فصل: قال ابن كثير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أو نقول: أنه معموله، وعلقت، ولم تدخل اللام في الخبر؛ لأنه منفي، بخلاف ما لو كان مثبتًا فإنك تقول: شهدت إنَّ زيدًا لَمُنْطَلِقٌ، فتعلق بإنَّ مع وجود اللام؛ لأنه لو لم تكن اللام لفتحت إنَّ، فقلت: شهدت أنَّ زَيْدًا منطلقٌ، فمن قرأ بفتح {أنَّه}، فإنه لم يَنْو التعليقَ، ومن كسر فإنه نوى التعليق، ولم تدخل اللام في الخبر؛ لأنه منفي كما ذكرنا.
قال شهاب الدينِ: وكان الشيخ- لما ذكر الفصل والاعتراض بين كلمات هذه الآية- قال ما نصه: وأما قراءة ابن عباس فتخرج على أن {أن الدين عِندَ الله الإسلام} هو معمول {شَهِدَ} ويكون في الكلام اعتراضان:
أحدهما: بين المعطوف عليه والمعطوف وهو {لا إله إلا هو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وإذا أعربنا {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} خبرَ مبتدأ محذوفٍ كان ذلك ثلاثة اعتراضات، انظر هذه التوجيهات البعيدة، التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظيرٍ من كلام العربِ، وإنما حمل على ذلك العُجْمَةُ، وعدمُ الإمعان في تراكيب كلام العربِ، وحِفْظِ أشعارِها.
قال شهاب الدينِ: ونسبة كلامِ أعلام الأئمة إلى العجمة، وعدم معرفتهم بكلام العرب، وحملهم كلام الله على ما لا يجوز، وأن هذا- الذي ذكره- هو تخريج سهل واضح، غير مقبول ولا مُسَلَّم، بل المتبادر إلى الذهن ما نقله الناسُ، وتلك الاعتراضات بين أثناء تلك الآيةِ الكريمةِ موجودٌ نظيرُها في كلامِ العربِ، وكيف يجهل الفارسي والزمخشريُّ والفراءُ وأضرابهم ذلك؟ وكيف يَتَبَجَّجُ باطِّلاعه على ما لم يَطلع عليه مثلُ هؤلاء؟ وكيف يظن بالزمخشري أنه لا يعرفُ مواقعَ النظم، وهو المسلَّم له في علم المعاني والبيان والبديع، ولا يَشُك أحد أنه لابد لمن يتعرض إلى علم التفسير أن يعرفَ جملةً صالحةً من هذه العلوم.
قوله: {عِنْدَ الله} ظرف، العامل فيه لفظ {الدِّين}؛ ملا تضمنه من معنى الفعل.
قال أبو البقاء: ولا يكون حالًا؛ لأن إنَّ لا تعمل في الحال.
قال شهاب الدين: قد جوز في ليت وفي كأن أن تعمل في الحال.
قالوا: لما تضمنته هذه الأحرف من معنى التمني والتشبيه، فإن للتأكيد، فلْتَعْمَل في الحال- أيضا- فليست تتباعد عن الهاء التي للتنبيه.
قيل: هي أولى منها، وذلك أنها عاملة، وهاء ليست بعاملة، فهي أقرب لشبه الفعل من هاء. اهـ.

.قال ابن كثير:

قوله: {أن الدين عِنْدَ الله الإسلام} إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لقي الله بعد بعثته محمدًا صلى الله عليه وسلم بدِين على غير شريعته، فليس بمتقبل. كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] وقال في هذه الآية مخبرًا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام: {أن الدين عِنْدَ الله الإسلام}.
وذكر ابن جرير أن ابن عباس قرأ: {شَهِدَ الله أنه لا إله إلا هو وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إله إلا هو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أن الدين عِنْدَ الله الإسلام} بكسر أنه وفتح {أن الدين عِنْدَ الله الإسلام} أي: شهد هو وملائكته وأولو العلم من البشر بأن الدين عند الله الإسلام. والجمهور قرأوها بالكسر على الخبر، وكلا المعنيين صحيح. ولكن هذا على قول الجمهور أظهر والله أعلم. اهـ.

.قال الفخر:

أصل الدين في اللغة الجزاء، ثم الطاعة تسمى دينًا لأنها سبب الجزاء، وأما الإسلام ففي معناه في أصل اللغة أوجه الأول: أنه عبارة عن الدخول في الإسلام أي في الانقياد والمتابعة، قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام} [النساء: 94] أي لمن صار منقادًا لكم ومتابعًا لكم والثاني: من أسلم أي دخل في السلم، كقولهم: أسنى وأقحط وأصل السلم السلامة الثالث: قال ابن الأنباري: المسلم معناه المخلص لله عبادته من قولهم: سلم الشيء لفلان، أي خلص له فالإسلام معناه إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى، هذا ما يتعلق بتفسير لفظ الإسلام في أصل اللغة، أما في عرف الشرع فالإسلام هو الإيمان، والدليل عليه وجهان الأول: هذه الآية فإن قوله: {أن الدين عِندَ الله الإسلام} يقتضي أن يكون الدين المقبول عند الله ليس إلا الإسلام، فلو كان الإيمان غير الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان دينًا مقبولًا عند الله، ولا شك في أنه باطل الثاني: قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] فلو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان دينًا مقبولًا عند الله تعالى.
فإن قيل: قوله تعالى: {قَالَتِ الأعراب ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] هذا صريح في أن الإسلام مغاير للإيمان.
قلنا: الإسلام عبارة عن الانقياد في أصل اللغة على ما بينا، والمنافقون انقادوا في الظاهر من خوف السيف، فلا جرم كان الإسلام حاصلًا في حكم الظاهر، والإيمان كان أيضا حاصلًا في حكم الظاهر، لأنه تعالى قال: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] والإيمان الذي يمكن إدارة الحكم عليه هو الإقرار الظاهر، فعلى هذا الإسلام والإيمان تارة يعتبران في الظاهر، وتارة في الحقيقة، والمنافق حصل له الإسلام الظاهر، ولم يحصل له الإسلام الباطن، لأن باطنه غير منقاد لدين الله، فكان تقدير الآية: لم تسلموا في القلب والباطن، ولكن قولوا: أسلمنا في الظاهر، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والدين: حقيقته في الأصل الجزاء، ثم صار حقيقة عرفية يطلق على: مجموع عقائد وأعمال يلقنها رسول من عند الله ويعد العاملين بها بالنعيم والمعرضين عنها بالعقاب. ثم أطلق على ما يشبه ذلك مما يضعه بعض زعماء الناس من تلقاء عقله فتلتزمه طائفة من الناس. وسمي الدين دينا لأنه يترقب منه متبعه الجزاء عاجلا أو آجلا، فما من أهل دين إلا وهم يترقبون جزاء من رب ذلك الدين، فالمشركون يطمعون في إعانة الآلهة ووساطتهم ورضاههم عنهم، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وقال أبو سفيان يوم أحد: أعل هبل. وقال يوم فتح مكة لما قال له العباس: أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله: لقد علمت أن لو كان معه إله غيره لقد أغنى عني شيئا. وأهل الأديان الإلهية يترقبون الجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة، فأول دين إلهي كان حقا وبه كان اهتداء الإنسان، ثم طرأت الأديان المكذوبة، وتشبهت بالأديان الصحيحة، قال الله تعالى تعليما لرسوله {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] وقال: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76].
وقد عرف العلماء الدين الصحيح بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير باطنا وظاهرا.
والإسلام علم بالغلبة على مجموع الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، كما أطلق على ذلك الإيمان أيضا، ولذلك لقب أتباع هذا الدين بالمسلمين وبالمؤمنين، وهو الإطلاق المراد به هنا، وهو تسمية بمصدر أسلم إذا أذعن ولم يعاند إذعانان عن اعتراف بحق لا عن عجز، وهذا اللقب أولى بالإطلاق على هذا الدين من لقب الإيمان؛ لأن الإسلام هو المظهر البين لمتابعة الرسول فيما جاء به من الحق، واطراح كل حائل يحول دون ذلك، بخلاف الإيمان فإنه اعتقاد قلبي، ولذلك قال الله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] وقال: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20] ولأن الإسلام لا يكون إلا عن اعتقاد لأن الفعل أثر الإدراك، بخلاف العكس فقد يكون الاعتقاد مع المكابرة.
وربما أطلق الإسلام على خصوص الأعمال؛ والإيمان على الاعتقاد، وهو إطلاق مناسب لحالتي التفكيك بين الأمرين في الواقع، كما في قوله تعالى، خطابا لقوم أسلموا مترددين {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، أو التفكيك في تصوير الماهية عند التعليم لحقائق المعاني الشرعية أو اللغوية كما وقع في حديث جبريل: من ذكر معنى الإيمان، والإسلام، والإحسان.
والتعريف في الدين تعريف الجنس، إذ لا يستقيم معنى العهد الخارجي هنا وتعريف الإسلام تعريف العلم بالغلبة: لأن الإسلام صار علما بالغلبة على الدين المحمدي.
فقوله: {أن الدين عِنْدَ الله الإسلام} صيغة حصر، وهي تقتضي في اللسان حصر المسند إليه، وهو الدين، في المسند، وهو الإسلام، على قاعدة الحصر بتعريف جزئي الجملة، أي لا دين إلا الإسلام، وقد أكد هذا الانحصار بحرف التوكيد.
وقوله: {عِنْدَ الله الإسلام} وصف للدين، والعندية عندية الاعتبار والاعتناء وليست عندية علم: فأفاد، أن الدين الصحيح هو الإسلام، فيكون قصرا للمسند إليه باعتبار قيد فيه، لا في جميع اعتباراته: نظير قول الخنساء:
إذا قبح البكاء على قتيل ** رأيت بكاءك الحسن الجميلا

فحصرت الحسن في بكائه قاعدة أن المقصور هو الحسن لأنه هو المعرف باللام، وهذا الحصر باعتبار التقييد بوقت قبح البكاء على القتلى وهو قصر حسن بكائها على ذلك الوقت، ليكون لبكائها على صخر مزية زائدة على بكاء القتلى المتعارف وإن أبى اعتبار القصر في البيت أصلا صاحب المطول.
وإذ قد جاءت أديان صحيحة أمر الله بها فالحصر مؤول: إما باعتبار أن الدين الصحيح عند الله، حين الأخبار، وهو الإسلام، لأن الخبر ينظر إلى وقت الأخبار؛ إذ الأخبار كلها حقائق في الحال، ولا شك أن وقت الأخبار ليس فيه دين صحيح غير الإسلام؛ إذ قد عرض لبقية الأديان الإلهية، من خلط الفاسد بالصحيح، ما اختل لأجله مجموع الدين، وإما باعتبار الكمال عند الله فيكون القصر باعتبار سائر الأزمان والعصور؛ إذ لا أكمل من هذا الدين، وما تقدمه من الأديان لم يكن بالغا غاية المراد من البشر في صلاح شؤونهم، وهذا المعنى أولى محملي الآية، لأن مفاده أعم، وتعبيره عن حاصل صفة دين الإسلام تجاه بقية الأديان الإلهية أتم.
ذلك أن مراد الله تعالى من توجيه الشرائع وإرسال الرسل، ليس مجرد قرع الأسماع بعبارات التشريع أو التذوق لدقائق تراكيبه، بل مراد الله تعالى مما شرع للناس هو عملهم بتعاليم رسله وكتبه، ولما كان المراد من ذلك هو العمل، فجعل الله الشرائع مناسبة لقابيليات المخاطبين بها، وجارية على قدر قبول عقولهم ومقدرتهم، ليتمكنوا من العمل بها بدوام وانتظام، فلذلك كان المقصود من التدين أن يكون ذلك التعليم الديني دأبا وعادة لمنتحليه، وحيث النفوس لا تستطيع الانصياع إلى ما لا يتفق مع مدركاتها، لا جرم تعين مراعاة حال المخاطبين في سائر الأديان، ليمكن للأمم العمل بتعاليم شرائعها بانتظام ومواظبة.
وقد كانت أحوال الجماعات البشرية، في أول عهود الحضارة، حالات عكوف على عوائد وتقاليد بسيطة، ائتلفت رويدا على حسب دواعي الحاجات، وما تلك الدواعي، التي تسببت في ائتلاف تلك العوائد، إلا دواع غير منتشرة؛ لأنها تنحصر فيما يعود على الفرد بحفظ حياته، ودفع الآلام عنه، ثم بحفظ حياة من يرى له مزيد اتصال به، وتحسين حاله، فبذلك ائتلف نظام الفرد، ثم نظام العائلة، ثم نظام العشيرة، وهاته النظم المتقابسة هي نظم متساوية الأشكال؛ إذ كلها لا يعدو حفظ الحياة، بالغذاء والدفاع عن النفس، ودفع الآلام بالكساء والمسكن والزواج، والانتصار للعائلة وللقبيلة؛ لأن بها الاعتزاز، ثم ما نشأ عن ذلك من تعاون الآحاد على ذلك، بإعداد المعدات: وهو التعاوض والتعامل، فلم تكن فكرة الناس تعدو هذه الحالة، وبذلك لم يكن لأحد الجماعات شعور بما يجري لدى جماعة أخرى، فضلا عن التفكير في اقتباس إحداهما مما يجري لدى غيرها، وتلك حالة قناعة العيش، وقصور الهمة وانعدام الدواعي فإذا حصلت الأسباب الآنفة عد الناس أنفسهم في منتهى السعادة.
وكان التباعد بين الجماعات في المواطن مع مشقة التواصل، وما يعرض في ذلك من الأخطار والمتاعب، حائلا عن أن يصادفهم ما يوجب اقتباس الأمم بعضها عن بعض وشعور بعضها بأخلاق بعض، فصار الصارف عن التعاون في الحضارة الفكرية مجموع حائلين: عدم الداعي، وانسداد وسائل الصدفة، اللهم إلا ما يعرض من وفادة وافد، أو اختلاط في نجعة أو موسم، على أن ذلك إن حصل فسرعان ما يطرأ عليه النسيان، فيصبح في خبر كان.
فكيف يرجى من أقوام، هذه حالهم، أن يدعوهم الداعي إلى صلاح في أوسع من دوائر مدركاتهم، ومتقارب تصور عقولهم، أليسوا إذا جاءهم مصلح كذلك لبسوا له جلد النمر، فأحسن من سوء الطاعة حرق الجمر، لذلك لم تتعلق حكمة الله تعالى، في قديم العصور، بتشريع شريعة جامعة صالحة لجميع البشر، بل كانت الشرائع تأتي إلى أقوام معينين؛ وفي حديث مسلم، في صفة عرض الأمم للحساب أن رسول الله قال: «فيجيء النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد» وفي رواية البخاري: «فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط» الحديث. وبقي الحق في خلال ذلك مشاعا بين الأمم، ففي كل أمة تجد سدادا وأفنا، وبعض الحق لم يزل مخبوءا لم يسفر عنه البيان.
ثم أخذ البشر يتعارفون بسبب الفتوح والهجرة، وتقاتلت الأمم المتقاربة المنازل، فحصل للأمم حظ من الحضارة، وتقاربت العوائد، وتوسعت معلوماتهم، وحضارتهم، فكانت من الشرائع الإلهية: شريعة إبراهيم عليه السلام، ومن غيرها شريعة حمورابي في العراق، وشريعة البراهمة، وشريعة المصريين، التي ذكرها الله تعالى في قوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76].
ثم أعقبتها شريعة إلهية كبرى وهي شريعة موسى عليه السلام التي اختلط أهلها بأمم كثيرة في مسيرهم في التيه وما بعده، وجاورتها أو أعقبتها شرائع مثل شريعة زرادشت في الفرس، وشريعة كنفشيوس في الصين، وشريعة سولون في اليونان.
وفي هذه العصور كلها لم تكن إحدى الشرائع عامة الدعوة، وهذه أكبر الشرائع وهي الموسوية لم تدع غير بني إسرائيل ولم تدع الأمم الأخرى التي مرت عليها، وامتزجت بها، وصاهرتها، وكذلك جاءت المسيحية مقصورة على دعوة بني إسرائيل حتى دعا الناس إليها القديس بولس بعد المسيح بنحو ثلاثين سنة.
إلى أن كان في القرن الرابع بعد المسيح حصول تقابس وتمازج بين أصناف البشر في الأخلاق والعائد، بسببين: اضطراري، واختياري. أما الاضطراري فذلك أنه قد ترامت الأمم بعضها على بعض، واتجه أهل الشرق إلى الغرب، وأهل الغرب إلى الشرق، بالفتوح العظيمة الواقعة بين الفرس والروم، وهما يومئذ قطبا العالم، بما يتبع كل واحدة من أمم تنتمي إلى سلطانها، فكانت الحرب سجالا بين الفريقين، وتوالت أزمانا طويلة.
وأما الاختياري فهو ما أبقاه ذلك التمازج من مشاهدة أخلاق وعوائد، حسنت في أعين رائيها، فاقتبسوها، وأشياء قبحت في أعينهم، فحذروها، وفي كلتا الحالتين نشأت يقظة جديدة، وتأسست مدنيات متفننة، وتهيأت الأفكار إلى قبول التغييرات القوية، فتهيأت جميع الأمم إلى قبول التعاليم الغريبة عن عوائدها وأحوالها، وتساوت الأمم وتقاربت في هذا المقدار، وإن تفاوتت في الحضارة والعلوم تفاوتا ربما كان منه ما زاد بعضها تهيئوا لقبول التعاليم الصحيحة، وقهقر بعضا عن ذلك بما داخلها من الإعجاب بمبلغ علمها، أو العكوف والإلف على حضارتها.