فصل: قال ابن كثير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن كثير:

وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته، صَلوات الله وسلامه عليه، إلى جميع الخلق، كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث، فمن ذلك قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] وفي الصحيحين وغيرهما، مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة، أنه بعث كتبه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله ملوك الآفاق، وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم، كتابِيِّهم وأمِّيِّهم، امتثالا لأمر الله له بذلك. وقد روى عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن هَمَّام، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ يَهُوديّ وَلا نَصْرَانِي، ومَاتَ وَلمَ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أرْسلتُ بِهِ، إلا كان مِنْ أَهْلِ النَّارِ» رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ إلَى الأحْمَرِ والأسْودِ».
وقال: «كَانَ النَّبيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِه خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً».
وقال الإمام أحمد: حدثنا مُؤَمِّل، حدثنا حَمَّاد، حدثنا ثابت عن أنس، رضي الله عنه: أن غلاما يهوديا كان يَضع للنبي صلى الله عليه وسلم وَضُوءه ويناوله نعليه، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا فُلانُ، قُلْ: لا إله إلا الله» فَنَظَرَ إلَى أبيه، فَسَكَتَ أبوه، فأعَادَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ إلَى أَبيهِ، فَقَالَ أبُوهُ: أطِعْ أبا الْقَاسِم، فَقَالَ الْغُلامُ: أشْهَدُ أن لا إله إلا الله وأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، فَخَرَجَ النَّبَيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أخْرَجَهُ بِي مِنِ النَّارِ» أخرجه البخاري في الصحيح. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث. اهـ.

.قال ابن عجيبة:

لا يليق بالفقير، إذا توجه إليه الإنكار أو المجادلة والاستظهار، إلا السكوت والإقرار، والاستسلام بكليته لأحكام الواحد القهار، إذ لا يرى فاعلًا إلا الله، فلا يركن إلى شيء سواه.
وفي الحكم: إنما أجرَى الأذى عليهم لئلا تكون ساكنًا إليهم، أراد أن يزعجك عن كل شيء، حتى لا تكون ساكنًا إلى شيء. وقال بعض العارفين: لا تشتغل قط بمن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك، وقد غلط في هذا خلق كثير، اشتغلوا بمن يؤذيهم، فطال عليهم الأذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى مولاهم لكفاهم أمرهم. اهـ. بالمعنى. وبهذا يأمر الشيخ أتباعه، فإن انقادوا لأحكام الحق، فقد اهتدوا إلى طريق الوصول، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ، والهداية بيد السميع البصير. اهـ.

.قال ابن عاشور:

اعلم أن قوله: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} كلمة جامعة لمعاني كنه الإسلام وأصوله ألقيت إلى الناس ليتدبروا مطاويها فيهتدي الضالون، ويزداد المسلمون يقينا بدينهم؛ إذ قد علمنا أن مجيء قوله: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} عقب قوله: {أن الدين عِنْدَ الله الإسلام} وقوله: {فَإِنْ حَاجُّوكَ} وتعقيبه بقوله: {أَأَسْلَمْتُمْ} أن المقصود منه بيان جامع معاني الإسلام حتى تسهل المجادلة، وتختصر المقاولة، ويسهل عرض المتشككين أنفسهم على هذه الحقيقة، ليعلموا ما هم عليه من الديانة. بينت هذه الكلمة أن هذا الدين يترجم عن حقيقة اسمه؛ فإن اسمه الإسلام، وهو مفيد معنى معروفا في لغتهم يرجع إلى الإلقاء والتسليم، وقد حذف مفعوله ونزل الفعل منزلة اللازم فعلم أن المفعول حذف لدلالة معنى الفاعل عليه، فكأنه يقول: أسلمتني أي أسلمت نفسي، فبين هنا هذا المفعول المحذوف من اسم الإسلام لئلا يقع فيه التباس أو تأويل لما لا يطابق المراد، فعبر عنه بقوله وجهي أي نفسي: لظهور ألا يحسن محمل الوجه هنا على الجزء المعروف من الجسد، ولا يفيد حمله عليه ما هو المقصود، بل المعنى البين هو أن يراد بالوجه كامل الذات، كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88].
وإسلام النفس لله معناه إسلامها لأجله وصيرورتها ملكا له، بحيث يكون جميع أعمال النفس في مرضاة الله، وتحت هذا معان جمة هي جماع الإسلام: نحصرها في عشرة:
المعنى الأول: تمام العبودية لله تعالى، وذلك بألا يعبد غير الله، وهذا إبطال للشرك لأن المشرك بالله غير الله لم يسلم نفسه بل أسلم بعضها.
المعنى الثاني: إخلاص العمل لله تعالى فلا يلحظ في عمله غير الله تعالى، فلا يرائي ولا يصانع فيما لا يرضي الله ولا يقدم مرضاة غير الله تعالى على مرضاة الله.
الثالث: إخلاص القول لله تعالى فلا يقول مالا يرضى به الله، ولا يصدر عنه قول إلا فيما أذن الله فيه أن يقال، وفي هذا المعنى تجيء الصراحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على حسب المقدرة والعلم، والتصدي للحجة لتأييد مراد الله تعالى، وهي صفة امتاز بها الإسلام، ويندفع بهذا المعنى النفاق، والملق، قال تعالى في ذكر رسوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [يس: 86].
الرابع: أن يكون ساعيا لتعرف مراد الله تعالى من الناس، ليجري أعماله على وفقه، وذلك بالإصغاء إلى دعوة الرسل المخبرين بأنهم مرسلون من الله، وتلقيها بالتأمل في وجود صدقها، والتمييز بينها وبين الدعاوى الباطلة، بدون تحفز للتكذيب، ولا مكابرة في تلقي الدعوة، ولا إعراض عنها بداعي الهوى وهو الإفحام، بحيث يكون علمه بمراد الله من الخلق هو ضالته المنشودة.
الخامس: امتثال ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه، على لسان الرسل الصادقين، والمحافظة على اتباع ذلك بدون تغيير ولا تحريف، وأن يذود عنه من يريد تغييره.
السادس: ألا يجعل لنفسه حكما مع الله فيما حكم به، فلا يتصدى للتحكم في قبول بعض ما أمر الله به ونبذ البعض. كما حكي الله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور: 48- 49] وقد وصف الله المسلمين بقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أن يكون لَهُمُ الخيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، فقد أعرض الكفار عن الإيمان بالبعث؛ لأنهم لم يشاهدوا ميتا بعث.
السابع: أن يكون متطلبا لمراد الله مما أشكل عليه فيه، واحتاج إلى جريه فيه على مراد الله: يتطلبه من إلحاقه بنظائره التامة التنظير بما علم أنه مراد الله، كما قال الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ولهذا أدخل علماء الإسلام حكم التفقه في الدين والاجتهاد، تحت التقوى المأمور بها في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
الثامن: الإعراض عن الهوى المذموم في الدين، وعن القول فيه بغير سلطان {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ الله} [القصص: 50].
التاسع: أن تكون معاملة أفراد الأمة بعضها بعضا، وجماعاتها، ومعاملتها الأمم كذلك، جارية على مراد الله تعالى من تلك المعاملات.
العاشر: التصديق بما غيب عنا، مما أنبأنا الله به: من صفاته، ومن القضاء والقدر: وأن الله هو المتصرف المطلق. اهـ.
وقال ابن عاشور في قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} ما نصه:
وقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} إبطال لكونهم حاصلين على هذا المعنى، فأما المشركون فبعدهم عنه أشد البعد ظاهر، وأما النصارى فقد ألهوا عيسى، وجعلوا مريم صاحبة لله تعالى فهذا أصل لبطلان أن يكونوا أسلموا وجوههم لله؛ لأنهم عبدوا مع الله غيره، وصانعوا الأمم الحاكمة والملوك، فأسسوا الدين على حسب ما يلذ لهم ويكسبهم الحظوة عندهم.
وأما اليهود فإنهم وإن لم يشركوا بالله قد نقضوا أصول التقوى، فسفهوا الأنبياء وقتلوا بعضهم، واستهزءوا بدعوة الخير إلى الله، وغيروا الأحكام اتباعا للهوى، وكذبوا الرسل، وقتلوا الأحبار، فأنى يكون هؤلاء قد أسلموا لله، وأكبر مبطل لذلك هو تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم دون النظر في دلائل صدقه.
ثم إن قوله: {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} معناه: فإن التزموا النزول إلى التحقق بمعنى أسلمت وجهي لله فقد اهتدوا، ولم يبق إلا أن يتبعوك لتلقي ما تبلغهم عن الله؛ لأن ذلك أول معاني إسلام الوجه لله، وإن تولوا وأعرضوا عن قولك لهم: أأسلمتم فليس عليك من إعراضهم تبعة، فإنما عليك البلاغ. اهـ.

.قال السعدي:

أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عند محاجة النصارى وغيرهم ممن يفضل غير دين الإسلام عليه أن يقول لهم: قد {أسلمت وجهي لله ومن اتبعن} أي: أنا ومن اتبعني قد أقررنا وشهدنا وأسلمنا وجوهنا لربنا، وتركنا ما سوى دين الإسلام، وجزمنا ببطلانه، ففي هذا تأييس لمن طمع فيكم، وتجديد لدينكم عند ورود الشبهات، وحجة على من اشتبه عليه الأمر، لأنه قد تقدم أن الله استشهد على توحيده بأهل العلم من عباده ليكونوا حجة على غيرهم، وسيد أهل العلم وأفضلهم وأعلمهم هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم من بعده أتباعه على اختلاف مراتبهم وتفاوت درجاتهم، فلهم من العلم الصحيح والعقل الرجيح ما ليس لأحد من الخلق ما يساويهم أو يقاربهم، فإذا ثبت وتقرر توحيد الله ودينه بأدلته الظاهرة، وقام به أكمل الخلق وأعلمهم، حصل بذلك اليقين وانتفى كل شك وريب وقادح، وعرف أن ما سواه من الأديان باطلة، فلهذا قال: {وقل للذين أوتوا الكتاب} من النصارى واليهود {والأميين} مشركي العرب وغيرهم {أأسلمتم فإن أسلموا} أي: بمثل ما أمنتم به {فقد اهتدوا} كما اهتديتم وصاروا إخوانكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم {وإن تولوا} عن الإسلام ورضوا بالأديان التي تخالفه {فإنما عليك البلاغ} فقد وجب أجرك على ربك، وقامت عليهم الحجة، ولم يبق بعد هذا إلا مجازاتهم بالعقاب على جرمهم، فلهذا قال: {والله بصير بالعباد}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري:

طالِعْهُم بعين التصريف كيلا يفترق بك الحال في شهود اختلافهم وتباين أطوارهم؛ فإنَّ مَنْ طالَعَ الكائناتِ بعين القدرة علم أن المُثْبِتَ للكلِّ- على ما اختص به كل واحد من الكل- واحدٌ.
فادْعُهم جهرًا بجهر، واشهد تصريفنا إياهم سِرًّا بسر، واشغل لسانك بنصحهم، وفرِّغ قلبك عن حديثهم، وأفرد سِرَّك عن شهودهم، فليس الذي كلفناك من أمورهم إلا البلاغ، والمُجرِي للأمور والمبدي- نحن. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار:

قال رحمه الله:
{شَهِدَ اللهُ أنه لا إله إلا هو}.
قَرَأَ نَافِعٌ وَالْبَصْرِيُّ {اتَّبَعَنِي} بِالْيَاءِ فِي الْوَصْلِ خَاصَّةً، وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا وَصْلًا وَوَفْقًا. بَعْدَ مَا بَيَّنَ تعالى جَزَاءَ الْمُتَّقِينَ وَبَيَّنَ حَالَهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ وَمَدَحَ أَصْنَافَهُمُ الْكَامِلِينَ فِي أَوْصَافِهِمْ بَيَّنَ أَصْلَ الإيمان وَأَسَاسَهُ فَقَالَ: شَهِدَ اللهُ أنه لا إله إلا هو وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ شَهَادَةَ اللهِ هُنَا مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ؛ لِأَنَّ مَا نَصَبَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ فِي الْآفَاقِ وَفِي الْأَنْفُسِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَمَا أَوْحَاهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ فِي ذَلِكَ يُشْبِهُ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ بِالشَّيْءِ فِي إِظْهَارِهِ وَإِثْبَاتِهِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إِقْرَارِهِمْ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ. زَادَ أَبُو السُّعُودِ: وَإِيمَانُهُمْ بِهِ، وَجَعْلُهَا مِنْ بَابِ عُمُومِ الْمَجَازِ، وَشَهَادَةُ أُولِي الْعِلْمِ عِبَارَةٌ عَنْ إِيمَانِهِمْ بِهِ وَاحْتِيَاجِهِمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ كُلٍّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، لِأَنَّهَا إِمَّا عِبَارَةٌ عَنِ الأخبار الْمَقْرُونِ بِالْعِلْمِ وَإِمَّا عِبَارَةٌ عَنِ الْإِظْهَارِ وَالْبَيَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَاصِلٌ مِنَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ، فَاللهُ تعالى أَخْبَرَ بِتَوْحِيدِهِ مَلَائِكَتَهُ وَرُسُلَهُ عَنْ عِلْمٍ، وَبَيَّنَهُ لَهُمْ أَتَمَّ الْبَيَانِ، وَالْمَلَائِكَةُ أَخْبَرُوا الرُّسُلَ وَبَيَّنُوا لَهُمْ، وَأُولُو الْعِلْمِ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ وَبَيَّنُوهُ عَالِمِينَ بِهِ لَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ. وَأَقُولُ: إِنَّ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ ضَعِيفٌ وَأَقْرَبُ التَّفْسِيرَيْنِ لِلشَّهَادَةِ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ أَوَّلُهُمَا، يُقَالُ: شَهِدَ الشَّيْءَ إِذَا حَضَرَهُ وَشَاهَدَهُ كَقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} [2: 185] وَقوله: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} [27: 49] وَيُقَالُ شَهِدَ بِهِ إِذَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ بِالْبَصَرِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَالْأَصْلُ، أَوْ عَنْ مُشَاهَدَةٍ بِالْبَصِيرَةِ وَهِيَ الِاعْتِقَادُ وَالْعِلْمُ، كَقوله تعالى حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [12:81] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا أَبَاهُمْ يَعْقُوبَ بِأَنَّ ابْنَهُ (شَقِيقَ يُوسُفَ) سَرَقَ عَنِ اعْتِقَادٍ لَا عَنْ مُشَاهَدَةٍ بِالْبَصَرِ، وَإِنَّمَا سَمُّوا اعْتِقَادَهُمْ عِلْمًا لِأَنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ فِي بَالِهِمْ مَا يُعَارِضُ مَا رَأَوْهُ مِنْ إِخْرَاجِ صُوَاعِ الْمَلِكِ مِنْ رَحْلِ شَقِيقِ يُوسُفَ بَعْدَ مَا نُودِيَ فِيهِمْ بِأَنَّ الصُّوَاعَ قَدْ سُرِقَ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالشَّيْءِ هِيَ الأخبار بِهِ عَنْ عِلْمٍ بِالْمُشَاهَدَةِ الْحِسِّيَّةِ أَوِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَهِيَ الْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ هُنَا. وَلَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ هُنَا أنه إِثْبَاتٌ لِلتَّوْحِيدِ بِالنَّقْلِ وَهُوَ فَرْعٌ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ تَوْحِيدُ اللهِ لَا يَثْبُتِ الْوَحْيُ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ شَهَادَةَ اللهِ فِي كِتَابِهِ مُؤَيَّدَةٌ بِالْبَرَاهِينِ الَّتِي قَرَنَهَا بِهَا وَبِالْآيَاتِ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ، وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ لِلْأَنْبِيَاءِ مَقْرُونَةٌ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ هُوَ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ أَقْوَى مِنْ جَمِيعِ الْيَقِينِيَّاتِ الْبَدِيهِيَّةِ، وَبِتِلْكَ الدَّلَائِلِ الَّتِي أُمِرُوا بِأَنْ يَحْتَجُّوا بِهَا عَلَى النَّاسِ، وَشَهَادَةُ أُولِي الْعِلْمِ تُقْرَنُ عَادَةً بِالدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ بِالشَّيْءِ لَا تَعُوزُهُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ. عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي وَحْدَانِيَّةِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَالْمُشْرِكُ بِهَا لَا يَكُونُ مُعَطَّلًا حَتَّى يُقَالَ لابد مِنْ إِقْنَاعِهِ بِوُجُودِ اللهِ إِقْنَاعُهُ بِشَهَادَتِهِ، بَلْ يَكُونُ مُقِرًّا بِوُجُودِ اللهِ، وَإِنَّمَا شِرْكُهُ بِاتِّخَاذِ الْوُسَطَاءِ يَكُونُونَ بِزَعْمِهِ وَسَائِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ يُقَرِّبُونَهُ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَبِالشُّفَعَاءِ يَكُونُونَ فِي وَهْمِهِ سَبَبًا لِقَضَاءِ حَاجَاتِهِ وَتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا كَانَتْ تَدِينُ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أُولِي الْعِلْمِ، فَقَالَ: هُمُ الصَّحَابَةُ وَقِيلَ: عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَالرَّازِيُّ إِلَى أَنَّهُمْ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ. وَهَذَا مِنْ عَجِيبِ الْخِلَافِ، فَإِنَّ أُولِي الْعِلْمِ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تَعْرِيفٍ وَلَا تَفْسِيرٍ، فَهُمْ أَصْحَابُ الْعِلْمِ الْبُرْهَانِيِّ الْقَادِرُونَ عَلَى الْإِقْنَاعِ، وَهُمْ مَعْرُوفُونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ.
أَمَّا قوله تعالى: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} فَمَعْنَاهُ: أنه تعالى شَهِدَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، وَفِي الْكَوْنِ وَالطَّبِيعَةِ. فَمِنَ الْأَوَّلِ: تَقْرِيرُ الْعَدْلِ فِي الِاعْتِقَادِ، كَالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ وَسَطٌ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالشِّرْكِ، وَمِنَ الثَّانِي: جَعْلُ سُنَنِ الْخَلِيقَةِ فِي الْأَكْوَانِ وَالْإِنْسَانِ الدَّالَّةِ عَلَى حَقِّيَةِ الِاعْتِقَادِ قَائِمَةً عَلَى أَسَاسِ الْعَدْلِ، فَمَنْ نَظَرَ فِي هَذِهِ السُّنَنِ وَنِظَامِهَا الدَّقِيقِ يَتَجَلَّى لَهُ عَدْلُ اللهِ الْعَامِّ، فَالْقِيَامُ بِالْقِسْطِ عَلَى هَذَا مِنْ قَبِيلِ التَّنْبِيهِ إِلَى الْبُرْهَانِ عَلَى صِدْقِ شَهَادَتِهِ تعالى فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ؛ لِأَنَّ وَحْدَةَ النِّظَامِ فِي هَذَا الْعَدْلِ تَدُلُّ عَلَى وَحْدَةِ وَاضِعِهِ، وَهَذَا مِمَّا يُفَنِّدُ تَفْسِيرَ بَعْضِهِمْ لِلشَّهَادَةِ بأنها عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ، كَذَلِكَ كَانَتْ أحكامه تعالى فِي الْعِبَادَاتِ وَالْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ مَبْيِنَّةً عَلَى أَسَاسِ الْعَدْلِ بَيْنَ الْقُوَى الرُّوحِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ وَبَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، فَقَدْ أَمَرَ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ لِتَرْقِيَةِ الرُّوحِ وَتَزْكِيَتِهِ، وَأَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةَ لِحِفْظِ الْبَدَنِ وَتَرْبِيَتِهِ، وَنَهَى عَنِ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَالْإِسْرَافِ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ عَيْنُ الْعَدْلِ، فَهَذَا هُوَ الْقِسْطُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَأَمَّا الْقِسْطُ فِي الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْقُرْآنِ كَصَرَاحَةِ الأمر بِالْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ. قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [16: 90] وَقَالَ: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [4: 58].