فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهكذا تكون العبرة هي العظة اللافتة والناقلة من حكم إلى حكم قد يستغربه الذهن، فتذييل هذه الآية الكريمة بهذا المعنى هو أيضاح وبيان كامل، فالحق يقول في بداية هذه الآية: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} وتنتهي الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}.
إذن فالعبرة شيء ينقلنا من أمر إلى أمر قد تستغربه الأسباب وذلك إن كنت متروكا لسياسة نفسك، لكن المؤمن ليس متروكا لسياسة نفسه؛ لأن الله لو أراد أن يعذب الكفار بدون مواجهة المؤمنين وحربهم لعذبهم بدون ذلك، ولكن الله يريد أن يكون عذاب الكافرين بأيدي المؤمنين: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 14].
ولو كان الله يريد أن يعذب الكافرين بغير أيدي المؤمنين لأحدث ظاهرة في الكون تعذبهم، كزلزال يحدث ويدمرهم، ولكن الله يريد أن يعذب الكافرين بأيدي المؤمنين.
{وَالله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}، والأيد هو القوة، إذن فهو يريد منك فقط النواة العملية، ثم بعد ذلك يكملها الله بالنصر، وأيَّده أي قواه، ويؤيد الله بنصره من يشاء، وتكون العبرة لأولي الأبصار.
وقد يقول قائل: أتكون العبرة لأولي الأبصار؛ أم لأولي البصائر؟ وهنا نقول: إن العبرة هنا لأولى الأبصار لأن الأمر الذي تتحدث عنه الآية هو أمر مشهدي، أمر محسوس، فمن له عينان عليه أن يبصر بهما، فإذا كان التفكير والتدبر ليس أمرا موهوبا لكل مخلوق من البشر، فإن البصر موجود للغالبية من الناس، وكل منهم يستطيع أن يفتح عينيه ليرى هذا الأمر المشهدي.
وإذا ما نظرنا إلى المعركة بذاتها وجدنا الدليل الكامل على صدق العبارة؛ فالمؤمنون قلة وعددهم معروف محدود، وعتادهم قليل، ولم يخرجوا بقصد حرب، إنما خرجوا لقصد الاستيلاء على العير المحملة بالأرزاق من طعام وكسوة تعويضا عما اغتصبه المشركون من أموالهم في مكة، ولو أنّهم استولوا على العير فقط لما كان النصر عظيما بالدرجة التي كان عليها؛ لأن العِير عادة لا تسير بعتاد ضخم إنما تحفظ بالحراسة فقط. ولكن الله يريد لهم النصر على ذات الشوكة، أي الطائفة القوية المسلحة، لقد وعدهم الله بالنصر على إحدى الطائفتين: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 7].
لقد كان وعد الله أن ينصر المؤمنين على إحدى الطائفتين، والأمل البشرى كان يود الانتصار على الطائفة غير ذات الشوكة أي الطائفة غير المسلحة وهي العير، ولكن مثل هذا النصر لا يكون له دَوِيُّ النصر على الطائفة المسلحة، فقد كان من السهل أن يقال: إن محمدًا ومن معه تعرضوا لجماعة من التجار لا أسلحة معهم ولا جيش، ولكن الله يريد أن يجعل من هذه المعركة فرقانا وأن يحق الحق.
إنكم أيها المؤمنون لم تخرجوا إلاَّ لِقصد العير أي لم يكن استعدادكم كافيا للقتال، أما الكفار فقد جاءوا بالنفير، أي بكل قوتهم فقد ألقت مكة في هذه المعركة بأفلاذ أكبادها. وعندما يأتي النصر من الله للمؤمن في مثل هذه الموقعة فهو نصر حقيقي، ويكون آية غاية في العجب من آيات الله. وتصير عبرة للغير. لذلك نجد العجائب في هذه المعركة- معركة بدر-.
الغرائب أنك تجد الأخوين يكون لكل منهما موقف ومجابهة. وتجد الأب والابن لكل منهما موقف ومجابهة برغم عمق الصلة بينهما، فمثلا ابن أبي بكر رضي الله عنه، وكان هذا الابن لم يسلم بعد، وكان في جانب الكفار، وأبوه الصديق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن أسلم ابن أبي بكر يحكي الابن لأبيه بشيء من الامتنان والبر: لقد تراءيت لي يوم بدر فزويت وجهي عنك. فيرد أبو بكر الرد الإيماني الصدِّيقي: والله لو تراءيت لي أنت لقتلتك.
وكلا الموقفين منطقي، لماذا؟ لأن ابن أبي بكر حين يلتقي بأبي بكر، ويرى وجه أبيه، فإنه يقارن بين أبي بكر وبين ماذا؟ أنه يقارن بين أبيه وبين باطل، ويعرف تمام العلم أنه باطل، فيرجح عند ابن أبي بكر أبوه، ولذلك يحافظ على أبيه فلا يلمسه. لكنَّ أبا بكر الصديق حينما يقارن فهو يقارن بين الإيمان بالله وابنه، ومن المؤكد أن الإيمان يزيد عند الصديق أبي بكر، فلو رآه يوم بدر لقتله.
ولله حكمة فيمن قُتل على أيدي المؤمنين من مجرمي الحرب من قريش، ولله حكمة فيمن أبقى من الكفار بغير قتل؛ لأن هؤلاء مدخرون لقضية إيمانية كبرى سوف يبلون فيها البلاء الحسن. فلو مات خالد بن الوليد في موقعة من المواقع التي كان فيها في جانب الكفر لحزنا نحن المسلمين؛ لأن الله قد ادخره لمعارك إيمانية يكون فيها سيف الله المسلول، ولو مات عكرمة لفقدت أمة الإسلام مقاتلا عبقريا.
لقد حزن المسلمون في موقعة بدر لأنهم لم يقتلوا هؤلاء الفرسان؛ لأنهم لم يعلموا حكمة الله في ادخار هؤلاء المقاتلين؛ لينضموا فيما بعد إلى صفوف الإيمان. والله لم يمكِّن مقاتلي المسلمين يوم بدر من المحاربين الذين كانوا على دين قومهم آنئذٍ إلاّ لأن الله قد ادخرهم لمواقع إيمانية قادمة يقفون فيها، ويحاربون في صفوف المؤمنين وهذا نصر جديد.
ونرى أبا عزيز وهو شقيق الصحابي مصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبشر بدين الله، ويعلِّم أهل المدينة، وكان مصعب فتى فريش المدلل صاحب ترف، وأمه صاحبة ثراء، وبعد ذلك رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبس جلد شاة بعد أن كان يلبس الحرير، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى الإيمان ماذا فعل بصاحبكم».
والتقى مصعب في المعركة مع أخيه أبي عزيز، وأبو عزيز على الكفر، ومصعب رضي الله عنه مسلم يقف مع النبي صلى الله عليه وسلم، وحين يرى مصعب رضي الله عنه أخاه أبا عزيز وهو أسير لصحابي اسمه أبو اليسر، فيقول مصعب: يا أبا اليسر اشدد على أسيرك؛ فإن أمه غنية وذات متاع، وستفديه بمال كثير.
فيقول له أخوه أبو عزيز: أهذه وصاتك بأخيك؟ فيقول مصعب مشيرًا إلى أبي اليسر: هذا أخي دونك.
كانت هذه هي الروح الإيمانية التي تجعل الفئة القليلة تنتصر على أهل الكفر، طاقة إيمانية ضخمة تتغلب على عاطفة الأخوة، وعاطفة الأبوة، وعاطفة البنوة. وقد جعل الله من موقعة بدر آية حتى لا يخور مؤمن وإن قل عدد المؤمنين، أو قلت عُدّتهم، وحتى لا يغتر كافر، وإن كثر عددُ قومه وعتادهم.
وقد جعلها الله آية للصدق الإيماني، ولذلك يقال: احرص على الموت توهب لك الحياة. وقد كانت القضية الإيمانية هي التي تملأ نفس المؤمن، إنَّها قضية عميقة متغلغلة في النفوس. ولماذا يتربص الكفار بالمؤمنين؟ إنهم إن تربصوا بهم، فسيدخل المؤمنون الجنة إن قُتِلوا أو ينتصرون على الكفار، وفي ذلك يقول الحق على لسان المؤمنين: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52].
فالظفر هنا بأحد أمرين: إما النصر على الكافرين، وإما الاستشهاد في سبيل الله، ونيل منزلة الشهداء في الجنة وكلاهما جميل. والمؤمنون يتربصون بالكافرين، إما أن يصيب الله الكفار بعذاب من عنده، وإما أن يصيبهم بأيدي المؤمنين. إنها معادلة إيمانية واضحة جلية. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَالله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)}.
أخرج ابن اسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب ما أصاب من بدر ورجع إلى المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال: «يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشًا» فقالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا ولا يعرفون القتال، أنك والله لو ما قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا. فأنزل الله: {قل للذين كفروا ستغلبون} إلى قوله: {لأولي الأبصار}.
وأخرج ابن إسحق وابن جرير وابن أبي حاتم عن عاصم بن عمر عن قتادة. مثله.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال: قال فنحاص اليهودي في يوم بدر: لا يغرن محمدًا أن غلب قريشًا وقتلهم، إن قريشًا لا تحسن القتال. فنزلت هذه الآية: {قل للذين كفروا ستغلبون}.
وأخرج ابن جرير عن قتادة {قد كان لكم آية} عبرة وتفكر.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس {قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله} أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر {وأخرى كافرة} فئة قريش الكفار.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن عكرمة قال: في أهل بدر نزلت {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم} [الأنفال: 7] وفيهم نزلت {سيهزم الجميع} [القمر: 45] الآية. وفيهم نزلت {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب} [المؤمنون: 64] وفيهم نزلت {ليقطع طرفًا من الذين كفروا} [آل عمران: 127] وفيهم نزلت {ليس لك من الأمر شيء} [آل عمران: 128] وفيهم نزلت {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرًا} [إبراهيم: 28] وفيهم نزلت {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء} [الأنعام: 47] وفيهم نزلت {قد كان لكم آية في فئتين التقتا}.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع في قوله: {قد كان لكم آية} يقول: قد كان لكم في هؤلاء عبرة ومتفكر. أيدهم الله ونصرهم على عدوّهم وذلك يوم بدر، كان المشركون تسعمائة وخمسين رجلًا، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة عشر رجلًا.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: {قد كان لكم آيةٌ في فئتين} الآية. قال: هذا يوم بدر فنظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلًا واحدًا. وذلك قول الله: {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلًا ويقللكم في أعينهم} [الأنفال: 44].
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {قد كان لكم آية في فئتين} الآية. قال: أنزلت في التخفيف يوم بدر على المؤمنين، كانوا يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا، وكان المشركون مثليهم ستة وعشرين وستمائة، فأيد الله المؤمنين فكان هذا في التخفيف على المؤمنين.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس، أن أهل بدر كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر. المهاجرون منهم خمسة وسبعون، وكانت هزيمة بدر لسبع عشرة من رمضان ليلة جمعة.
وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله: {يؤيد بنصره من يشاء} قال: يقوي بنصره من يشاء قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
برجال لستمو أمثالهم ** أيدوا جبريل نصرًا فنزل

.تفسير الآية رقم (14):

قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالله عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما علم بهذا أن الذي وقف بهم عن الإيمان من الأموال والأولاد وسائر المتاع إنما هو شهوات وعرض زائل، لا يؤثره على اتباع ما شرعه الملك إلا من انسلخ من صفات البشر إلى طور البهائم التي لا تعرف إلا الشهوات، وختم ذلك بذكر آية الفئتين كان كأنه قيل: الآية العلامة، ومن شأنها الظهور، فما حجبها عنهم؟ فقيل: تزيين الشهوات لمن دنت همته.
وقال الحرالي: لما أظهر سبحانه وتعالى في هذه السورة ما أظهره بقاء لعلن قيوميته من تنزيل الكتاب الجامع الأول، وإنزال الكتب الثلاثة: إنزال التوراة بما أنشاء عليه قومها من وضع رغبتهم ورهبتهم في أمر الدنيا، فكان وعيدهم فيها ووعدهم على إقامة ما فيها إنما هو برغبة في الدنيا ورهبتها، لأن كل أمة تدعى لنحو ما جبلت عليه من رغبة ورهبة، فمن مجبول على رغبة ورهبة في أمر الدنيا، ومن مجبول على ما هو من نحو ذلك في أمر الآخرة ومن مفطور على ما هو من غير ذلك من أمر الله، فيرد خطاب كل أمة وينزل عليها كتابها من نحو ما جبلت عليه، فكان كتاب التوراة كتاب رجاء ورغبة وخوف ورهبة في موجود الدنيا، وكان كتاب الإنجيل كتاب دعوة إلى ملكوت الآخرة، وكانا متقابلين، بينهما ملابسة، لم يفصل أمرهما فرقان واضح، فكثر فيهما الاشتباه، فأنزل الله تعالى الفرقان لرفع لبس ما فيهما فأبان فيه المحكم والمتشابه من منزل الوحي، وكما أبان فيه فرقان الوحي أبان فيه أيضا فرقان الخلق وما اشتبه من أمر الدنيا والآخرة ووام التبس على أهل الدنيا من أمر الخلق بلوائح آيات الحق عليهم، فتبين في الفرقان محكم الوحي من متشابهه، ومحكم الخلق من متشابهه وكان متشابه الخلق هو المزين من متاع الدنيا، ومحكم الخلق هو المحقق من دوام خلق الآخرة، فاطلع نجم هذه الآية لإنارة غلس ما بنى عليه أمر التوراة من إثبات أمر الدنيا لهم وعدًا ووعيدًا، لتكون هذه الآية توطئة لتحقيق صرف النهي عن مد اليد والبصر إلى ما متع به أهلها، فأنبأ تعالى أن متاع الدنيا أمر مزين، لا حقيقة لزينته ولا حسن لما وراء زخرفه فقال: {زين للناس} فأبهم المزين لترجع إليه ألسنة التزيين مما كانت في رتبة علو أو دنو، وفي إناطة التزيين بالناس دون الذين آمنوا ومن فوقهم أيضاح لنزول سنهم في أسنان القلوب وأنهم ملوك الدنيا وأتباعهم ورؤساء القبائل وأتباعهم الذين هم أهل الدنيا {حب الشهوات} جمع شهوة، وهي نزوع النفس إلى محسوس لا تتمالك عنه- انتهى.
وفي هذا الكلام إعلام بأن الذي وقع عليه التزين الحب، لا الشيء المحبوب، فصار اللازم لأهل الدنيا إنما هو محبة الأمر الكلي من هذه المسميات وربما إذا تشخص في الجزئيات لم تكن تلك الجزئيات محبوبة لهم، وفيه تحريك لهمم أهل الفرقان إلى العلو عن رتبة الناس الذين أكثرهم لا يعلمون ولا يشكرون ولا يعقلون، ثم بين ذلك بما هو محط القصد كله، وآخر العمل من حيث إن الأعلق بالنفس حب أنثاها التي هي منها {خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} [النساء: 1] فقال: {من النساء} أي المبتدئة منهن، وأتبعه ما هو منه أيضا وهو بينه وبين الأنثى فقال: {والبنين} قال الحرالي: وأخفى فتنة النساء بالرجال سترًا لهن، كما أخفى أمر حواء في ذكر المعصية لآدم حيث قال: {وعصى آدم ربه} [طه: 121] فأخفاهن لما في ستر الحرم من الكرم، والله سبحانه وتعالى حي كريم- انتهى.
ثم أتبع ذلك ما يكمل به أمره فقال: {والقناطير} قال الحرالي: جمع قنطار، يقال: هو مائة رطل ويقال: إن الرطل اثنتا عشرة أوقية، والأوقية أربعون درهمًا، والدرهم خمسون حبة وخمسًا من حب الشعير، وأحقه أن يكون من شعير المدينة {المقنطرة} أي المضاعفة مرات- انتهى.
ثم بينها بقوله: {من الذهب والفضة} ثم أتبعها الزينة الظاهرة التي هي أكبر الأسباب في تحصيل الأموال فقال: {والخيل} قال الحرالي: اسم جمع لهذا الجنس المجبول على هذا الاختيال لما خلق له من الاعتزاز به وقوة المنة في الافتراس عليه الذي منه سمي واحدة فرسًا {المسومة} أي المعلمة بأعلام هي سمتها وسيماها التي تشتهر بها جودتها، من السومة- بضم السين، وهي العلامة التي تجعل على الشاة لتعرف بها، وأصل السوم بالفتح الإرسال للرعي مكتفي في المرسل بعلامات تعرف بها نسبتها لمن تتوفر الدواعي للحفيظة عليها من أجله من الواقع عليها من الخاص والعام، فهي مسومة بسيمة تعرف بها جودتها ونسبتها {والأنعام} وهي جمع نعم، وهي الماشية فيها إبل، والإبل واحدها، فإذا خلت منها الإبل لم يجر على الماشية اسم نعم- انتهى.