فصل: (سورة آل عمران: الآيات 5- 6)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة آل عمران: الآيات 5- 6]

{إِنَّ الله لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إله إلا هو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)}.
{لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ} في العالم فعبر عنه بالسماء والأرض، فهو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن، وهو مجازيهم عليه {كَيْفَ يَشاءُ} من الصور المختلفة المتفاوتة. وقرأ طاوس: تصوّركم، أي صوّركم لنفسه ولتعبده، كقولك: أثلت مالا، إذا جعلته أثلة، أي أصلا. وتأثلته، إذا أثلته لنفسك.
وعن سعيد بن جبير: هذا حجاج على من زعم أنّ عيسى كان ربا، كأنه نبه بكونه مصورا في الرحم، على أنه عبد كغيره، وكان يخفى عليه ما لا يخفى على الله.

.[سورة آل عمران: آية 7]

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الألباب (7)}.
{مُحْكَماتٌ} أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه {مُتَشابِهاتٌ} مشتبهات محتملات {هُنَّ أُمُّ} الْكِتابِ أي أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وتردّ إليها، ومثال ذلك {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ}، {إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ}، {لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ}.
{أَمَرْنا مُتْرَفِيها}.
فإن قلت: فهلا كان القرآن كله محكما؟ قلت: لو كان كله محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمّل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه وردّه إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله، ولأنّ المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ولا اختلاف، إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد، ففكر وراجع نفسه وغيره ففتح الله عليه وتبين مطابقة المتشابه المحكم، ازداد طمأنينة إلى معتقده وقوّة في إيقانه {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} هم أهل البدع {فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ} فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق {ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ} طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم {وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ} وطلب أن يأوّلوه التأويل الذي يشتهونه {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أي لا يهتدى إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله وعباده الذين رسخوا في العلم، أي ثبتوا فيه وتمكنوا وعضوا فيه بضرس قاطع. ومنهم من يقف على قوله إلا الله، ويبتدئ والراسخون في العلم يقولون.
ويفسرون المتشابه بما استأثر الله بعلمه، وبمعرفة الحكمة فيه من آياته، كعدد الزبانية ونحوه:
والأوّل هو الوجه. ويقولون: كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هؤلاء العالمون بالتأويل {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} أي بالمتشابه {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا} أي كل واحد منه ومن المحكم من عنده، أو بالكتاب كل من متشابهه ومحكمه من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ولا يختلف كتابه {وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الألباب} مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمّل. ويجوز أن يكون {يَقُولُونَ} حالا من الراسخين. وقرأ عبد الله: إن تأويله إلا عند الله. وقرأ أبىّ: ويقول الراسخون.

.[سورة آل عمران: الآيات 8- 9]

{رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أنك أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا أنك جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ الله لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)}.
{لا تُزِغْ قُلُوبَنا} لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا} وأرشدتنا لدينك. أو لا تمنعنا ألطافك بعد إذ لطفت بنا {مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} من عندك نعمة بالتوفيق والمعونة. وقرئ لا تزغ قلوبنا، بالتاء والياء ورفع القلوب جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ أي تجمعهم لحساب يوم أو لجزاء يوم، كقوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ}: وقرئ: جامع الناس، على الأصل {إِنَّ الله لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ} معناه أنّ الإلهية تنافى خلف الميعاد كقولك: إن الجواد لا يخيب سائله والميعاد: الموعد. قرأ على رضى الله عنه. لن تغنى بسكون الياء، وهذا من الجدّ في استثقال الحركة على حروف اللين.

.[سورة آل عمران: الآيات 10- 12]

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ الله شَيْئًا وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ وَالله شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12)}.
{مِنَ} في قوله مِنَ الله مثله في قوله: {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} والمعنى: لن تغنى عنهم من رحمة الله أو من طاعة الله شَيْئًا أي بدل رحمته وطاعته وبدل الحق: ومنه «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» أي لا ينفعه جدّه وحظه من الدنيا بدلك، أي بدل طاعتك وعبادتك وما عندك وفي معناه قوله تعالى: {وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى} وقرئ: وقود، بالضم بمعنى أهل وقودها. والمراد بالذين كفروا من كفر برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباس: هم قريظة والنضير. الدأب: مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله، والكاف مرفوع المحل تقديره: دأب هؤلاء الكفرة كدأب من قبلهم من آل فرعون وغيرهم. ويجوز أن ينتصب محل الكاف بلن تغنى، أو بالوقود. أي لن تغنى عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك أو توقد بهم النار كما توقد بهم، تقول: أنك لتظلم الناس كدأب أبيك تريد كظلم أبيك ومثل ما كان يظلمهم، وإنّ فلانا لمحارف كدأب أبيه، تريد كما حورف أبوه كَذَّبُوا بِآياتِنا تفسير لدأبهم ما فعلوا وفعل بهم، على أنه جواب سؤال مقدّر عن حالهم قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هم مشركو مكة سَتُغْلَبُونَ يعنى يوم بدر. وقيل: هم اليهود. ولما غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر قالوا: هذا والله النبي الأمىّ الذي بشرنا به موسى، وهموا باتباعه.
فقال بعضهم لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة أخرى، فلما كان يوم أحد شكوا. وقيل: جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في سوق بنى قينقاع فقال يا معشر اليهود احذروا مثل ما نزل بقريش وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أنى نبى مرسل، فقالوا لا يغرّنك أنك لقيت قوما أغمارًا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، لئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس، فنزلت وقرئ: سيغلبون ويحشرون، بالياء، كقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ} على قل لهم قولي لك سيغلبون. فإن قلت: أي فرق بين القراءتين من حيث المعنى؟ قلت: معنى القراءة بالتاء الأمر بأن يخبرهم بما سيجرى عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم. فهو إخبار بمعنى سيغلبون ويحشرون وهو الكائن من نفس المتوعد به والذي يدل عليه اللفظ: ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكى لهم ما أخبره به من وعيدهم بلفظه، كأنه قال: أدّ إليهم هذا القول الذي هو قولي لك سيغلبون ويحشرون.

.[سورة آل عمران: آية 13]

{قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَالله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)}.
{قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ} الخطاب لمشركي قريش فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا يوم بدر يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين قريبًا من ألفين. أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفًا وعشرين، أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم، وكان ذلك مددًا لهم من الله كما أمدّهم بالملائكة. والدليل عليه قراءة نافع: ترونهم، بالتاء أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم الكافرة، أو مثلي أنفسهم. فإن قلت: فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ}. قلت: قللوا أوّلا في أعينهم حتى اجترءوا عليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين. ونظيره من المحمول على اختلاف الأحوال قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} وقوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ} وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية. وقيل يرى المسلمون المشركين مثلي المسلمين على ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثنين في قوله تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} بعد ما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} ولذلك وصف ضعفهم بالقلة لأنه قليل بالإضافة إلى عشرة الأضعاف وكان الكافرون ثلاثة أمثالهم. وقراءة نافع لا تساعد عليه. وقرأ ابن مصرف: يرونهم، على البناء للمفعول بالياء والتاء، أي يريهم الله ذلك بقدرته. وقرئ: فئة تقاتل وأخرى كافرة، بالجرّ على البدل من فئتين، وبالنصب على الاختصاص.
أو على الحال من الضمير في التقتا رَأْيَ الْعَيْنِ يعنى رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها، معاينة كسائر المعاينات وَالله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدوّ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري:

إذا أراد اللهُ إمضاءَ أمرٍ قلَّل الكثير في أعين قوم، وكثَّر القليل في أعين قوم، وإذا لبَّس على بصيرة قوم لم ينفعهم نفاذ أبصارهم، وإذا فتح أسرار آخرين فلا يضرهم انسداد بصائرهم. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار:

قال رحمه الله:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا}.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا} مَا مِثَالُهُ: يُقَالُ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا قَبْلَهَا فِي تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ سَوَاءٌ كَانَ رَدًّا عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ أَوْ كَانَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا؛ فَإِنَّ التَّوْحِيدَ لَمَّا كَانَ أَهَمَّ رُكْنٍ لِلْإِسْلَامِ كَانَ مِمَّا تُعْرَفُ الْبَلَاغَةُ أَنْ يُبْدَأَ بِتَقْرِيرِ الْحَقِّ فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِبَيَانِ حَالِ أَهْلِ الْمُنَاكَرَةِ وَالْجُحُودِ وَمَنَاشِئِ اغْتِرَارِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَأَسْبَابِ اسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ ذَلِكَ الْحَقِّ أَوِ اشْتِغَالِهِمْ عَنْهُ. وَأَهَمُّهَا الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ فَهِيَ تُنْبِئُهُمْ هُنَا بأنها لَا تُغْنِي عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ؛ إِذْ يَجْمَعُ اللهُ فِيهِ النَّاسَ وَيُحَاسِبُهُمْ بِمَا عَمِلُوا، بَلْ وَلَا فِي أَيَّامِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ لابد أَنْ يَغْلِبُوهُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ، وَمَا أَحْوَجَ الْكَافِرِينَ إِلَى هَذَا التَّذْكِيرِ، إِنَّ الْجُحُودَ إِنَّمَا يَقَعُ مِنَ النَّاسِ لِلْغُرُورِ بِأَنْفُسِهِمْ وَتَوَهُّمِهِمُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الْحَقِّ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الْقُوَّةِ وَالْجَاهِ إِذَا وُعِظَ بِالدِّينِ عِنْدَ هَضْمِ حَقٍّ مِنَ الْحُقُوقِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْوَعْظُ، وَلَكِنَّهُ إِذَا رأى أَنَّ الْحَقَّ لَهُ وَاحْتَاجَ إِلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ بِالدِّينِ، فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ وَاعِظًا بَعْدَ أَنْ كَانَ جَاحِدًا، فَهُمْ لِظُلْمَةِ بَصِيرَتِهِمْ وَغُرُورِهِمْ بِمَا أُوتُوا مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ وَجَاهٍ يَتَّبِعُونَ الْهَوَى فِي الدِّينِ فِي كُلِّ حَالٍ.
قَالَ: فَسَّرَ مُفَسِّرُنَا الْجَلَالُ {تُغْنِي} بِتَدْفَعُ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَإِنَّمَا {تُغْنِي} هُنَا كَـ {يُغْنِي} فِي قَوْلِهِ- عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [53: 28] وَلَا أَرَاكَ تَقُولُ: إِنَّ مَعْنَاهَا لَنْ يَدْفَعَ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا وَإِنَّمَا مَعْنَى مِنْ هُنَا الْبَدَلِيَّةُ، أَيْ أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ لَنْ تَكُونَ بَدَلًا لَهُمْ مِنَ اللهِ تعالى تُغْنِيهِمْ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُمْ إِذَا تَمَادَوْا عَلَى بَاطِلِهِمْ يُغْلَبُونَ عَلَى أَمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَيُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ- كَمَا سَيَأْتِي فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِي مَا بَعْدَ هَذِهِ- بَلْ تَوَعَّدَهُمْ فِي هَذِهِ أيضا بِقوله: {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} الْوَقُودُ- بِالْفَتْحِ- كَصَبُورٍ: مَا تُوقَدُ بِهِ النَّارُ مِنْ حَطَبٍ وَنَحْوِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: أَيْ إِنَّهُمْ سَبَبُ وُجُودِ نَارِ الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ الْوَقُودَ سَبَبُ وُجُودِ النَّارِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ أَنَّهُمْ مِمَّا تُوقَدُ بِهِ، وَلَا نَبْحَثُ عَنْ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ الَّتِي تُؤْخَذُ بِالتَّسْلِيمِ. رَاجِعْ تَفْسِيرَ {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [2: 24] فِيهَا مَزِيدُ بَيَانٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ تعالى مَثَلًا لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اسْتَغْنَوْا بِمَا أُوتُوا فِي الدُّنْيَا عَنِ الْحَقِّ فَعَارَضُوهُ وَنَاهَضُوهُ حَتَّى ظَفِرَ بِهِمْ فَقَالَ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ بِأَنْ أَهْلَكَهُمْ وَنَصَرَ مُوسَى عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ عَلَى أُمَمِهِمُ الْمُكَذِّبِينَ؛ ذَلِكَ بأنهمْ كَانُوا بِكُفْرِهِمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ، فَمَا أُخِذُوا إِلَّا بِذُنُوبِهِمْ، وَمَا نُصِرَ الرُّسُلُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُمْ إِلَّا بِصَلَاحِهِمْ؛ فَاللهُ تعالى لَا يُحَابِي وَلَا يَظْلِمُ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ؛ إِذْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأن يكون الْعِقَابُ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِلذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ وَأَشَدُّهَا الْكُفْرُ وَمَا تَفَرَّعَ عَنْهُ، فَلْيَعْتَبِرِ الْمَخْذُولُونَ إِنْ كَانُوا يَعْقِلُونَ.
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: {سَيُغْلَبُونَ} {وَيُحْشَرُونَ} بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَالْبَاقُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَهَذَا الْكَلَامُ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمَغْرُورِينَ بِحَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمُ الْمُعْتَزِّينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ: إِنَّكُمْ سَتُغْلَبُونَ فِي الدُّنْيَا وَتُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَافِرُونَ يَعْتَزُّونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ فَتَوَعَّدَهُمُ اللهُ تعالى وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الأمر لَيْسَ بِالْكَثْرَةِ وَالثَّرْوَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ وَتعالى.
أَقُولُ: يُشِيرُ إِلَى مِثْلِ قوله تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [34: 35] وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ كَثْرَةَ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ تَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ- إِنْ كَانَ هُنَاكَ آخِرَةٌ- كَمَا تَنْفَعُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ تعالى يُعْطِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَعْطَاهُمْ فِي الدُّنْيَا. كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي قوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [19: 77، 78] إِلَخْ. وَكَقَوْلِهِ فِي صَاحِبِ الْجَنَّةِ، أَيِ الْبُسْتَانِ: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [18: 35، 36] وَقَدْ رَدَّ الْقُرْآنُ شُبْهَتَهُمْ وَدَعْوَاهُمْ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ، أَمَّا غُرُورُهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَحُسْبأنهمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ بِهَا غَالِبِينَ أَعِزَّاءَ دَائِمًا، فَذَلِكَ مَعْهُودٌ وَشُبْهَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا زَعْمُهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ مُنْتَهَى الطُّغْيَانِ الَّذِي بَيَّنَهُ اللهُ تعالى فِي قوله: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [96: 6، 7] وَقَدْ أَنْفَذَ اللهُ وَعِيدَهُ الْأَوَّلَ فِي أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ فَغُلِبُوا فِي الدُّنْيَا. قِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِلْيَهُودِ وَقَدْ غَلَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَتَلُوا بَنِي قُرَيْظَةَ الْخَائِنِينَ، وَأَجْلَوْا بَنِي النَّضِيرِ الْمُنَافِقِينَ، وَفَتَحُوا خَيْبَرَ. وَقِيلَ: هُوَ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ غَلَبَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَتَمَّ اللهُ نِعْمَتَهُ بِغَلَبِهِمْ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَلَمْ تُغْنِ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ، وَسَيَنْفُذُ وَعِيدُهُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ، وَبِئْسَ الْمِهَادُ مَا مَهَّدُوا لِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ بِئْسَ الْمِهَادُ جَهَنَّمُ. الْمِهَادُ: الْفِرَاشُ، يُقَالُ: مَهَّدَ الرَّجُلُ الْمِهَادَ إِذَا بَسَطَهُ، وَيُقَالُ: مَهَّدَ الأمر، إِذَا هَيَّأَهُ وَأَعَدَّهُ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ جُمْلَةَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ مَحْكِيَّةً بِالْقَوْلِ، أَيْ وَيُقَالُ لَهُمْ: بِئْسَ الْمِهَادُ.
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} قَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ: {تَرَوْنَهُمْ} بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ. يَقُولُ تعالى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمَغْرُورِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَبِأَعْوَانِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ: لَا تَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ الْعَدَدِ وَلَا بِمَا يَأْتِي بِهِ الْمَالُ مِنَ الْعَدَدِ، وَلَا تَحْسَبُوا أَنَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي يُفْضِي إِلَى النَّصْرِ وَالْغَلَبِ، فَإِنَّ فِي الِاعْتِبَارِ بِبَعْضِ حَوَادِثِ الزَّمَانِ أَوْضَحَ آيَةٍ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْحُسْبَانِ، فَذَكَرَ الْفِئَتَيْنِ، أَيِ الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ الْتَقَتَا فِي الْقِتَالِ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمِثَالِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ هِيَ مَا كَانَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى وَقْعَةِ بِدْرٍ- كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ الْجَلَالُ- وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ إِشَارَةً إِلَى وَقَائِعَ أُخْرَى قَبْلَ الإسلام، وَيُرَجَّحُ هَذَا إِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ؛ فَإِنَّ فِي كُتُبِهِمْ مِثْلَ هَذِهِ الْعِبْرَةِ كَقِصَّةِ طَالُوتَ وَجَالُوتَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. أَقُولُ: (أَوْ قِصَّةُ جَدْعُونَ عَلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنَ التَّحْرِيفِ) وَيُرَجَّحُ الْأَوَّلُ إِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَثَبَتَ أَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ كَانَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَقَدْ كَانَتِ الْفِئَةُ الْكَافِرَةُ فِي بَدْرٍ ثَلَاثَةَ أَضْعَافِ الْمُسْلِمَةِ، وَيَصِحُّ أن يكونوا مَعَ ذَلِكَ رَأَوْهُمْ مِثْلَيْهِمْ فَقَطْ؛ لِأَنَّ اللهَ قَلَّلَهُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ كَمَا وَرَدَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ. أَقُولُ: وَهَذَا التَّصْحِيحُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الرَّائِينَ هُمُ الْفِئَةُ الَّتِي تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهِيَ الْمُؤْمِنَةُ، وَأَنَّ الْمَرْئِيِّينَ هُمُ الْفِئَةُ الْكَافِرَةُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.