فصل: كلام نفيس يتعلق بالآية لحجة الإسلام الغزالي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إن كل ذلك هو متاع الحياة الدنيا، والفيصل هو أن الإنسان يخشى أن تفوته النعمة فلا تكون عنده، أو أن يفوتها فيموت. وكل ما يفوتك أو تفوته، فلا تعتز به. وعندما نتأمل الآية في مجموعها نجد أن فيها مفاتيح كل شخصية تريد أن تنحرف عن منهج الله، أنه سبحانه يقول: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالله عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14].
هكذا نرى المفاتيح التي قد تجذب الإنسان لينحرف عن مراد الله في منهجه، أنه سبحانه يطلب من عبده المؤمن أن يبني حركة حياته على مراد الله، فما الذي يجعل المؤمن يترك مراد الله من حكم لينصرف إلى حكم يناقضه؟.
لا شك أنه الهوى، والهوى هو الذي يُميل ويُزيغ القلوب، ولكل هوى مفتاح، ولكل شخصية من المكلفين بمنهج الله مفتاح لهواه، فواحد مفتاحه النساء، وواحد مفتاحه البنون، يحب أن يرعاهم رعاية تفوق دَخْلَه من عمل أو صناعة مثلا فقد يسرق أو يرتشي ليسعد هؤلاء. وأناس مفاتيحهم الشخصية المال، أو في زينة الخيل، والعدة والعتاد فلكل شخصية مفتاح هوى.
والذين يدخلون على الناس ليُزيِّنوا لهم غير منهج الله يأتون لهم بالمفتاح الذي يفتح شخصياتهم، فربما كان هناك إنسأن لا تُغريه نظرة المرأة أو ملايين الذهب إنما يتملكه حبه لأولاده وهو الهوى الغلاب.
إذن فكل واحد له مفتاح لشخصيته، والذين يريدون إغراء الناس وغوايتهم يعرفون مفاتيح من يريدون إغراءه وإغواءه. وحين يقول الحق أنَ هذه الأشياء هي المُزَيِّنة للناس. قد يقول قائل: إذا كان الله يريد أن يصرفنا عن هذه الأشياء فلماذا خلقها لنا؟
وعلى هذا القول نرد: إن الحق مادام قد قال: {زُيِّنَ} وبناها- كما يقول النحاة- للمجهول إي لما لم يُسَمَّ فاعله، فمن الذي زيِّن؟ لقد كان الله قادرا أن يقول لنا من الذي زَيَّن تلك الأشياء تحديدا، لكن الحق يريد أن يعلمنا أنه من الممكن أن يكون الشيطان هو الذي يُزيّن لنا هذه الأشياء، ومن الممكن أن يكون منطق المنهج هو الذي يزين، ألم يقل الحق سبحانه دعاء على لسان عباده الصالحين: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
إذن فما الفيصل في تلك المسألة؟ الفيصل في هذه المسألة أن الحق سبحانه وتعالى جعل لكل نعمة من نعم الحياة عملا يعمله الإنسان فيها، فالمرأة إنما اتَّخَذَت سكنا أي ارتياحا عندها، ارتياحًا يعطيك كل الحنان والعطف، وهو سبحانه القائل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
إن الحق يريد لنا أن يسكن الرجل إلى حلاله، وتصرف المرأة الحلال عَيْنَيْ زوجها عن أعراض الناس. لكن ماذا في الرجل الذي يُحب الأبناء؟ ألم يقل سيدنا زكريا: {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 4- 6].
لقد طلب زكريا عليه السلام وليَّا يرثه، والأنبياء لا تُورث منهم أموال، إنما يُورِّثون العلم والحكمة، إذن فقد طلب زكريا عليه السلام أن يرث ابنه الحكمة منه ويرث من آل يعقوب وأن يجعله الله رضِيَّا. فلو كان الأنبياء يورِّثون المال، لكان البعض قد فهم أن طلب زكريا للإبن كي يرثه في المال، لكن الحق أراد لأنبيائه ألاّ يُورِّثوا المال، بل يورِّثون العلم بمنهج الله. وقد طلب زكريا الابن لتثبيت منهج الله في الأرض.
وكذلك الذي يريد الأموال لينفقها في سبيل الله، وكذلك الذي يريد الخيل ليروضها على الجهاد، وكذلك الذي يريد الحرث ليملأ بطون خلق الله بما يَطعَمُون منه، كل هؤلاء ينالهم المدح والثناء والجزاء الكثير من الله. لذلك يجب أن نعلم أن الحكم يأتي من الله مُحتملا أن تتجه به إلى الخير المراد لله، ومحتملا أن تتجه به إلى الشر المراد لنفسك. وأنت- أيها العبد- حين تنظر إلى أي شهوة من هذه الشهوات فلسوف تجد أنه من الممكن أن توجِّهها وِجهة خير. يقول الحق: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
لقد أراد الله للأتقياء والأنبياء أن يكون لهم من الذرية أبناء ليرثوا المنهج السلوكي ويكونوا مثلا طيبة للناس يقتدون بهم. إذن فالمؤمن يحب أن تكون ذريته قدوة سلوكية. والذي يحب الخيل يمكن أن يوجه هذا الحب إلى الخير، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مِنْ خير معاش الناس لهم رجل ممسك عِنَانَ فرسه في سبيل الله يطير على مَتنه كلما سمع هِيْعَة أو فَزْعةً طار عليه يبتغي القتل والموت مَظَانَّة».
وقد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نُروِّض الخيل، إذن فمن الممكن أن تكون هذه الأشياء مسارًا للخير. وإياكم أن تفهموا أن الله يزهدنا فيها أو ينفرنا منها، ولكنه يزهدنا أن نستعمل ما خلقه لنا في غير مراده.
ولننظر إلى تعليق الله على الأشياء المُزينة: «ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» أي أن الذي ينظر الى هذه الاشياء المزينة نظرة تقليدية سطحية سيجدها مجرد متاع، وما عمر هذا المتاع؟ أنه موقوت بالدنيا الفانية.
ولننظر إلى الإنسان عندما يُصَعِّدُ في عمله قيمة الخير، وتصعيد قيمة الخير يأتي من تنمية نوعه، أي الزيادة في نوع الخير، ومن استدامته، ومن أن الإنسأن لا يترك هذا الخير.
إذن فتصعيد الخير يأتي على عدة صور تبدأ من تنمية الخير نفسه. واستدامة الخير فلا ينقطع، وضمان أن يحيا الإنسان للخير ويعيش له، وألاّ يذهب الخير عنه، وأمر رابع هو ألاّ تربط هذا الخير بأغيار، أي أن تربطه بواحد قوى يأتي لك به، فقد يضعف، أو يمرض، أو يغيب، أو يغدر بك.
إذن فلابد من أربعة عناصر: الاول: تصعيد الخير، أي نوع الخير الذي تفعله يكون أرقى من خير آخر، فنعمل دائما على زيادته وتنميته. والثاني: استدامة الخير. والثالث: أن تدوم أنت للخير، وتحرص على أن تعيش له، والأمر الرابع: ألاّ تربط هذا الخير بالأغيار. بل عليك أن تعتمد على الله ثم على نفسك.
وكل خير يأتي دون هذا فهو خير غير حقيقي. فإذا نظرت إلى شهوات النساء والمال والبنين والخيل والأنعام والحرث فإنها ستعطيك متاع الدنيا. ولنسلم جدلا أن شيئا لن يسلبك هذه الأشياء وأنت حيّ، وأنها ستظل معك طيلة دنياك. فما قيمة الدنيا وهي مقاسة بآلاف السنين، والإنسأن لا يعيش فيها إلا قدرا محددا من الأعوام يقرره الحق سبحانه وتعالى.
إذن فالدنيا تقاس بعمر الإنسان فيها لا بعمر ذات الدنيا لغيره، لأن عمر الدنيا لغيرك لا يخصك. هب أن هذه الشهوات من نساء ومال وبنين وخيل وذهب وفضة وحرث وأنعام وعدة وعتاد قد دامت لك، فما الذي يحدث؟ إن الدنيا محدودة. ولا أحد يستطيع أن يستديم الدنيا، لذلك فلن يستطيع أحد أن يستديم الخير لأن عمره في الدنيا محدود.
وحياة الإنسان في الدنيا لم يضع الله لها حدًا يبلغه الإنسان. إن الله لم يحدد عمرا يموت فيه الإنسان، ولكنْ لكل إنسان عمْر خاصٌّ محدود بحياته، فعندما يولد أي طفل لا تنزل معه بطاقة تحدد عدد السنوات التي سوف يحياها في الدنيا.
وهو سبحانه قد جعل عدد سنوات الحياة مبهما لكل إنسان، ولذلك يقال إن الإبهام هو أعلى درجات البيان، الحق أخفى توقيت الموت وسببه عن الإنسان. متى يأتي؟ في أي زمان وفي أي مكان؟ كل ذلك أخفاه فأصبح على المؤمن أن يكون مترقبا للموت في كل لحظة.
إن الإبهام للموت هو البيان الوافي، وما دامت الدنيا مهما طالت فهي محدودة وغير مضمونة للإنسان أن يحياها، ونعيمه فيها على قدر إمكاناته وقدرته، وإن لم تذهب الدنيا من الإنسان فالإنسان نفسه يذهب منها. فإذا ما قارنت كل ذلك باسم الحياة التي نحياها الآن، إنّ اسمها الدنيا أي السفلى ومقابل الدنيا هو العليا وهي الحياة في الآخرة.
ولماذا هي عليا؟ لأنها ستصعد الخير.
فبعد انقضاء هذه الحياة المحدودة، يذهب المؤمن إلى الجنة وبها حياة غير محدودة، وهذا أول تصعيد. ويضمن المؤمن أن أكلها دائم لا ينقطع. ويضمن المؤمن أنه خالد في الجنة فلا يموت فيها. ويضمن المؤمن قيمة هذه الجنة؛ لأن الخير إنما يأتي على مقدار معرفة الفاعل للخير. ومعرفة الإنسان للخير جزئية محدودة، ومعرفة الله للخير كمال مطلق.
فالمؤمن في الآخرة يتنعم في الخير على مقدار ما علم الله من الخير. إذن فحياتنا هي الدنيا، أي السفلى، وهناك الآخرة العليا. فإذا طلب المنهج منا ألاّ ننخدع بالدنيا، وألاّ ننقاد إلى المتاع فهل هذا لون من تشجيع الحب للنفس أو تشجيع للكراهية للنفس؟
إنه منهج سماوي يقود إلى حب النفس؛ لأنه يريد أن يُصَعِّد الخير لكل مؤمن، لقد بيّن المنهج أن في الدنيا ألوانا من المتع هي كذا وكذا وكذا، والدنيا محدودة ولا تدوم لإنسان، ولا يدوم إنسان لها، وإمكانات الإنسان في النعيم الدنيوي محدودة على قدر الإنسان، أما إمكانات النعيم في الآخرة فهي على قدر قدرة الخالق المربي، فمن المنطقي جدا أن يقول الله لنا: {ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالله عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}. وحسن المآب تعني حسن المرجع.
والحق حينما طلب منك أيها المؤمن أن تغض بصرك عما لا يحل لك، فقد يظن الإنسان السطحي أن في ذلك حجرًا على حرية العين، ولكن هذا الغض للبصر أمر به سبحانه إنما ليملأ العين في الآخرة بما أحل الله، إذن فهذا حب من الله للمخلوق وهذا تصعيد في الخير.
ولنفترض أن معك مبلغا قليلا من المال وقابلت فقيرا مسكينا فآثرت أنت هذا الفقير على نفسك، فأنت تفعل ذلك لتنال في الآخرة ثوابا مضاعفا. إذن فقضية الدين هي أنانية عالية سامية، لا أنانية حمقاء. ويوضح الله بعد ذلك حسن المآب بقوله سبحانه: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذالِكُمْ}. اهـ.

.كلام نفيس يتعلق بالآية لحجة الإسلام الغزالي:

قال رحمه الله ما نصه:
بيان حقيقة الدنيا في نفسها وأشغالها التي استغرقت همم الخلق حتى أنستهم أنفسهم وخالقهم ومصدرهم وموردهم:
اعلم أن الدنيا عبارة عن أعيان موجودة وللإنسان فيها حظ وله في إصلاحها شغل فهذه ثلاثة أمور قد يظن أن الدنيا عبارة عن آحادها وليس كذلك أما الأعيان الموجودة التي الدنيا عبارة عنها فهي الأرض وما عليها قال الله تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا فالأرض فراش للآدميين ومهاد ومسكن ومستقر وما عليها لهم ملبس ومطعم ومشرب ومنكح، ويجمع ما على الأرض ثلاثة أقسام المعادن والنبات والحيوان.
أما النبات فيطلبه الآدمي للاقتيات والتداوي وأما المعادن فيطلبها للآلات والأواني كالنحاس والرصاص وللنقد كالذهب والفضة ولغير ذلك من المقاصد وأما الحيوان فينقسم إلى الإنسان والبهائم.
أما البهائم فيطلب منها لحومها للمآكل وظهورها للمركب والزينة.
وأما الإنسان فقد يطلب الآدمي أن يملك أبدان الناس ليستخدمهم ويستسخرهم كالغلمان أو ليتمتع بهم كالجواري والنسوان ويطلب قلوب الناس ليملكها بأن يغرس فيها التعظيم والإكرام وهو الذي يعبر عنه بالجاه إذ معنى الجاه ملك قلوب الآدميين فهذه هي الأعيان التي يعبر عنها بالدنيا وقد جمعها الله تعالى في قوله زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين وهذا من الإنس والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة وهذا من الجواهر والمعادن وفيه تنبيه على غيرها من اللآليء واليواقيت وغيرها والخيل المسومة والأنعام وهي البهائم والحيوانات والحرث وهو النبات والزرع.
فهذه هي أعيان الدنيا إلا أن لها مع العبد علاقتين علاقة مع القلب وهو حبه لها وحظه منها وانصراف همه إليها حتى يصير قلبه كالعبد أو المحب المستهتر بالدنيا ويدخل في هذه العلاقة جميع صفات القلب المعلقة بالدنيا كالكبر والغل والحسد والرياء والسمعة وسوء الظن والمداهنة وحب الثناء وحب التكاثر والتفاخر وهذه هي الدنيا الباطنة وأما الظاهرة فهي الأعيان التي ذكرناها.
العلاقة الثانية مع البدن وهو اشتغاله بإصلاح هذه الأعيان لتصلح لحظوظه وحظوظ غيره وهي جملة الصناعات والحرف التي الخلق مشغولون بها والخلق إنما نسوا أنفسهم ومآبهم ومنقلبهم بالدنيا لهاتين العلاقتين علاقة القلب بالحب وعلاقة البدن بالشغل ولو عرف نفسه وعرف ربه وعرف حكمة الدنيا وسرها علم أن هذه الأعيان التي سميناها دنيا لم تخلق إلا لعلف الدابة التي يسير بها إلى الله تعالى وأعني بالدابة البدن فإنه لا يبقى إلا بمطعم ومشرب وملبس ومسكن كما لا يبقى الجمل في طريق الحج إلا يعلف وماء وجلال ومثال العبد في الدنيا في نسيانه نفسه ومقصده مثال الحاج الذي يقف في منازل الطريق ولا يزال يعلف الناقة ويتعهدها وينظفها ويكسوها ألوان الثياب ويحمل إليها أنواع الحشيش ويبرد لها الماء بالثلج حتى تفوته القافلة وهو غافل عن الحج وعن مرور القافلة وعن بقائه في البادية فريسة للسباع هو وناقته والحاج البصير لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي فيتعهده وقلبه إلى الكعبة والحج وإنما يلتفت إلى الناقة بقدر الضرورة فكذلك البصير في السفر إلى الآخرة لا يشغل بتعهد البدن إلا بالضرورة كما لا يدخل بيت الماء إلا لضرورة ولا فرق بين إدخال الطعام في البطن وبين إخراجه من البطن في أن كل واحد منهما ضرورة البدن ومن همته ما يدخل بطنه فقيمته ما يخرج منها وأكثر ما شغل عن الله تعالى هو البطن فإن القوت ضروري وأمر المسكن والملبس أهون ولو عرفوا سبب الحاجة إلى هذه الأمور واقتصروا عليه لم تستغرقهم أشغال الدنيا وإنما استغرقتهم لجهلهم بالدنيا وحكمتها وحظوظهم منها ولكنهم جهلوا وغفلوا وتتابعت أشغال الدنيا عليهم واتصل بعضها ببعض وتداعت إلى غير نهاية محدودة فتاهوا في كثرة الأشغال ونسوا مقاصدها.
ونحن نذكر تفاصيل أشغال الدنيا وكيفية حدوث الحاجة إليها وكيفية غلط الناس في مقاصدها حتى تتضح لك أشغال الدنيا كيف صرفت الخلق عن الله تعالى وكيف أنستهم عاقبة أمورهم فنقول الأشغال الدنيوية هي الحرف والصناعات والأعمال التي ترى الخلق منكبين عليها وسبب كثرة الأشغال هو أن الإنسان مضطر إلى ثلاث القوت والمسكن والملبس فالقوت للغذاء والبقاء والملبس لدفع الحر والبرد والمسكن لدفع الحر والبرد ولدفع أسباب الهلاك عن الأهل والمال ولم يخلق الله القوت والمسكن والملبس مصلحا بحيث يستغني عن صنعة الإنسان فيه.
نعم خلق ذلك للبهائم فإن النبات يغذي الحيوان من غير طبخ والحر والبرد لا يؤثر في بدنه فيستغني عن البناء ويقنع بالصحراء ولباسها شعورها وجلودها فتستغني عن اللباس والإنسان ليس كذلك فحدثت الحاجة لذلك إلى خمس صناعات هي أصول الصناعات وأوائل الأشغال الدنيوية وهي الفلاحة والرعاية والاقتناص والحياكة والبناء أما البناء فللمسكن والحياكة وما يكتنفها من أمر الغزل والخياطة فللملبس والفلاحة للمطعم والرعاية للمواشي والخيل أيضا للمطعم والمركب والاقتناص نعني به تحصيل ما خلقه الله من صيد أو معدن أو حشيش أو حطب فالفلاح يحصل النباتات والراعي يحفظ الحيوانات ويستنتجها والمقتنص يحصل ما نبت ونتج بنفسه من غير صنع آدمي وكذلك يأخذ من معادن الأرض ما خلق فيها من غير صنعة آدمي ونعني بالاقتناص ذلك ويدخل تحته صناعات وأشغال عدة ثم هذه الصناعات تفتقر إلى أدوات وآلات كالحياكة والفلاحة والبناء والاقتناص والآلات إنما تؤخذ إما من النبات وهو الأخشاب أو من المعادن كالحديد والرصاص وغيرهما أو من جلود الحيوانات فحدثت الحاجة إلى ثلاث أنواع أخر من الصناعات النجارة والحدادة والخز وهؤلاء هم عمال الآلات ونعني بالنجارة كل عامل في الخشب كيفما كان وبالحداد كل عامل في الحديد وجواهر المعادن حتى النحاس والإبري وغيرهما وغرضنا ذكر الأجناس فأما آحاد الحرف فكثيرة وأما الخراز فنعني به كل عامل في جلود الحيوانات وأجزائها فهذه أمهات الصناعات ثم إن الإنسان خلق بحيث لا يعيش وحده بل يضطر إلى الاجتماع مع غيره من أبناء جنسه وذلك لسببين أحدهما حاجته إلى النسل لبقاء جنس الإنسان ولا يكون ذلك إلا باجتماع الذكر والأنثى وعشرتهما.