضًا كليًا بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر، لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار أمر آخر يرجحه.
وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفًا في لغة العرب، أو في عرف الشرع، أو باعتبار غيره، وذلك كالأمور المجملة التي ورد بيانها في موضع آخر من الكتاب العزيز، أو في السنة المطهرة، أو الأمور التي تعارضت دلالتها، ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب، أو السنة، أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول المقبولة عند أهل الإنصاف، فلا شك، ولا ريب أن هذه من المحكم لا من المتشابه، ومن زعم أنها من المتشابه، فقد اشتبه عليه الصواب، فاشدد يديك على هذا فإنك تنجو به من مضايق، ومزالق وقعت للناس في هذا المقام حتى صارت كل طائفة تسمى ما دل لما ذهب إليه محكمًا، وما دل على ما يذهب إليه من يخالفها متشابهًا: سيما أهل علم الكلام، ومن أنكر هذا، فعليه بمؤلفاتهم.
واعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على أنه جميعه محكم، ولكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية بل بمعنى آخر، ومن ذلك قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته} [هود: 1] وقوله: {تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم} [يونس: 1] والمراد بالمحكم بهذا المعنى: أنه صحيح الألفاظ قويم المعاني فائق في البلاغة، والفصاحة على كل كلام.
وورد أيضا ما يدل على أنه جميعه متشابه لكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها بل بمعنى آخر، ومنه قوله تعالى: {كتابا متشابها} [الزمر: 23] والمراد بالمتشابه بهذا المعنى: أنه يشبه بعضه بعضًا في الصحة، والفصاحة، والحسن، والبلاغة. اهـ.

.قال الكرمي:

وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها.
قال وذهبت طائفة من أهل السنة إلى أنا نؤولها على ما يليق بجلاله تعالى وهذا مذهب الخلف.
قال وكان إمام الحرمين يذهب إليه ثم رجع عنه فقال في الرسالة النظامية الذي نرتضيه رأيا وندين الله تعالى به عقدا هو اتباع سلف الأمة فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها فلو كان تأويل هذه الظواهر سائغا لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة فإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزيه الباري عن صفات المحدثين ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب.
وقال الإمام ابن الصلاح وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وساداتها وإياها اختار أئمة الفقهاء وقاداتها وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها انتهى.
قلت وهذا القول هو الحق وأسلم الطرق فإنك تجد كل فريق من المتأولين يخطئ الأخر ويرد كلامه ويقيم البرهان على صحة قوله ويعتقد أنه هو المصيب وأن غيره هو المخطئ ومن طالع كلام طوائف المتكلمين والمتصوفين علم ذلك علم اليقين... الناس شتى وآراء مفرقة... كل يرى الحق فيما قال واعتقدا قال أصحابنا أسلم الطرق التسليم فما سلم دين من لم يسلم لله ورسوله ويرد علم ما اشتبه إلى عالمه ومن أراد علم ما يمتنع علمه ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة والإيمان والتعمق في الفكر ذريعة الخذلان وسلم الحرمان والإسراف في الجدال يوجب عداوة الرجال. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} انبنى اختلاف بين علماء الأمة في تأويل ما كان متشابها: من آيات القرآن، ومن صحاح الأخبار، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فكان رأي فريق منهم الإيمان بها، على إبهامها وإجمالها، وتفويض العلم بكنه المراد منها إلى الله تعالى، وهذه طريقة سلف علمائنا، قبل ظهور شكوك الملحدين أو المتعلمين، وذلك في عصر الصحابة والتابعين وبعض عصر تابعيهم، ويعبر عنها بطريقة السلف، ويقولون: طريقة السلف أسلم، أي أشد سلامة لهم من أن يتأولوا تأويلات لا يدرى مدى ما تفضي إليه من أمور لا تليق بجلال الله تعالى ولا تتسق مع ما شرعه للناس من الشرائع، مع ما رأوا من اقتناع أهل عصرهم بطريقتهم، وانصرافهم عن التعمق في طلب التأويل.
وكان رأي جمهور من جاء بعد عصر السلف تأويلها بمعان من طرائق استعمال الكلام العربي البليغ من مجاز، واستعارة، وتمثيل، مع وجود الداعي إلى التأويل، وهو تعطش العلماء الذين اعتادوا التفكر والنظر وفهم الجمع بين أدلة القرآن والسنة، ويعبر عن هذه الطريقة بطريقة الخلف، ويقولون: طريقة الخلف أعلم، أي أنسب بقواعد العلم وأقوى في تحصيل العلم لجدال الملحدين، والمقنع لمن يتطلبون الحقائق من المتعلمين، قد يصفونها بأنها أحكم أي أشد إحكاما؛ لأنها تقنع أصحاب الأغراض كلهم. وقد وقع هذان الوصفان في كلام المفسرين وعلماء الأصول، ولم اقف على تعيين أول من صدر عنه، وقد تعرض الشيخ ابن تيمية في العقيدة الحموية إلى رد هذين الوصفين ولم ينسبهما إلى قائل. والموصوف بأسلم وبأعلم الطريقة لا أهلها؛ فإن أهل الطريقتين من أئمة العلم، وممن سلموا في دينهم من الفتن.
وليس في وصف هذه الطريقة، بأنها أعلم أو أحكم، غضاضة من الطريقة الأولى؛ لأن العصور الذين درجوا على الطريقة الأولى، فيهم من لا تخفى عليهم محاملها بسبب ذوقهم العربي، وهديهم النبوي، وفيهم من لا يعير البحث عنها جانبا من همته، مثل سائر العامة. فلا جرم كان طي البحث عن تفصيلها أسلم للعموم، وكان تفصيلها بعد ذلك أعلم لمن جاء بعدهم، بحيث لو لم يؤولوها به لأوسعوا، للمتطلعين إلى بيانها، مجالا للشك أو الإلحاد. أو ضيق الصدر في الاعتقاد.
واعلم أن التأويل منه ما هو واضح بين، فصرف اللفظ المتشابه عن ظاهره إلى ذلك التأويل يعادل حمل اللفظ على أحد معنييه المشهورين لأجل كثرة استعمال اللفظ في المعنى غير الظاهر منه. فهذا القسم من التأويل حقيق بألا يسمى تأويلا، وليس أحد محمليه بأقوى من الآخر إلا أن أحدهما أسبق في الوضع من الآخر، والمحملان متساويان في الاستعمال وليس سبق إطلاق اللفظ على أحد المعنيين بمقتض ترجيح ذلك المعنى، فكم من إطلاق مجازي للفظ هو أسبق إلى الإفهام من إطلاقه الحقيقي. وليس قولهم في علم الأصول بأن الحقيقة أرجح من المجاز بمقبول على عمومه.
وتسمية هذا النوع بالمتشابه ليست مرادة في الآية. وعده من المتشابه جمود.
ومن التأويل ما ظاهر معنى اللفظ فيه أشهر من معنى تأويله ولكن القرائن أو الأدلة أوجبت صرف اللفظ عن ظاهر معناه فهذا حقيق بأن يعد من المتشابه.
ثم إن تأويل اللفظ في مثله يتيسر بمعنى مستقيم يغلب على الظن أنه المراد إذا جرى حمل اللفظ على ما هو من مستعملاته في الكلام البليغ مثل الأيدي والأعين في قوله: {بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] وقوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] فمن أخذوا من مثله أن لله أعينا لا يعرف كنهها، أو له يدا ليست كأيدينا، فقد زادوا في قوة الاشتباه.
ومنه ما يعبر تأويله احتمالا وتجويزا بأن يكون الصرف عن الظاهر متعينا وأما حمله على ما أولوه به فعلى وجه الاحتمال والمثال، وهذا مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] فمثل ذلك مقطوع بوجوب تأويله ولا يدعي أحد أن ما أوله به المراد منه ولكنه وجه تابع لإمكان التأويل، وهذا النوع أشد مواقع التشابه والتأويل.
وقد استبان لك من هذه التأويلات: أن نظم الآية جاء على أبلغ ما يعبر به في مقام يسع طائفتين من علماء الإسلام في مختلف العصور. اهـ.