فصل: آيَاتُ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أنه قَالَ: الْمُحْكَمُ: مَا اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى بَيَانٍ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَاجَ إِلَى بَيَانٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ.
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: الْمُحْكَمُ مَا لَا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا احْتَمَلَ مِنَ التَّأْوِيلِ وُجُوهًا. وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمُحْكَمُ مَا لَمْ يَحْتَمِلْ مِنَ التَّأْوِيلِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَالْمُتَشَابِهُ الَّذِي تَعْتَوِرُهُ التَّأْوِيلَاتُ. فَيُقَالُ حِينَئِذٍ: فَجَمِيعُ الْأُمَّةِ سَلَفُهَا وَخَلَفُهَا يَتَكَلَّمُونَ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَاتِ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ هُمْ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ كَلَامًا فِيهِ. وَالْأَئِمَّةُ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَنْ قَبْلَهُمْ كُلُّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِيمَا يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ وَيُرَجِّحُونَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْأَدِلَّةِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ الْأُصُولِيَّةِ وَالْفُرُوعِيَّةِ لَا يُعْرَفُ عَنْ عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أنه قَالَ عَنْ نَصٍّ احْتَجَّ بِهِ مُحْتَجٌّ فِي مَسْأَلَةٍ: إِنَّ هَذَا لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَوْ قَالَ أَحَدٌ ذَلِكَ لَقِيلَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَإِذَا ادَّعَى فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ نَصَّهُ مُحْكَمٌ يُعْلَمُ مَعْنَاهُ، وَأَنَّ النَّصَّ الْآخَرَ مُتَشَابِهٌ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ قُوبِلَ بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى.
وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِ الْقَائِلِ: إِنَّ مِنَ الْمَنْصُوصِ مَا مَعْنَاهُ جَلِيٌّ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا لَا يَقَعُ فِيهِ اشْتِبَاهٌ، وَمِنْهَا مَا فِيهِ خَفَاءٌ وَاشْتِبَاهٌ يَعْرِفُ مَعْنَاهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ هَذَا مُسْتَقِيمٌ صَحِيحٌ، وَحِينَئِذٍ فَالْخُلْفُ فِي الْمُتَشَابِهِ يَدُلُّ عَلَى أنه كُلَّهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهُ. فَمَنْ قَالَ: أنه يُعْرَفُ مَعْنَاهُ يُبَيِّنُ حُجَّةً عَلَى ذَلِكَ، وَأيضا فَمَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي الْمُتَشَابِهِ يَدُلُّ عَلَى أنه كُلَّهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهُ.
فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ هُوَ الْمَنْسُوخُ مَعْرُوفٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ مَأْثُورٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ هُمُ الَّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمَنْسُوخِ، فَكَانَ هَذَا النَّقْلُ عَنْهُمْ يُنَاقِضُ ذَلِكَ النَّقْلَ، وَيَدُلُّ عَلَى أنه كَذِبٌ إِنْ كَانَ هَذَا صِدْقًا وَإِلَّا تَعَارَضَ النَّقْلَانِ عَنْهُمْ. وَالْمُتَوَاتِرُ عَنْهُمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي مَأْثُورٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أنه قَالَ: الْمُحْكَمُ مَا عَلِمَ الْعُلَمَاءُ تَأْوِيلَهُ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْعُلَمَاءِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ سَبِيلٌ كَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أنه لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ؛ فَإِذَا أُرِيدَ بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ هَذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ لَا يَعْلَمُ وَقْتَ تَأْوِيلِهِ إِلَّا اللهُ، وَهَذَا حَقٌّ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أنه لَا يُعْرَفُ مَعْنَى الْخِطَابِ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ حَقَائِقُ مَا يُوجَدُ، وَقِيلَ: لَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ إِلَّا اللهُ. فَهَذَا قَدْ قَدَّمْنَاهُ، وَذَكَرَ أنه عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ} هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ التَّفْسِيرُ وَمَعْرِفَةُ الْمَعْنَى وَيَقِفُ عَلَى قوله: {إِلَّا اللهُ} فَهَذَا خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ، يَقُولُ ذَلِكَ يَقُولُ مَا يُنَاقِضُهُ وَهَذَا الْقَوْلُ يُنَاقِضُ الإيمان بِاللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَيُوجِبُ الْقَدْحَ فِي الرِّسَالَةِ، وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّ الَّذِينَ قَالُوهُ لَمْ يَتَدَبَّرُوا لَوَازِمَهُ وَحَقِيقَةَ مَا أَطْلَقُوهُ، وَكَانَ أَكْبَرُ قَصْدِهِمْ دَفْعَ تَأْوِيلَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُتَشَابِهَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَصَدُوهُ حَقٌّ، وَكُلُّ مُسْلِمٍ يُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَا نَدْفَعُ بَاطِلًا بِبَاطِلٍ آخَرَ، وَلَا نَرُدُّ بِدْعَةٍ بِبِدْعَةٍ، وَلَا نَرُدَّ تَفْسِيرَ أَهْلِ الْبَاطِلِ لِلْقُرْآنِ بِأَنْ يُقَالَ: الرَّسُولُ وَالصَّحَابَةُ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ تَفْسِيرَ مَا تَشَابَهَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَفِي هَذَا مِنَ الظَّنِّ فِي الرَّسُولِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ مَا قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ خَطَأِ طَائِفَةٍ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِ الْآيَاتِ، وَالْعَاقِلُ لَا يَبْنِي قَصْرًا وَيَهْدِمُ مِصْرًا.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُتَشَابِهَ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ. يُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ لَيْسَتْ كَلَامًا تَامًّا مِنَ الْجُمَلِ الِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ مَوْقُوفَةٌ، وَلِهَذَا لَمْ تُعْرَبْ فَإِنَّ الْإِعْرَابَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ وَإِنَّمَا نُطِقَ بِهَا مَوْقُوفَةً. كَمَا يُقَالُ: أ ب ت وَلِهَذَا تُكْتَبُ بِصُورَةِ الْحَرْفِ لَا بِصُورَةِ الِاسْمِ الَّذِي يُنْطَقُ بِهِ؛ فَإِنَّهَا فِي النُّطْقِ أَسْمَاءٌ، وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ الْخَلِيلُ أَصْحَابَهُ عَنِ النُّطْقِ بِالزَّايِ مِنْ زَيْدٍ قَالُوا: زَا، قَالَ: نَطَقْتُمْ بِالِاسْمِ، وَإِنَّمَا النُّطْقُ بِالْحُرُوفِ زَهْ، فَهِيَ فِي اللَّفْظِ أَسْمَاءٌ وَفِي الْخَطِّ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ {الم} لَا تُكْتَبُ أَلِفْ لَامْ مِيمْ كَمَا يُكْتَبُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ {الم} حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلْفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» وَالْحَرْفُ فِي لُغَةِ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ يَتَنَاوَلُهُ الَّذِي يُسَمِّيهِ النُّحَاةُ اسْمًا وَفِعْلًا وَحَرْفًا؛ لِهَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي تَقْسِيمِ الْكَلَامِ: اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى لَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا بِفِعْلِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْرُوفًا مِنَ اللُّغَةِ أَنَّ الِاسْمَ حَرْفٌ وَالْفِعْلَ حَرْفٌ خُصَّ هَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي يُطْلِقُ النُّحَاةُ عَلَيْهِ الْحَرْفَ أنه جَاءَ لِمَعْنًى لَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ، وَهَذِهِ حُرُوفُ الْمَعَانِي الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا الْكَلَامُ، وَأَمَّا حُرُوفُ الْهِجَاءِ فَتِلْكَ إِنَّمَا تُكْتَبُ فِي صُورَةِ الْحَرْفِ الْمُجَرَّدِ وَيُنْطَقُ بِهَا غَيْرَ مُعْرَبَةٍ وَلَا يُقَالُ فِيهَا مُعْرَبٌ وَلَا مَبْنِيٌّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُقَالُ فِي الْمُؤَلَّفِ، فَإِذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كُلُّ مَا سِوَى هَذِهِ مُحْكَمًا حَصَلَ الْمَقْصُودُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ إِلَّا مَعْرِفَةَ كَلَامِ اللهِ وَكَلَامَ رَسُولِهِ. ثُمَّ يُقَالُ: هَذِهِ الْحُرُوفُ قَدْ تَكَلَّمَ فِي مَعْنَاهَا أَكْثَرُ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا مَعْرُوفًا فَقَدْ عُرِفَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا- وَهُوَ الْمُتَشَابِهُ- كَانَ مَا سِوَاهَا مَعْلُومُ الْمَعْنَى وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَأيضا فَإِنَّ اللهَ تعالى قَالَ: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} وَهَذِهِ الْحُرُوفُ لَيْسَتْ آيَاتٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا يَعُدُّهَا آيَاتٍ الْكُوفِيُّونَ. وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا أيضا مُتَشَابِهٌ.
وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوَافِقُ مَا نُقِلَ عَنِ الْيَهُودِ مِنْ طَلَبِ عِلْمِ الْمَدَدِ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا اشْتَبَهَتْ مَعَانِيهِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَكُلُّهُمْ يَتَكَلَّمُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْمُتَشَابِهِ وَيُبَيِّنُ مَعْنَاهُ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا تَكَرَّرَتْ أَلْفَاظُهُ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: الْمُحْكَمُ: مَا ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ فَفَصَّلَهُ وَبَيَّنَهُ، وَالْمُتَشَابِهُ: هُوَ مَا اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُ فِي قَصَصِهِمْ عِنْدَ التَّكْرِيرِ، كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ: {احْمِلْ فِيهَا} [11: 40] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {فَاسْلُكْ فِيهَا} [23: 27] وَقَالَ فِي عَصَا مُوسَى: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [20: 20] وَفِي مَوْضِعٍ: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [7: 107].
وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ جَعَلَ الْمُتَشَابِهَ اخْتِلَافَ اللَّفْظِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى كَمَا يُشْتَبَهُ عَلَى حَافِظِ الْقُرْآنِ هَذَا اللَّفْظُ بِذَاكَ اللَّفْظِ، وَقَدْ صَنَّفَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمُتَشَابِهِ؛ لِأَنَّ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ يَتَشَابَهُ مَعْنَاهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَاشْتَبَهَ عَلَى الْقَارِئِ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ بِالْآخَرِ، وَهَذَا الْمُتَشَابِهُ لَا يَنْفِي مَعْرِفَةَ الْمَعَانِي بِلَا رَيْبٍ، وَلَا يُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا: إِنَّ الرَّاسِخِينَ يَخْتَصُّونَ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ. فَهَذَا الْقَوْلُ إِنْ كَانَ صَحِيحًا كَانَ حُجَّةً لَنَا وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَمْ يَضُرَّنَا.
وَالسَّادِسُ: أنه مَا احْتَاجَ إِلَى بَيَانٍ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ.
وَالسَّابِعُ: أنه مَا احْتَمَلَ وُجُوهًا كَمَا نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أنه قَالَ: إِنَّكَ لَا تَفْقَهُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى تَرَى لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا.
وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ كُتُبَ الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ، فَالنَّظَائِرُ: اللَّفْظُ الَّذِي اتَّفَقَ مَعْنَاهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَكْثَرَ، وَالْوُجُوهُ: الَّذِي اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ، كَمَا يُقَالُ الْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ وَالْمُشْتَرِكَةُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ- لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ- وَقَدْ قِيلَ هِيَ نَظَائِرُ فِي اللَّفْظِ وَمَعَانِيهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَتَكُونُ كَالْمُشْتَرِكَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ سَلَفُهُمْ وَخَلَفُهُمْ فِي مَعَانِي الْوُجُوهِ وَفِيمَا يُحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ وَمَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا، فَعُلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ مِمَّا يُمْكِنُ لِلْعُلَمَاءِ مَعْرِفَةُ مَعَانِيهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّ مِنَ الْقُرْآنِ كَلَامًا لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ وَلَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللهُ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِهِ الْأُمَّةَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَةِ.
وَالثَّامِنُ: أَنَّ الْمُتَشَابِهَ هُوَ الْقَصَصُ وَالْأمثال، وَهَذَا أيضا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ.
وَالتَّاسِعُ: أنه مَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ. وَهَذَا أيضا مِمَّا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ.
وَالْعَاشِرُ: قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ آيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ، وَهَذَا أيضا مِمَّا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ فَإِنَّ أَكْثَرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أنه يُعْرَفُ مَعْنَاهَا وَالْبَعْضُ الَّذِي تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مَعْنَاهُ إِنَّمَا ذَمَّ السَّلَفُ مِنْهُ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّةِ وَنَفَوْا عِلْمَ النَّاسِ بِكَيْفِيَّتِهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَكَذَلِكَ قَالَ سَائِرُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَحِينَئِذٍ فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمَعْنَى الْمَعْلُومِ وَبَيْنَ الْكَيْفِ الْمَجْهُولِ، فَإِنْ سُمِّيَ الْكَيْفُ تَأْوِيلًا سَاغَ أَنْ يُقَالَ هَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا. وَأَمَّا إِذَا جُعِلَ الْمَعْنَى وَتَفْسِيرُهُ تَأْوِيلًا كَمَا يُجْعَلُ مَعْرِفَةُ سَائِرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَأْوِيلًا، وَقِيلَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَجِبْرِيلَ وَالصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ مَعْنَى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [20: 5] وَلَا يَعْرِفُونَ مَعْنَى قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [38: 75] وَلَا مَعْنَى قوله: {وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ} [48: 6] بَلْ هَذَا عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الْعَجَمِيِّ الَّذِي لَا يَفْهَمُهُ الْعَرَبِيُّ، وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ كَانَ عِنْدَهُمْ قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [39: 67] وَقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [6: 103].
وَقوله: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [4: 134] وَقوله: {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [98: 8] وَقوله: {ذَلِكَ بأنهمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [47: 28] وَقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [2: 195]. وَقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [9: 105] وَقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [43: 3] وَقوله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} [9: 6] وَقوله: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [27: 8] وَقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [2: 210] وَقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [89: 22].
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [6: 158] {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [41: 11] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [36: 82] إِلَى أمثال هَذِهِ الْآيَاتِ فَمَنْ قَالَ عَنْ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ- صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا- وَعَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ، بَلِ اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِ مَعْنَاهَا كَمَا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ وَقْتِ السَّاعَةِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقْرَءُونَ أَلْفَاظًا لَا يَفْهَمُونَ لَهَا مَعْنًى؛ كَمَا يَقْرَأُ الْإِنْسَانُ كَلَامًا لَا يَفْهَمُ مِنْهُ شَيْئًا فَقَدْ كَذَبَ عَلَى الْقَوْمِ. وَالنُّقُولُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْهُمْ تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ هَذَا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَ هَذَا كَمَا يَفْهَمُونَ غَيْرَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ كُنْهُ الرَّبِّ- عَزَّ وَجَلَّ- لَا يُحِيطُ بِهِ الْعِبَادُ وَلَا يُحْصُونَ ثَنَاءً عَلَيْهِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَعْلَمُوا مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مَا عَلَّمَهُمْ- سُبْحَانَهُ وَتعالى-، كَمَا أَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أنه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْرِفُوا كَيْفِيَّةَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِذَا عَرَفُوا أنه حَقٌّ مَوْجُودٌ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْرِفُوا كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ. وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ فَإِنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ تَأْوِيلَ الْمُحْكَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْكَيْفِيَّةِ لَا يَنْفِي الْعِلْمَ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ وَبَيَانُ مَعْنَاهُ، بَلْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ الرَّبِّ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي ذَاكَ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَقْدَحُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّفْسِيرُ وَبَيْنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي فِي كِتَابِ اللهِ تعالى. قِيلَ: لَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ تَفْسِيرِ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ وَتَصَوُّرَ ذَلِكَ فِي الْقَلْبِ غَيْرُ مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ الْمُرَادَةِ بِذَلِكَ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ وَوُجُودٌ فِي الْبَيَانِ، فَالْكَلَامُ لَفْظٌ لَهُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ وَيُكْتَبُ ذَلِكَ اللَّفْظُ بِالْخَطِّ، فَإِذَا عَرَفَ الْكَلَامَ وَتَصَوَّرَ مَعْنَاهُ فِي الْقَلْبِ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِاللِّسَانِ فَهَذَا غَيْرُ الْحَقِيقَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَرَفَ الْأَوَّلَ عَرَفَ عَيْنَ الثَّانِي. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَخَبَرِهِ وَنَعْتِهِ، وَهَذَا مَعْرِفَةُ الْكَلَامِ وَمَعْنَاهُ وَتَفْسِيرُهُ، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ هُوَ نَفْسُ مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ، فَالْمَعْرِفَةُ بِعَيْنِهِ مَعْرِفَةُ تَأْوِيلِ ذَلِكَ الْكَلَامِ، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ قَدْ يَعْرِفُ الْحَجَّ وَالْمَشَاعِرَ كَالْبَيْتِ وَالْمَسَاجِدِ وَمِنًى وَعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَيَفْهَمُ مَعْنَى ذَلِكَ وَلَا يَعْرِفُ الْأَمْكِنَةَ حَتَّى يُشَاهِدَهَا فَيَعْرِفَ أَنَّ الْكَعْبَةَ الْمُشَاهَدَةَ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [3: 97] وَكَذَلِكَ أَرْضُ عَرَفَاتٍ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ} [2: 198] وَكَذَلِكَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ هِيَ الْمُزْدَلِفَةُ الَّتِي بَيْنَ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ وَوَادِي مُحَسِّرٍ يُعْرَفُ أَنَّهَا الْمَذْكُورَةُ فِي قوله: {فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [2: 198] وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَا يَرَاهَا الرَّجُلُ وَيَذْكُرُ لَهُ الْعَابِرُ تَأْوِيلَهَا فَيَفْهَمُهُ وَيَتَصَوَّرُهُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أنه كَانَ كَذَا وَيَكُونُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَهُوَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَا، لَيْسَ تَأْوِيلُهَا نَفْسَ عِلْمِهِ وَتَصَوُّرِهِ وَكَلَامِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [12: 100] وَقَالَ: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [12: 37] فَقَدْ أَنْبَأَهُمَا بِالتَّأْوِيلِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ التَّأْوِيلُ وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ وَإِنْ كَأن لا يَعْرِفُ مَتَى يَقَعُ، فَنَحْنُ نَعْلَمُ تَأْوِيلَ مَا ذَكَرَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُ مَتَى يَقَعُ هَذَا التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ سبحانه وَتعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [7: 53] الْآيَةَ.
(أَقُولُ) ثُمَّ إِنَّهُ- رَحِمَهُ اللهُ- أَطَالَ فِي الْبَيَانِ وَالشَّوَاهِدِ وَاحْتَجَّ بِالْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ وَعَلَى الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْفِقْهِ فِيهِ، وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ اللهَ تعالى لَمْ يَنْفِ عَنْ غَيْرِهِ عِلْمَ شَيْءٍ إِلَّا إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا بِهِ، وَذَكَرَ الْآيَاتِ الشَّاهِدَةَ بِذَلِكَ. وَمِنْهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَالْغَيْبِ فَمَنْ أَرَادَ التَّفْصِيلَ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ.

.آيَاتُ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ:

اعْلَمْ أَنَّ مَا تَلَقَّيْنَاهُ فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ الَّتِي تُقْرَأُ لِلْمُبْتَدِئِينَ مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ فِي دِيَارِ مِصْرَ وَالشَّامِ كَالْجَوْهَرَةِ وَالسَّنُوسِيَّةِ الصُّغْرَى وَمَا كُتِبَ عَلَيْهِمَا مِنْ شُرُوحٍ وَحَوَاشٍ هُوَ أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الصِّفَاتِ مَذْهَبَيْنِ: مَذْهَبُ السَّلَفِ وَهُوَ الإيمان بِظَاهِرِهَا مَعَ تَنْزِيهِ اللهِ تعالى عَمَّا يُوهِمُهُ ذَلِكَ الظَّاهِرُ وَتَفْوِيضُ الأمر فِيهِ إِلَى اللهِ تعالى، وَمَذْهَبُ الْخَلَفِ وَهُوَ تَأْوِيلُ مَا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ بِحَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ أَوِ الْكِتَابَةِ لِيَتَّفِقَ النَّقْلُ مَعَ الْعَقْلِ. وَقَالُوا: إِنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَسْلَمُ لِجَوَازِ أن يكون مَا حُمِلَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْمُتَشَابِهُ غَيْرَ مُرَادِ اللهِ تعالى، وَمَذْهَبُ الْخَلَفِ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ يُفَسِّرُ النُّصُوصَ جَمِيعَهَا وَيَحْمِلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، فَلَا يَكُونُ صَاحِبُهُ مُضْطَرِبًا فِي شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ. وَقَالُوا: إِنَّ الْخِلَافَ فِي التَّأْوِيلِ وَالتَّفْوِيضِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} هَلْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَمِ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَالرَّاسِخُونَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ إِلَخْ هَذَا مُلَخَّصُ مَا يُلَقَّنُ الطُّلَّابُ فِي هَذَا الْعَصْرِ، كَتَبْنَاهُ مِنْ غَيْرِ مُرَاجِعَةٍ لِهَذِهِ الْكُتُبِ الْقَاصِرَةِ الَّتِي اعْتَمَدَ عَلَيْهَا بَعْضُ الدَّارِسِينَ فَلْيُرَاجِعْهَا مَنْ شَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْجَوْهَرَةِ لِلْبَاجُورِيِّ عِنْدَ قَوْلِ الْمَتْنِ:
وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا ** أَوِّلْهُ أَوْ فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهًا

وَكُنَّا نَظُنُّ فِي أَوَائِلِ الطَّلَبِ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ ضَعِيفٌ وَأَنَّهُمْ لَمْ يُأَوِّلُوا كَمَا أَوَّلَ الْخَلَفُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا مَبْلَغَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ لاسيما الْحَنَابِلَةُ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ. وَلَمَّا تَغَلْغَلْنَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَظَفِرْنَا بَعْدَ النَّظَرِ فِي الْكُتُبِ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى فَلْسَفَةِ الْأَشَاعِرَةِ فِي الْكَلَامِ بِالْكُتُبِ الَّتِي تُبَيِّنُ مَذْهَبَ السَّلَفِ حَقَّ الْبَيَأن لاسيما كُتُبُ ابْنِ تَيْمِيَةَ عَلِمْنَا عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَيْسَ وَرَاءَهُ غَايَةٌ وَلَا مَطْلَبٌ وَأَنَّ كُلَّ مَا خَالَفَهُ فَهُوَ ظُنُونٌ وَأَوْهَامٌ لَا تُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا.