فصل: فصل: إخراج الكلام في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مخرج البدل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل: إخراج الكلام في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مخرج البدل:

وأما المسألة الحادية عشرة: وهي ما فائدة إخراج الكلام في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مخرج البدل مع أن الأول في نية الطرح فالجواب أن قولهم الأول في البدل في نية الطرح كلام لا يصح أن يؤخذ على إطلاقه بل البدل نوعان نوع يكون الأول فيه في نية الطرح وهو بدل البعض من الكل وبدل الاشتمال لأن المقصود هو الثاني لا الأول وقد تقدم ونوع لا ينوي فيه طرح الأول وهو بدل الكل من الكل بل يكون الثاني بمنزلة التذكير والتوكيد وتقوية النسبة مع ما تعطيه النسبة الإسنادية إليه من الفائدة المتجددة الزائدة على الأول فيكون فائدة البدل التوكيد والإشعار بحصول وصف المبدل للمبدل منه فإنه لما قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فكأن الذهن طلب المعرفة ما إذا كان هذا الصراط مختصا بنا أم سلكه غيرنا ممن هداه الله فقال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهذا كما إذا دللت رجلا على طريق لا يعرفها وأردت توكيد الدلالة وتحريضه على لزومها وأن لا يفارقها فأنت تقول هذه الطريق الموصلة إلى مقصودك ثم تزيد ذلك عنده توكيدا وتقوية فتقول وهي الطريق التي سلكها الناس والمسافرون وأهل النجاة أفلا ترى كيف أفاد وصفك لها بأنها طريق السالكين الناجين قدرا زائدا على وصفك لها بأنها طريق موصلة وقريبة سهلة مستقيمة فإن النفوس مجبولة على التأسي والمتابعة فإذا ذكر لها من تتأسى به في سلوكها أنست واقتحمتها فتأمله.

.فصل: وجه تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى:

وأما المسألة الثانية عشرة: وهي ما وجه تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى مع تلازم وصفي الغضب والضلال فالجواب أن يقال هذا ليس بتخصيص يقتضي نفي كل صفة عن أصحاب الصفة الأخرى فإن كل مغضوب عليه ضال وكل ضال مغضوب عليه لكن ذكر كل طائفة بأشهر وصفيها وأحقها به وألصقه بها وأن ذلك هو الوصف الغالب عليهما وهذا مطابق لوصف الله اليهود بالغضب في القرآن والنصارى بالضلال فهو تفسير للآية بالصفة التي وصفهم بها في ذلك الموضع أما اليهود فقال تعالى في حقهم: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَاب مُهِين}.
وفي تكرار هذا الغضب هنا أقوال أحدها: أنه غضب متكرر في مقابلة تكرر كفرهم برسول صلى الله عليه وسلم الله والبغي عليه ومحاربته فاستحقوا بكفرهم غضبا وبالبغي والصد عنه غضبا آخر ونظيره قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ}.
فالعذاب الأول بكفرهم والعذاب الذي زادهم إياه بصدهم الناس عن سبيله القول الثاني: أن الغضب الأول بتحريفهم وتبديلهم وقتلهم الأنبياء والغضب الثاني بكفرهم بالمسيح القول الثالث: أن الغضب الأول بكفرهم بالمسيح والغضب الثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والصحيح في الآية أن التكرار هنا ليس المراد به التثنية التي تشفع الواحد بل المراد غضب بعد غضب بحسب تكرر كفرهم وإفسادهم وقتلهم الأنبياء وكفرهم بالمسيح وبمحمد صلى الله عليه وسلم ومعاداتهم لرسل الله إلى غير ذلك من الأعمال التي كل عمل منها يقتضي غضبا على حدته وهذا كما في قوله: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي كرة بعد كرة لا مرتين فقط وقصد التعدد في قوله: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} أظهر ولا ريب أن تعطيلهم ما عطلوه من شرائع التوراة وتحريفهم وتبديلهم يستدعي غضبا وتكذيبهم الأنبياء يستدعي غضبا آخر وقتلهم إياهم يستدعي غضبا آخر وتكذبيهم المسيح وطلبهم قتله ورميهم أمه بالبهتان العظيم يستدعي غضبا وتكذبيهم النبي صلى الله عليه وسلم يستدعي غضبا ومحاربتهم له وأذاهم لأتباعه يقتضي غضبا وصدهم من أراد الدخول في دينه عنه يقتضي غضبا فهم الأمة الغضبية أعاذنا الله من غضبه فهي الأمة التي باءت بغضب الله المضاعف المتكرر وكانوا أحق بهذا الاسم والوصف من النصارى وقال تعالى في شأنهم: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} فهذا غضب مشفوع باللعنة والمسخ وهو أشد ما يكون من الغضب وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}.
وأما وصف النصارى بالضلال ففي قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} فهذا خطاب للنصارى لأنه في سياق خطابه معهم بقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} إلى قوله: {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}.
فوصفهم بأنهم قد ضلوا أولا ثم أضلوا كثيرا وهم أتباعهم فهذا قبل مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث ضلوا في أمر المسيح وأضلوا أتباعهم فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ازدادوا ضلالا آخر بتكذيبهم له وكفرهم به فتضاعف الضلال في حقهم هذا قول طائفة منهم الزمخشري وغيره وهو ضعيف فإن هذا كله وصف لأسلافهم الذين هم لهم تبع فوصفهم بثلاث صفات إحداها أنهم قد ضلوا من قبلهم والثانية: أضلوا أتباعهم والثالثة: أنهم ضلوا عن سواء السبيل فهذه صفات لأسلافهم الذين نهي هؤلاء عن اتباع أهوائهم فلا يصح أن يكون وصفا للموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم هم المنهيون أنفسهم لا المنهي عنهم فتأمله وإنما سر الآية أنها اقتضت تكرار الضلال في النصارى ضلالا بعد ضلال لفرط جهلهم بالحق وهي نظير الآية التي تقدمت في تكرار الغضب في حق اليهود ولهذا كان النصارى أخص بالضلال من اليهود ووجه تكرار هذا الضلال أن الضلال قد أخطأ نفس مقصوده فيكون ضالا فيه فيقصد ما لا ينبغي أن يقصده ويعبد من لا ينبغي أن يعبده وقد يصيب مقصودا حقا لكن يضل في طريق طلبة والسبيل الموصلة إليه فالأول ضلال في الغاية والثاني ضلال في الوسيلة ثم إذا دعا غيره إلى ذلك فقد أضله وأسلاف النصارى اجتمعت لهم الأنواع الثلاثة فضلوا عن مقصودهم حيث لم يصيبوه وزعموا أن إلههم بشر يأكل ويشرب ويبكي وأنه قتل وصلب وصفع فهذا ضلال في نفس المقصود حيث لم يظفروا به وضلوا عن السبيل الموصلة إليه فلا اهتدوا إلى المطلوب ولا إلى الطريق الموصل إليه ودعوا أتباعهم إلى ذلك فضلوا عن الحق وعن طريقه وأضلوا كثيرا فكانوا أدخل في الضلال من اليهود فوصفوا بأخص الوصفين والذي يحقق ذلك أن اليهود إنما أتوا من فساد الإرادة والحسد وإيثار ما كان لهم على قومهم من السحت والرياسة فخافوا أن يذهب بالإسلام فلم يؤتوا من عدم العلم بالحق فإنهم كانوا يعرفون أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ولهذا لم يوبخهم الله تعالى ويقرعهم إلا بإراداتهم الفاسدة من الكبر والحسد وإيثار السحت والبغي وقتل الأنبياء ووبخ النصارى بالضلال والجهل الذي هو عدم العلم بالحق فالشقاء والكفر ينشأ من عدم معرفة الحق تارة ومن عدم إرادته والعمل بها أخرى يتركب منها.
فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به وإيثار غير عليه بعد معرفته فلم يكن ضلالا محضا وكفر النصارى نشأ من جهلهم بالحق وضلالهم فيه فإذا تبين لهم وآثروا الباطل عليه أشبهوا الأمة الغضبية وبقوا مغضوبا عليهم ضالين ثم لما كان الهدى والفلاح والسعادة لا سبيل إلى نيله إلا بمعرفة الحق وإيثاره على غيره وكان الجهل يمنع العبد من معرفته بالحق والبغي يمنعه من إرادته كان العبد أحوج شيء إلى أن يسأل الله تعالى كل وقت أن يهديه الصراط المستقيم تعريفا وبيانا وإرشادا وإلهاما وتوفيقا وإعانة فيعلمه ويعرفه ثم يجعله مريدا له قاصدا لاتباعه فيخرج بذلك عن طريقة المغضوب عليهم الذين عدلوا عنه على عمد وعلم والضالين الذين عدلوا عنه عن جهل وضلال كان السلف يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى وهذا كما قالوا فإن من فسد من العلماء فاستعمل أخلاق اليهود من تحريف الكلم عن مواضعه وكتمان ما أنزل الله إذا كان فيه فوات غرضه وحسد من آتاه الله من فضله وطلب قتله وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس ويدعونهم إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم إلى غير ذلك من الأخلاق التي ذم بها اليهود من الكفر واللي والكتمان والتحريف والتحيل على المحارم وتلبيس الحق بالباطل فهذا شبهه باليهود ظاهر وأما من فسد من العباد فعبد الله بمقتضى هواه لا بما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم وغلا في الشيوخ فأنزلهم منزلة الربوبية وجاوز ذلك إلى نوع من الحلول أو الإتحاد فشبهه بالنصارى ظاهر فعلى المسلم أن يبعد من هذين الشبهين غاية البعد ومن تصور الشبهين والوصفين وعلم أحوال الخلق علم ضرورته وفاقته إلى هذا الدعاء الذي ليس للعبد دعاء أنفع منه ولا أوجب منه عليه وأن حاجته إليه أعظم من حاجته إلى الحياة والنفس لأن غاية ما يقدر بفوتهما موته وهذا يحصل له بفوته شقاوة الأبد فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} آمين إنه قريب مجيب فصل تقديم: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ والضالين}.آمين إنه قريب مجيب.

.فصل: وجوه تقديم المغضوب عليهم على الضالين:

وأما المسألة الثالثة عشرة: وهو تقديم المغضوب عليهم على الضالين فلوجوه أحدها أنهم متقدمون عليهم بالزمان الثاني أنهم كانوا هم الذين يلون النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين فإنهم كانوا جيرانه في المدينة والنصارى كانت ديارهم نائية عنه ولهذا تجد خطاب اليهود والكلام معهم في القرآن الكريم أكثر من خطاب النصارى كما في سورة البقرة والمائدة وآل عمران وغيرها من السور الثالث أن اليهود أغلظ كفرا من النصارى ولهذا كان الغضب أخص بهم واللعنة والعقوبة فإن كفرهم عن عناد وبغي كما تقدم فالتحذير من سبيلهم والبعد منها أحق وأهم بالتقديم وليس عقوبة من جهل كعقوبة من علم الرابع وهو أحسنها أنه تقدم ذكر المنعم عليهم والغضب ضد الإنعام والسورة هي السبع المثاني التي يذكر فيها الشيء ومقابله فذكر المغضوب عليهم مع المنعم عليهم فيه من الازدواج والمقابلة ما ليس في تقديم الضالين فقولك الناس منعم عليه ومغضوب عليه فكن من المنعم عليهم أحسن من قولك منعم عليه وضال فصل اسم المفعول في المغضوب واسم الفاعل في الضال.