فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: المراد النصارى واختلافهم في أمر عيسى عليه السلام بعد ما جاءهم العلم أنه عبد الله ورسوله. وقيل: المراد اليهود والنصارى واختلافهم هو أنه قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله. وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: نحن أحق بالنبوة من قريش لأنهم أميون ونحن أهل كتاب.
{إلا من بعد ما جاءهم العلم} أي الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم. لأنا لو حملناه على العلم لزم نسبة العناد إلى جمع عظيم وهو بعيد قاله في التفسير الكبير.
{ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب} لا يصعب عليه عدة أفعاله ومعاصيه وإن كانت كثيرة، أو المراد أنه سيصل إلى الله سريعًا فيحاسبه أي يجازيه على كفره. ثم بين للرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في محاجتهم فقال: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله} قال الفراء: أي أخلصت عملي لله. فعلى هذا الوجه في معنى العمل. وقيل: أي أسلمت وجه عملي لله. فحذف المضاف والمعنى كل ما يصدر مني من الأعمال. فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله والانقياد لإلهيته وحكمه. وقيل: الوجه مقحم، والتقدير: أسلمت نفسي لله، وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس كأنه موقوف على عبادته معرض عن كل ما سواه، وقوله: {ومن اتبعن} معطوف على الضمير المرفوع في {أسلمت} وحسن للفصل. أو مفعول معه والواو بمعنى مع. ثم في كيفية إيراد هذا الكلام طريقان: أحدهما أن هذا إعراض عن المحاجة لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد أظهر المعجزات كالقرآن ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها، وقد مر في هذه السورة إبطال إلهية عيسى وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم بيّن نفي الضد والند والصاحبة والولد بقوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} وذكر أن اختلاف هؤلاء اليهود والنصارى إنما هو لأجل البغي والحسد فلم يبق إلا أن يقول: أما أنا ومن اتبعن فمنقادون للحق مستسلمون له مقبلون على عبودية الله تعالى. وهذا طريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه. وثانيهما أن قوله: {أسلمت} محاجة وبيانه أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع وكونه مستحقًا للعبادة، فكأنه صلى الله عليه وسلم قال هذا القول متفق عليه بين الكل فأنا متمسك بهذا القدر المتفق عليه وداعي الخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك. فاليهود يدعون التشبيه والجسمية، والنصارى يدعون إلهية عيسى، والمشركون يدعون وجوب عبادة الأوثان. فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها ونظير هذه الآية: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا} [آل عمران: 64] وعن أبي مسلم أن الآية في هذا الموضع كقول إبراهيم عليه السلام {إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض} [الأنعام: 79] كأنه قيل: فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل: أنا متمسك بطريقة إبراهيم وأنتم معترفون بأنه كان محقًا في قوله صادقًا في دينه، فيكون من باب التمسك بالإلزامات وداخلًا تحت قوله: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] {وقل للذين أوتوا الكتاب} من اليهود والنصارى {والأميين} وهم مشركو العرب الذين لا كتاب لهم {أأسلمتم} ومعناه الأمر وفائدته التعيير بالعناد وقلة الإنصاف كقولك لمن لخصت له المسئلة ولم تأل جهدًا في سلوك طريقة الكشف والبيان له: هل فهمتها؟ فإنه يكون توبيخًا له بالبلادة وكلال الذهن ومثله في آية تحريم الخمر {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91] إشارة إلى التقاعد عن الانتهاء.
{فإن أسلموا فقد اهتدوا} إلى ما يهدي الله إليه أو إلى الفوز والنجاة في الآخرة {وإن تولوا} أعرضوا عن الإسلام لي والاتباع لك {فإنما عليك البلاغ}. ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الرشاد {والله بصير بالعباد} يوفق للصلاح من شاء ويترك على الضلالة من أراد. ثم وصف المتولي بصفات ثلاث وأردفه بوعيده فقال: {إن الذين يكفرون بآيات الله} أي ببعضها المعهود لأن اليهود كانوا مقرين ببعض الآيات الدالة على وجود الصانع وقدرته وعلمه وشيء من المعاد أو بكلها كما هو ظاهر الجمع المضاف، وتوجيهه أن المكذب ببعض آيات الله كالكافر بجميعها {ويقتلون النبيين} أي المعهودين لأنهم ما قتلوا كلهم ولا أكثرهم {بغير حق} من غير ما شبهة عندهم {ويقتلون} أو يقاتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس.
عن الحسن أن في الآية دلالة على أن الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر تلي منزلته عند الله منزل الأنبياء فلهذا ذكرهم عقيبهم.
وروي أن رجلًا قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيّ الجهاد أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سطان جائر» فإن قيل: إذا كان قوله: {إن الذين يكفرون} في حكم المستقبل لا أقل من الحال لأنه وعيد لمن هو في زمن رسول الله، ولم يقع منهم قتل الأنبياء ولا القائمين بالقسط، فكيف يصح الكلام؟ قلنا: إن القوم كانوا يريدون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين جميعًا، إلا أنه تعالى عصمهم منهم فصح إطلاق القاتل عليهم كما يقال: السم قاتل أي ذلك من شأنه إن وجد القابل. أو نقول: وصفوا بسيرة أسلافهم لأنهم راضون بذلك.
عن أبي عبيدة بن الجراح قلت: يا رسول الله أيّ الناس أشد عذابًا يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبيًا أو رجلًا أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم قرأ هذه الآية.
ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيًا من أول النهار في ساعة واحدة. فقام مائة واثنا عشر رجلًا من عباد بني إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعًا من آخر النهار {فبشرهم بعذاب أليم} إنما دخلت الفاء لتضمن اسم إن معنى الشرط، فأن لا يغير معنى الابتداء بخلاف ليت ولعل.
واعلم أنه تعالى قسم وعيدهم إلى ثلاثة أقسام: الأول اجتماع أسباب الآلام والمكاره عليهم وهو العذاب الأليم، واستعارة البشارة هاهنا للتهكم. الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية وهو قوله: {أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} أما في الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن وأسباب الاحترام والاحتشام بأصناف الذل والهوان من السبي والقتل والجزية، وأما في الآخرة فكما قال عز من قائل: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورًا} [الفرقان: 23] الثالث لزوم ذلك في حقهم وهو قوله: {وما لهم من ناصرين} ثم ذكر غاية عناد أهل الكتاب فقال: {ألم تر إلى الذين} عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: «على ملة إبراهيم». فقالا: إن إبراهيم كان يهوديًا. فقال رسول الله: «فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا» فنزلت. وقال الكلبي: نزلت في اللذين زنيا من خيبر وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما بالرجم وأنكر اليهود عليه صلى الله عليه وسلم وسوف تجيء القصة في سورة المائدة مفصلة. وقيل: دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم أو إياهم والنصارى إلى الآيات الدالة على صحة نبوته من التوراة أو منها ومن الإنجيل فأبوا فنزلت.
ومعنى قوله: {أوتوا نصيبًا} أي حظًا وافرًا من علم الكتاب يريد أحبار اليهود. و{من} إما للتبعيض وإما للبيان. والكتاب يراد به غير القرآن من الكتب التي كانوا مقرين بحقيتها. وقيل: أي حصلوا من جنس الكتب المنزلة أو من اللوح التوراة وهي نصيب عظيم. ثم بين سبب التعجيب بقوله: {يدعون إلى كتاب الله} وهو التوراة كما مر في أسباب النزول، ولأنه تعالى عجب رسوله من تمردهم وإعراضهم، وإنما يتوده التعجيب إذا تمردوا عن حكم الكتاب الذي يعتقدون صحته.
وعن ابن عباس أنه القرآن وليس ببعيد لأنهم دعوا إليه بعد قيام الحجج على أنه كتاب من عند الله ليحكم أي الكتاب بينهم أي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحذف الثاني للعلم به. أو يراد الحكم في الاختلاف الواقع بينهم كما في قصة الزانيين، ولهذا راجعوا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم، قال في الكشاف: والوجه أن يراد ما وقع من الاختلاف والتعادي بين من أسلم من أحبارهم وبين من لم يسلم وأنهم دعوا إلى كتاب الله الذي لا اختلاف بينهم في صحته وهو التوراة ليحكم بين المحق والمبطل منهم {ثم يتولى فريق منهم} وهم الرؤساء والأحبار أو الذين لم يسلموا من أحبارهم ومعنى {ثم} استبعاد ما بين رتبتي الدعاء والتولي {وهم معرضون} قوم لا يزال الإعراض ديدنهم وهجيراهم.
والضمير في {هم} إما أن يرجع إلى الفريق أي هم جامعون بين التولي والإعراض لا عن استماعهم الحجة في ذلك المقام فقط، بل عنه وعن سائر المقامات. وإما أن يرجع إلى الباقين منهم فيكون قد وصف العلماء والرؤساء بالتولي والباقين بالإعراض لأجل إعراض علمائهم ومتقدميهم. وإما أن يرجع إلى كل أهل الكتاب أي هم قوم عادتهم الإعراض عن قبول الحق ذلك التولي والإعراض، أو ذلك العقاب أو الوعيد بسبب أنهم كانوا يتساهلون في أمر العقاب ولا يفرقون بين ما يتعلق بأصول الدين وبين ما يتعلق بفروعها فقالوا: {لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات} [البقرة: 8] هي أيام عبادة العجل فاستوجبوا الذم من وجوه: أحدها استقصار مدة العذاب ومن أين لهم العلم بذلك؟ وثانيها أن عبادة العجل كفر والكفر يستحق به الكافر عذابًا دائمًا. وثالثها أن استثناء الأيام المعدودات فقط فيه دليل على أنهم استحقروا تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وذلك كفر صريح.
{وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون} من قولهم: {نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18] أو من قولهم: {لن تمسنا النار إلا إيامًا} [البقرة: 8] أو من قولهم «نحن أولى بالنبوة من قريش» أو من زعمهم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم.
{فكيف} يصنعون؟ أو فكيف حالهم؟ وفي هذا الحذف فخامة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من العذاب {إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه} قال الفراء: إذا قلت جمعوا اليوم الخميس معناه جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس. أما إذا قلت: جمعوا في يوم الخميس فلا تضمر فعلًا. وأيضا من المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة والفرق بين المثاب والمعاقب.
{ووفيت كل نفس ما كسبت} من ثواب أو عقاب أو جزاء ما عملت {وهم لا يظلمون} يرجع إلى كل نفس على المعنى لأنه في معنى كل الناس كما تقول: ثلاثة أنفس تريد ثلاثة أناسي. روي أن أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله على رؤوس الإشهاد ثم يأمر بهم إلى النار. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري:

هذه كلمة تعجب لما أخبر به عن تعظيم الأمر، وتفخيم الشأن عند بهتة عقولهم ودهشة أسرارهم، وانقطاع دواعيهم، وانخلاع قلوبهم من مكامنها، وتراقيها إلى تراقيهم، ثم ما يلقونه من الحساب والعتاب، والعذاب والعقاب، وعدم الإكرام والإيجاب، وما في هذا الباب.
وقيامةُ الكفار يومَ الحشر، وقيامة الأحباب في الوقت، ولِشَرْحِ هذا تفسير طويل. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار:

قال رحمه الله:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ}.
قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} الْيَهُودُ خَاصَّةً، وَقَدْ نُسِبَ إِلَيْهِمْ قَتْلُ النَّبِيِّينَ الَّذِي كَانَ مِنْ سَابِقِهِمْ لِاعْتِبَارِ الْأُمَّةِ فِي تَكَافُلِهَا وَجَرْيِ لَاحِقِهَا عَلَى أَثَرِ سَابِقِهَا، كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ- عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ غَيْرَ مَرَّةٍ- عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ هَمَّتْ بِقَتْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي زَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالسُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ- كَمَا عَلِمْتَ- وَهُمْ بِذَلِكَ قَوْمُهُ الْأُمِّيُّونَ مِنْ قَبْلُ فِي مَكَّةَ، ثُمَّ كَانَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حَرْبًا لَهُ وَهُمُ الْمُعْتَدُونَ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْآيَةَ فِيمَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْأُمِّيِّينَ، فَكُلٌّ قَاتَلَهُ وَقَاتَلَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ حَتَّى عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ {وَيُقَاتِلُونَ الَّذِينَ} لِأَنَّ مُحَاوَلَةَ قَتْلِ نَبِيٍّ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِـ {يَقْتُلُونَ} النَّبِيِّينَ، وَالْقِتَالُ غَيْرُ الْقَتْلِ وَلِمَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ إِطْلَاقِ مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ عَلَى الْيَهُودِ خَاصَّةً، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَجْمُوعُ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمُ النَّبِيِّينَ وَبَعْضُهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ، فَالْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا انْتِقَالٌ إِلَى خِطَابِ الْيَهُودِ خَاصَّةً، فَالْيَهُودُ هُمُ الَّذِينَ جَرَوْا عَلَى الْكُفْرِ بِآيَاتِ اللهِ مِنْ عَهْدِ مُوسَى إِلَى عَهْدِ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَبِذَلِكَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ كُتُبُهُمْ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَعَلَى قَتْلِ النَّبِيِّينَ كَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى- عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَلَكِنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ وَجَّهَ الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ وَجَعَلَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ حَاوَلُوا قَتْلَ نَبِيٍّ وَاحِدٍ عَلَى حَدِّ كَوْنِ قَتْلِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ كَقَتْلِ جَمِيعِ النَّاسِ.
وَقوله تعالى: {بِغَيْرِ حَقٍّ} بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ بِمَا يُقَرِّرُ بَشَاعَتَهُ وَانْقِطَاعَ عِرْقِ الْعُذْرِ دُونَهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ قَتْلَ النَّبِيِّينَ لَا يَكُونُ بِحَقٍّ مُطْلَقًا كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَيْدَ يُقَرِّرُ لَنَا أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي ذَمِّ الشَّيْءِ وَمَدْحِهِ تَدُورُ مَعَ الْحَقِّ وُجُودًا وَعَدَمًا لَا مَعَ الْأَشْخَاصِ وَالْأَصْنَافِ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ كَلِمَةَ {حَقٍّ} هُنَا الْمَنْفِيَّةَ تَشْمَلُ الْحَقَّ الْعُرْفِيَّ بِقَاعِدَةِ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تُفِيدُ الْعُمُومَ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِثْلُ قَتْلِ مُوسَى عليه السلام لِلْمِصْرِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ، فَإِذَا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ الْمِصْرِيَّةُ تَقْضِي بِقَتْلِ مِثْلِهِ وَقَتَلُوهُ فِي عُرْفِهِمْ لَا يُذَمُّونَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تُذَمُّ شَرِيعَتُهُمْ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَادِلَةً، وَالْيَهُودُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَقٌّ مَا فِي قَتْلِ مَنْ قَتَلُوا مِنَ النَّبِيِّينَ لَا حَقِيقَةً وَلَا عُرْفًا.
{وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} أَيِ الْحُكَمَاءِ الَّذِينَ يُرْشِدُونَ النَّاسَ إِلَى الْعَدَالَةِ الْعَامَّةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَيَجْعَلُونَهَا رُوحَ الْفَضَائِلِ وَقِوَامَهَا، وَمَرْتَبَتُهُمْ فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ تَلِي مَرْتَبَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَثَرُهُمْ فِي ذَلِكَ يَلِي أَثَرَهُمْ؛ ذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ طَبَقَاتِ النَّاسِ تَنْتَفِعُ بِهَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ، كُلُّ صِنْفٍ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ، وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِمْ إِلَّا بَعْضُ الْخَوَاصِّ الْمُسْتَعِدِّينَ لِتَلَقِّي الْفَلْسَفَةِ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ اصْطَلَمَ التَّوْحِيدُ وَثَنِيَّةَ الْعَرَبِ فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَيْفَ عَجَزَتْ دَعْوَةُ فَلَاسِفَةِ الْيُونَانَ إِلَى التَّوْحِيدِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُمْ فِيهَا فِي الزَّمَنِ الطَّوِيلِ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ طُلَّابِ الْفَلْسَفَةِ؟ ذَلِكَ بِأَنَّ دَعْوَةَ النَّبِيِّ عَلَى مَا تَخْتَصُّ بِهِ مِنَ التَّأْيِيدِ الْإِلَهِيِّ وَتَأْثِيرِ رُوحِ الْوَحْيِ لَهَا ثَلَاثَةُ مَظَاهِرَ بَيَّنَهَا اللهُ تعالى فِي قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [16: 125] فَالْحِكْمَةُ مَا يُدْعَى بِهِ الْعُقَلَاءُ وَأَهْلُ النَّظَرِ مِنَ الْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ، وَالْمَوْعِظَةُ مَا يُدْعَى بِهِ الْعَوَامُّ السُّذَّجُ، وَالْجَدَلُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لِلْمُتَوَسِّطِينَ الَّذِينَ لَمْ يَرْتَقُوا إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِطَلَبِ الْحِكْمَةِ وَلَا يَنْقَادُونَ إِلَى الْمَوْعِظَةِ بِسُهُولَةٍ، بَلْ يَبْحَثُونَ بَحْثًا نَاقِصًا، فَلابد مِنَ الْحُسْنَى فِي مُجَادَلَتِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ، وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ فَإِنَّ لَهُمْ طَرِيقَةً وَاحِدَةً فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ، وَالْفَضِيلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى طَلَبِ الْعَدْلِ فِي الْأَفْكَارِ وَالْأَخْلَاقِ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَكِيمُ الَّذِي يَدْعُو إِلَى ذَلِكَ مُتَدَيِّنًا وَيَجْرِي فِي الْإِقْنَاعِ بِالدِّينِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُتَدَيِّنٍ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَدْعُو إِلَى الْقِسْطِ وَالْعَدْلِ مِنَ الْعَقْلِ بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ مَعَ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ هَؤُلَاءِ دَلِيلٌ عَلَى غَمْطِ الْعَقْلِ وَمَقْتِ الْعَدْلِ، وَأَقْبِحْ بِذَلِكَ جُرْمًا وَكَفَى بِهِ إِثْمًا. وَلَمْ يُفَسِّرِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ بِالْحُكَمَاءِ، بَلْ قَالَ: إِنَّ مَرْتَبَةَ هَؤُلَاءِ تَلِي مَرْتَبَةَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ: إِنَّ قوله تعالى: {مِنَ النَّاسِ} يُشْعِرُ بِقِلَّتِهِمْ. وَأَقُولُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاخْتِيَارِ: أنه يُشْعِرُ بِشُمُولِ قوله: {الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ} لِمَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ نَبِيٍّ عَلَى وَجْهِهَا فَآمَنَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَقَالَ: وَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي هَذَا تَعْظِيمُ شَأْنِ الْحِكْمَةِ وَالْعَدَالَةِ مَا فِيهِ مِنْ شَرَفِ الإسلام وَإِرْشَادِ أَهْلِهِ إِلَى أن يكونوا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي تَلِي مَرْتَبَةَ النُّبُوَّةِ {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الألباب} [2: 269].
وَقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} يَحْمِلُونَ مِثْلَهُ عَلَى التَّهَكُّمِ، وَعَدُّوهُ مِنَ الْمَجَازِ بِالِاسْتِعَارَةِ عَلَى مَا فِي مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ؛ لِأَنَّ التَّبْشِيرَ مِنَ الْبِشَارَةِ وَالْبُشْرَى وَهِيَ الْخَبَرُ السَّارُّ تَنْبَسِطُ لَهُ بَشَرَةُ الْوَجْهِ. وَقَدْ يُقَالُ: أنه مَا ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي الْبَشَرَةِ بِانْبِسَاطٍ أَوِ انْقِبَاضٍ وَكَآبَةٍ، وَلَكِنَّهُ غَلَبَ فِي الْأَوَّلِ، وَهَذَا الْعَذَابُ يُصِيبُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُشَارِكُونَ مَنْ سَبَقَهُمْ بِمِثْلِ ذُنُوبِهِمْ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَأَيُّ النَّاسِ أَحَقُّ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقُسَاةِ الطُّغَاةِ الْمُسْرِفِينَ فِي الشَّرِّ إِسْرَافًا جَعَلَهُمْ عَلَى مُنْتَهَى الْبُعْدِ عَنِ النَّبِيِّينَ وَالأمرينَ بِالْقِسْطِ حَتَّى كَانَ مِنْهُمُ الَّذِينَ قَتَلُوهُمْ بِالْفِعْلِ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ نُفُوسُهُمْ كَنُفُوسِ مَنْ قَتَلُوا وَمَا يَمْنَعُهُمْ عَنِ الْفِعْلِ إِلَّا الْعَجْزُ {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} [8: 30] فَهَذِهِ النُّفُوسُ قَدْ أَحَاطَتْ بِهَا خَطَايَاهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهَا مَنْفَذٌ لِنُورِ آيَاتِ اللهِ الَّتِي بِهَا يُبْصِرُ الْحَقَّ وَيَهْتَدِي إِلَى إِقَامَةِ الْقِسْطِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِشَيْءٍ مِنْهُ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إِنَّمَا يَنْفَعُ بِحُسْنِ أَثَرِهِ فِي النَّفْسِ، وَنُفُوسُ هَؤُلَاءِ قَدْ أَوْغَلَ فِيهَا الْفَسَادُ- كَمَا تَقَدَّمَ- فَفَقَدَتْ الِاسْتِعْدَادَ وَالْقَبُولَ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالتَّفْصِيلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 217) {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } يَنْصُرُونَهُمْ مِنَ اللهِ وَقَدْ أَبْسَلَتْهُمْ ذُنُوبُهُمْ بِمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي إِفْسَادِ نُفُوسِهِمْ، فَأَيُّ نَاصِرٍ يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَهُوَ مِمَّا اقْتَضَتْهُ طَبِيعَتُهُمْ؟