فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم، وهم أعز وأمنع من ذلك، وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما خط الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعًا، وأخذوا يحفرون خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخبره، فأخذ المعول من سلمان فلما ضربها ضرب صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فكبّر وكبر المسلمون، وقال عليه الصلاة والسلام: «أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب» ثم ضرب الثانية، فقال: «أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم».
ثم ضرب الثالثة فقال: «أضاءت لي منها قصور صنعاء وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا» فقال المنافقون: ألا تعجبون من نبيّكم يعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومداين كسرى، وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا فنزلت هذه الآية والله أعلم.
وقال الحسن إن الله تعالى أمر نبيّه أن يسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ويرد ذل العرب عليهما، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاء، وهكذا منازل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا أمروا بدعاء استجيب دعاءهم. اهـ.

.قال السمرقندي:

{قُلِ اللهم مالك الملك} قال ابن عباس في رواية أبي صالح: نزلت في شأن المنافقين، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قال عبد الله بن أبي رأس المنافقين: إن محمدًا يتمنى أن ينال ملك فارس والروم وأنَّى له ذلك؟ فنزلت هذه الآية.
وقال بعضهم سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه، أن يجعل له ملك فارس والروم في أمته، فعلمه الله بأن يدعو بهذا الدعاء، وهو قول مقاتل وقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بحفر الخندق، فظهر في الخندق صخرة عجزوا عن حفرها، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، وضرب ضربة، فظهر من تلك الصخرة نور فقال له سلمان: رأيت شيئًا عجيبًا.
فقال له النبي: «هَلْ رَأَيْتَ ذلك»؟ قال: نعم.
فقال: رأيت في ذلك النور قصور أهل الشام، ثم ضرب ضربة أخرى، فظهر أيضا كذلك.
فقال: رأيت قصور أهل فارس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَيَظْهَرُ لأُمَّتِي مُلْكُ الشَّامِ، وَمُلْكُ فَارِسَ» فقال المنافقون: إن محمدًا لا يأمن على نفسه، واضطر إلى حفر الخندق، فكيف يتمنى ملك الشام وفارس، فنزلت هذه الآية.
وقال بعضهم إن مشركي مكة قالوا: إن فارس والروم يبيتان في الحرير والديباج، فلو كان هو نبيًا، كيف ينام على الحصير؟ فنزلت هذه الآية. اهـ.

.قال الفخر:

{الملك} هو القدرة، والمالك هو القادر، فقوله: {مالك الملك} معناه القادر على القدرة، والمعنى إن قدرة الخلق على كل ما يقدرون عليه ليست إلا بإقدار الله تعالى فهو الذي يقدر كل قادر على مقدوره، ويملك كل مالك مملوكه، قال صاحب الكشاف {مالك الملك} أي يملك جنس الملك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون، واعلم أنه تعالى لما بيّن كونه {مالك الملك} على الإطلاق، فصل بعد ذلك وذكر أنواعًا خمسة:
النوع الأول: قوله تعالى: {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ} وذكروا فيه وجوهًا الأول: المراد منه: ملك النبوّة والرسالة، كما قال تعالى: {فَقَدْ ءَاتَيْنَا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم مُّلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54] والنبوّة أعظم مراتب الملك لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلق والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ في البواطن والظواهر، فأما على البواطن فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتهم، وأن يعتقد أنه هو الحق، وأما على الظواهر فلأنهم لو تمردوا واستكبروا لاستوجبوا القتل، ومما يؤكد هذا التأويل أن بعضهم كان يستبعد أن يجعل الله تعالى بشرًا رسولًا فحكى الله عنهم قولهم: {أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 94] وقال الله تعالى: {وَلَوْ جعلناه مَلَكًا لجعلناه رَجُلًا} [الأنعام: 9] وقوم آخرون جوزوا من الله تعالى أن يرسل رسولًا من البشر، إلا أنهم كانوا يقولون: إن محمدًا فقير يتيم، فكيف يليق به هذا المنصب العظيم على ما حكى الله عنهم أنهم قالوا: {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] وأما اليهود فكانوا يقولون النبوّة كانت في آبائنا وأسلافنا، وأما قريش فهم ما كانوا أهل النبوّة والكتاب فكيف يليق النبوّة بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ وأما المنافقون فكانوا يحسدونه على النبوّة، على ما حكى الله ذلك عنهم في قوله: {أم يحْسُدونَ الناس على مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 37].
وأيضا فقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد} [آل عمران: 12] أن اليهود تكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة عددهم وسلاحهم وشدتهم، ثم أنه تعالى رد على جميع هؤلاء الطوائف بأن بيّن أنه سبحانه هو مالك الملك فيؤتي ملكه من يشاء، فقال: {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ}.
فإن قيل: فإذا حملتم قوله: {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ} على إيتاء ملك النبوّة، وجب أن تحملوا قوله: {وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ} على أنه قد يعزل عن النبوّة من جعله نبيًا، ومعلوم أن ذلك لا يجوز.
قلنا: الجواب من وجهين:
الأول: أن الله تعالى إذا جعل النبوّة في نسل رجل، فإذا أخرجها الله من نسله، وشرَّف بها إنسانًا آخر من غير ذلك النسل، صح أن يقال أنه تعالى نزعها منهم، واليهود كانوا معتقدين أن النبوّة لابد وأن تكون في بني إسرائيل، فلما شرف الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم بها، صح أن يقال: أنه ينزع ملك النبوّة من بني إسرائيل إلى العرب.
والجواب الثاني: أن يكون المراد من قوله: {وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ} أي تحرمهم ولا تعطيهم هذا الملك لا على معنى أنه يسلبه ذلك بعد أن أعطاه، ونظيره قوله تعالى: {الله وَلِيُّ الذين ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257] مع أن هذا الكلام يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قط، وقال الله تعالى مخبرًا عن الكفار أنهم قالوا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام {أَوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] وأولئك الأنبياء قالوا: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاءَ الله} [الأعراف: 89] مع أنهم ما كانوا فيها قط، فهذا جملة الكلام في تقرير قول من فسّر قوله تعالى: {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ} بملك النبوة.
القول الثاني: أن يكون المراد من الملك، ما يسمى ملكًا في العرف، وهو عبارة عن مجموع أشياء أحدها: تكثير المال والجاه، أما تكثير المال فيدخل فيه ملك الصامت والناطق والدور والضياع، والحرث، والنسل، وأما تكثير الجاه فهو أن يكون مهيبًا عند الناس، مقبول القول، مطاعًا في الخلق والثاني: أن يكون بحيث يجب على غيره أن يكون في طاعته، وتحت أمره ونهيه.
والثالث: أن يكون بحيث لو نازعه في ملكه أحد، قدر على قهر ذلك المنازع، وعلى غلبته، ومعلوم أن كل ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى، أما تكثير المال فقد نرى جمعًا في غاية الكياسة لا يحصل لهم مع الكد الشديد، والعناء العظيم قليل من المال، ونرى الأبله الغافل قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميته، وأما الجاه فالأمر أظهر، فإنا رأينا كثيرًا من الملوك بذلوا الأموال العظيمة لأجل الجاه، وكانوا كل يوم أكثر حقارة ومهانة في أعين الرعية، وقد يكون على العكس من ذلك وهو أن يكون الإنسان معظمًا في العقائد مهيبًا في القلوب، ينقاد له الصغير والكبير، ويتواضع له القاصي والداني، وأما القسم الثاني وهو كونه واجب الطاعة، فمعلوم أن هذا تشريف يشرف الله تعالى به بعض عباده، وأما القسم الثالث، وهو حصول النصرة والظفر فمعلوم أن ذلك مما لا يحصل إلا من الله تعالى، فكم شاهدنا من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وعند هذا يظهر بالبرهان العقلي صحة ما ذكره الله تعالى من قوله: {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ}. اهـ.

.قال الألوسي:

وأل في {الملك} للجنس أو الاستغراق، و{الملك} بالضم على ما ذكره بعض أئمة التحقيق نسبة بين من قام به ومن تعلق، وإن شئت قلت: صفة قائمة بذاته متعلقة بالغير تعلق التصرف التام المقتضي استغناء المتصرف وافتقار المتصرف فيه ولهذا لم يصح على الإطلاق إلا لله تعالى جده وهو أخص من الملك بالكسر لأنه تعلق باستيلاء مع ضبط وتمكن من التصرف في الموضوع اللغوي وبزيادة كونه حقًا في الشرع من غير نظر إلى استغناء وافتقار فمالك الملك هو الملك الحقيقي المتصرف بما شاء كيف شاء إيجادًا وإعدامًا إحياءًا وإماتة وتعذيبًا وإثابة من غير مشارك ولا ممانع، ولهذا لا يقال: ملك الملك إلا على ضرب من التجوز، وحمل {الملك} على هذا المعنى أوفق بمقام المدح. اهـ.

.قال القرطبي:

و{الملك} هنا النبوّة؛ عن مجاهد.
وقيل، الغلَبة.
وقيل: المال والعبيد.
الزجاج: المعنى مالك العباد وما ملكوا.
وقيل: المعنى مالك الدنيا والآخرة.
ومعنى {تُؤْتِي الملك} أي الإيمان والإسلام.
{مَن تَشَاءُ} أي من تشاء أن تؤتيه إياه، وكذلك ما بعده، ولابد فيه من تقدير الحذف، أي وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه، ثم حذف هذا، وأنشد سيبويه:
ألا هل لهذا الدّهر من مُتَعَلّل ** على الناس مهما شاء بالناسِ يَفْعَلِ

قال الزجاج: مهما شاء أن يفعل بالناس يفعل. اهـ.

.قال أبو حيان:

{تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء} الظاهر أن الملك هو السلطان والغلبة، كما أن ظاهر الملك الأوّل كذلك، فيكون الأوّل عامًا، وهذان خاصين.
والمعنى: أنك تعطي من شئت قسمًا من الملك، وتنزع ممن شئت قسمًا من الملك وقد فسر الملك هنا بالنبوّة أيضا، ولا يتأتى هذا التفسير في: تنزع الملك، لأن الله لم يؤت النبوّة لأحد ثم نزعها منه إلاَّ أن يكون تنزع مجازًا بمعنى: تمنع النبوّة ممن تشاء، فيمكن.
وقال أبو بكر الوراق: هو ملك النفس ومنعها من اتباع الهوى.
وقيل: العافية، وقيل: القناعة.
وقيل: الغلبة بالدين والطاعة.
وقيل: قيام الليل.
وقال الشبلي: هو الاستغناء بالمكون عن الكونين.
وقال عبد العزيز بن يحيى: هو قهر إبليس كما كان يفرّ من ظل عمر، وعكسه من كان يجري الشيطان منه مجرى الدم.
وقيل: ملك المعرفة بلا علة، كما أتى سحرة فرعون، ونزع من بلعام.
وقال أبو عثمان: هو توفيق الإيمان.
وإذا حملناه على الأظهر: وهو السلطنة والغلبة، وكون المؤتَى هو الأمر المتبع، فالذي آتاه الملك هو محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، والمنزوع منهم فارس والروم.
وقيل: المنزوع منه أبو جهل وصناديد قريش.
وقيل: العرب وخلفاء الإسلام وملوكه، والمنزوع فارس والروم.
وقال السدي: الأنبياء أمر الناس بطاعتهم، والمنزوع منه الجبارون أمر الناس بخلافهم.
وقيل: آدم وولده، والمنزوع منه إبليس وجنوده.
وقيل: داود عليه السلام، والمنزوع منه طالوت.
وقيل: صخر، والمنزوع منه سليمان أيام محنته.
وقيل: المعنى تؤتي الملك في الجنة من تشاء وتنزع الملك من ملوك الدنيا في الآخرة ممن تشاء.
وقيل: الملك العزلة والانقطاع، وسموه الملك المجهول.
وهذه أقوال مضطربة، وتخصيصات ليس في الكلام ما يدل عليها، والأولى أن يحمل على جهة التمثيل لا الحصر في المراد.
{وتعز من تشاء وتذل من تشاء} قيل: محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حين دخلوا مكة في اثني عشر ألفًا ظاهرين عليها، وأذل أبا جهل وصناديد قريش حتى حزت رؤوسهم وألقوا في القليب.
وقيل: بالتوفيق والعرفان، وتذل بالخذلان.
وقال عطاء: المهاجرين والأنصار وتذل فارس والروم.
وقيل: بالطاعة وتذل بالمعصية.
وقيل: بالظفر والغنيمة وتذل بالقتل والجزية.
وقيل: بالإخلاص وتذل بالرياء.
وقيل بالغنى وتذل بالفقر.
وقيل: بالجنة والرؤية وتذل بالحجاب والنار، قاله الحسن بن الفضل.
وقيل: بقهر النفس وتذل باتباع الخزي، قاله الوراق.
وقيل: بقهر الشيطان وتذل بقهر الشيطان اياه، قاله الكتاني.
وقيل: بالقناعة والرضا وتذل بالحرص والطمع.
وينبغي حمل هذه الأقاويل على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية، بل الذي يقع به العز والذل مسكوت عنه. اهـ.

.قال ابن عادل:

قوله: {تُؤتِي} هذه الجملة، وما عُطِفَ عليها يجوز أن تكون مستأنفةً، مبينة لقوله: {مَالِكَ الملك} ويجوز أن تكون حالًا من المنادى.
وفي انتصاب الحال من المنادى خلاف، الصحيح جوازه؛ لأنه مفعول به، والحال- كما يكون لبيان هيئة الفاعل- يكون لبيان هيئةِ المفعول، ولذلك أعرَبَ الْحُذَّاقُ قولَ النابغة: [البسيط]
يَا دَار مَيَّة بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ** أقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الأبدِ

بالعلياء حالًا من دار مية، وكذلك أقوت.
والثالث من وجوه {تُؤتِي}: أن تكون خبرَ مُبتدأ مضمر، أي: أنت تؤتي، لتكون الجملة اسمية وحينئذ يجوز أن تكون مستأنفةً، وأن تكون حالية. اهـ.