فصل: تفسير الآية رقم (27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إن اللغة العربية تضع قاعدة واضحة وهي ألا يُنادي ما فيه، أداة التعريف، مثل الرجل بيا فلا يقال: يا الرجل بل يقال: يا أيها الرجل لكن اللغة التي يسرها الله لعباده تخص لفظ الجلالة بالتقديس، فيكون من حق العباد أن يقولوا: يا الله. وهذا اللفظ بجلاله له تميز حتى في نطقه.
ولنا أن نلحظ أن العرب من كفار قريش وهم أهل فصاحة لم يفطنوا إلى ذلك، فكأن الله يرغم حتى الكافرين بأن يجعل للفظ الجلالة تميزا حتى في أفواه الكافرين فيقولون مع المؤمنين: يا الله. أما بقية الأسماء التي تسبقها أداة التعريف فلا يمكن أن تقول: يا الرجل أو يا العباس لكن لابد أن تقول يا أيها الرجل، أو يا أيها العباس، ولا تقول حتى في نداء النبي: يا النبي، وإنما تقول: يا أيها النبي.
لكن عند التوجه بالنداء إلى الله فإننا نقول: يا الله، إنها خصوصية يلفتنا لها الحق سبحانه بأنه وحده المخصوص بها، وأيضا ما رأينا في لغة العرب عَلَمًا دخلت عليه التاء كحرف القسم إلا الله، فإننا نقول تالله، ولم نجد أبدا من يقول تزيد أو تعمرو.
إننا لا نجد التاء كحرف قسم إلا في لفظ الجلاله، ولا نجد أيضا علما من الأعلام في اللغة العربية تحذف منه يا في النداء وتستبدل بالميم إلا في لفظ الجلالة فنقول: اللهم كل ذلك ليدل على أن اللفظ في ذاته له خصوصية المسمى.
{قل اللهم} وكأن حذف حرف النداء هنا يُعلمنا أن الله هو وحده المستدعى بدون حرف نداء.
{اللهم} وفي بعض الألسنة يجمعون الياء والميم، مثل قول الشاعر:
إني إذا ما حادث ألمَّا ** أقول يا اللهم يا اللهمَّا

إنها خصوصية لصاحب الخصوصية الأعلى.
{قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} وقد يسأل إنسان لماذا لم يقل الحق: ملك الملك؟ هنا لابد أن نعرف أنه سيأتي يوم لا تكون فيه أي ملكية لأي أحد إلا الله، وهو المالك الوحيد، فهو سبحانه يقول: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 15- 16].
إن قول الحق هنا: {مالك الملك} توضح لنا أن ملكية الله وهي الدائمة والقادرة واضحة، وجلية، ومؤكدة، ولو قال الله في وصف ذاته: ملك الملك لكان معنى ذلك أن هناك بشرا يملكون بجانب الله، لا، أنه الحق وحده مالك الملك. وما دام الله هو مالك الملك، فإنه يهبه لمن يشاء، وينزعه ممن يشاء. وهنا نلاحظ أن قول الحق: أنه مالك الملك يعطي الملك لمن يشاء وينزع الملك ممن يشاء تأتي بعد عملية المحاجّة، وبعد أن تهرب بعض من أهل الكتاب من تطبيق حكم الله بعد أن دعوا إليه، فتولى فريق منهم وأعرض عن حكم الله، وعللوا ذلك بادعاء أنهم أبناء الله وأحباؤه وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات.
كل هذه خيارات من لطف الله وضعها أمام هؤلاء العباد، خيارات بين اتباع حكم الله أو اتباع حكم الهوى، لكنهم لم يختاروا إلا الاختيار السيء، حكم الهوى. ولذلك يأتي الله بخبر اليوم الذي سوف يجيء، ولن يكون لأحد أي قدرة، أو اختيار.
إن حق الاختيار موجود لنا في هذه الدنيا، وعلينا أن نحسن الاختيار في ضوء منهج الله.
ولنتأمل هذا المثل الذي حدثتنا عنه السيرة النبوية الطاهرة، حينما جاءت غزوة الأحزاب التي اجتمع فيها كل خصوم الدعوة، واشتغل اليهود بالدس والوقيعة، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحفر بمشورة سلمان الفارسي خندقا حول المدينة المنورة. ومعنى الخندق، أي مساحة من الأرض يتم حفرها بما يعوق التقدم. وكان المقاتلون يعرفون أن الفرس يستطيع أن يقفز مسافة ما من الأمتار.
لقد حاول المؤمنون أثناء حفر الخندق أن يكون اتساع أكبر من قدرة الخيل، ولننظر إلى دقة الإدارة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن سلمان الفارسي قد اقترح أن يتم حفر الخندق، وفيما يبدو أنه قد أخذ الفكرة من بيئته وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم الفكرة وأقرها، وفعلها المسلمون.
إذن فليس كل ما فعله الكفار كان مرفوضا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل تطبيق كل الأعمال النافعة، سواء أكان قد فعلها الكفار من قبل أم لا، ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن عملية الحفر مرهقة بسبب جمود الأرض وصخريتها في بعض المواقع، لذلك وضع حصة قدرها أربعون ذراعا لكل عشرة من الصحابة، وبذلك وزع الرسول الكريم العمل والمسئولية، ولم يترك الأمر لكل جماعة خشية أن يتواكلوا على غيرهم.
وتوزيع المسئولية يعني أن كل جماعة تعرف القدر الواضح من العمل الذي تشارك به مع بقية الجماعات وقد يسأل سائل: ولماذا لم يوزع الرسول صلى الله عليه وسلم التكليف لكل واحد بمفرده؟ ونقول: إنها حكمة الإدارة والحزم هي التي جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يتعرف على حقيقة واضحة، وهي أن الذين يحفرون من الصحابة ليسوا متساوون في القدرة والمجهود، لذلك أراد لكل ضعيف أن يكون مسنودا بتسعة من الصحابة.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجعل الأمر مشاعا، بل كان هناك تحديد للمسئولية، لكنه لم يجعل المسئولية مشخصة تشخيصا أوليا ومحددا بكل فرد، وذلك حتى يساعد الأقوياء الضعيف من بينهم. لقد ستر رسول الله صلى الله عليه وسلم الضعيف بقوة إخوانه، وساعة أن يوجد ضعيف بين عشرة من الإخوان يحملون عنه ويحفرون، فإن موقفه من أصحابه يكون المحبة والألفة، ويكون القوي قد أفاض على الضعيف.
وكان عمرو بن عوف ضمن عشرة منهم سلمان الفارسي رضي الله عنه، فلما جاءوا ليحفروا صادفتهم منطقة يقال عنها: الكئود، ومعنى الكئود هي المنطقة التي تكون صلبة أثناء الحفر، فالحافر إذا ما حفر الأرض قد يجد الأرض سهلة ويواصل الحفر، أما إذا صادفته قطعة صلبة في الأرض فإنه لا يقدر عليها بمعوله لأنها صخرية صماء، فيقال له: أكدى الحافر.
وعندما صادف عمرو بن عوف وسلمان الفارسي والمغيرة وغيرهم هذه الصخرة الكئود، قالوا لسلمان: اذهب فارفع أمرنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن هذا نتعلم درسا وهو أن المُكلّفَ مِنْ قِبَل مَنْ يكلفه بأمر إذا وجد شيئا يعوقه عن أداء المهمة فلابد أن يعود إلى من كلفه بها.
وذهب سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان إلى الموقع وأخذ المعول وجاء على الصخرة الكئود وضربها، فحدث شرر أضاء من فرط قوة الاصطدام بين الحديد والصخرة، فهتف رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر فُتِحَتْ قصور بصرى بالشام»، ثم ضرب ضربة أخرى، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر فُتِحَتْ قصور الحمراء بالروم». وضرب ضربة ثالثة وقال: «الله أكبر فُتِحَتْ قصور صنعاء في اليمن»، فكأنه حين ضرب الضربة أوضح الله له معالم الأماكن التي سوف يدخلها الإسلام فاتحا ومنتصرا، فلما بلغ ذلك القول أعداء رسول الله صلى الله عليه قال الأعداء للصحابة: يمنيكم محمد بفتح قصور صنعاء في اليمين، والحمراء في الروم، وفتح قصور بصرى، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا لنا للقتال فأنزل الله قوله: {قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}.
إن المسألة ليست عزما من هؤلاء المؤمنين، إنما هي نية على قدر الوسع، فإن فعلت أي فعل على النية بقدر الوسع فانتظر المدد من الممد الأعلى سبحانه وتعالى.
إن الله سبحانه هو الذي يعطي الملك، وهو الإله الحق الذي ينزع ملك الكفر في كسرى والروم وصنعاء، ويعطي سبحانه الملك لمحمد رسول الله وأصحابه، وينزعه من قريش، وينزع الملك من يهود المدينة حيث كانوا يريدون الملك.
إن قول الحق: {وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} تجعلنا نتساءل: ما النزع؟ أنه القلع بشدة، لأن الملك عادة ما يكون متمسكا بكرسي الملك، متشبثا به، لماذا؟ لأن بعضا ممن يجلسون على كراسي السلطان ينظرون إليه كمغنم بلا تبعات فلا عرق ولا سهر ولا مشقة أو حرص على حقوق الناس، إنهم يتناسون سؤال النفس وماذا فعلت للناس؟ إن الواحد من هؤلاء لا يلتفت إلى ضرورة رعاية حق الله في الخلق فيسهر على مصالح الناس ويتعب ويكد ويشقى ويحرص على حقوق الناس.
إننا ساعة نرى حاكما متكالبا على الحكم، فلنعلم أن الحكم عنده مغنم، لا مغرم. ولنر ماذا قال سيدنا عمر بن الخطاب عندما قالوا له: إن فقدناك- لا نفقدك- نولى عبد الله بن عمر، وهو رجل قرقره الورع.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بحسب آل الخطاب أن يُسأل منهم عن أمة محمد رجل واحد، لماذا؟ لأن الحكم في الإسلام مشقة وتعب.
لقد جاء الحق بالقول الحكيم: {وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} وذلك لينبهنا إلى هؤلاء المتشبثين بكراسي الحكم وينزعهم الله منها، إن المؤمن عندما ينظر إلى الدول في عنفوانها وحضاراتها وقوتها ونجد أن الملك فيها يسلب من الملك فيها على أهون سبب. لماذا؟ إنها إرادة الخالق الأعلى، فعندما يريد فلا راد لقضائه.
إن الحق إما أن يأخذ الحكم من مثل هذا النوع من الحكام، وإما أن يأخذه هو من الحكم، ونحن نرى كل ملك وهو يوطن نفسه توطينا في الحكم، بحيث يصعب على من يريد أن يخلعه منه أن يخلعه بسهولة، لكن الله يقتلع هذا الملك حين يريد سبحانه.
وبعد ذلك يقول الحق: {وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ} لأن ظواهر الكون لا تقتصر على من يملك فقط، ولكن كل ملك حوله أناس هم ملوك ظل.
ومعنى ملوك الظل أي هؤلاء الذين يتمتعون بنفوذ الملوك وإن لم يكونوا ظاهرين أمام الناس، ومن هؤلاء يأتي معظم الشر. إنهم يستظلون ويستترون بسلطان الملك، ويفعلون ما يشاءون، أو يفعل الآخرون لهم ما يأمرون به، وحين يُنزع الملك فلا شك أن المغلوب بالظالمين يعزه الله، وأما الظالمون لأنفسهم فيذلهم الله؛ لذلك كأن لابد أن يجيء بعد {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} هذا القول الحق: {وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ}. لماذا؟ لأن كل ملك يعيش حوله من يتمتع بجاهه ونفوذه، فإذا ما انتهى سلطان هذا الملك، ظهر هؤلاء المستمعون على السطح. وهذا نشاهده كل يوم وكل عصر.
{وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْر}.
ونلاحظ هنا: أن إيتاء الملك في أعراف الناس خير. ونزع الملك في أعراف الناس شر. ولهؤلاء نقول: إن نزع الملك شر على من خُلِعَ منه، ولكنه خير لمن أوتي الملك. وقد يكون خيرا لمن نزع منه الملك أيضا. لأن الله حين ينزع منه الملك، أو ينزعه من الملك يخفف عليه مؤونة ظلمه فلو كان ذلك الملك المخلوع عاقلا، لتقبل ذلك وقال: إن الله يريد أن يخلصني لنفسه لعلى أتوب..
إذن فلو نظرت إلى الجزئيات في الأشخاص، ونظرت إلى الكليات في العموم لوجدت أن ما يجري في كون الله من إيتاء الملك وما يتبعه من إعزاز، ثم نزع الملك وما يتبعه من إذلال، كل ذلك ظاهرة خير في الوجود، لذلك قال الحق هنا: {بِيَدِكَ الْخَيْر} ولو دقق كل منا النظر إلى مجريات الأمور، لوجد أن: الله هو الذي يؤتي، والله هو الذي ينزع، والله هو الذي يعز، والله هو الذي يذل، ولابد أن يكون في كل ذلك صور للخير في الوجود، فيقول: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ أنك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
إن إيتاء الملك عملية تحتاج إلى تحضير بشرى وبأسباب بشرية، وأحيانا يكون الوصول إلى الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية، أو السياسية، وكذلك نزع الملك يحتاج إلى نفس الجهد.
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا المعنى فيقول: ليس ذلك بأمر صعب على قدرتي اللانهائية، لأنني لا أتناول الأفعال بعلاج، أو بعمل، إنما أنا أقول: كن فتنفعل الأشياء لإرادتي، ويأتي الحق بعد ذلك ليدلل بنواميس الكون وآيات الله في الوجود على صدق قضية {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيقول وقوله الحق: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ}. اهـ.

.تفسير الآية رقم (27):

قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
لما ثبتت خصوصيته سبحانه وتعالى بصفة القدرة على الوجه الأعم ذكر بعض ما تحت ذلك مما لم يدخل شيء منه تحت قدرة غيره فقال: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}.
وقال الحرالي: ولما كانت هذه الآية متضمنة تقلبات نفسانية في العالم القائم الآدمي اتصل بها ذكر تقلبات في العالم الدائر ليؤخذ لكل منها اعتبار من الآخر.
ولما ظهر في هذه الآية افتراق النزع والإيتاء والإعزاز والإذلال أبدى في الآية التالية توالج بعضها في بعض ليؤذن بولوج العز في الذل والذل في العز، والإيتاء في النزع والنزع في الإيتاء، وتوالج المفترقات والمتقابلات بعضها في بعض، ولما كانت هذه السورة متضمنة لبيان الإحكام والتشابه في منزل الكتاب بحكم الفرقان أظهر تعالى في آياتها ما أحكم وبين في خلقه وأمره وما التبس وأولج في خلقه وأمره، فكان من محكم آية في الكائن القائم الآدمي ما تضمنه إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال، وكان من الاشتباه إيلاج العز في الذل وإيلاج الذل في العز، فلما صرح بالإحكام ببيان الطرفين في الكائن القائم الآدمي، وضمن الخطاب اشتباهه في ذكر العز والذل صرح به في آية الكون الدائر، فذكر آية الآفاق وهو الليل والنهار بما يعاين فيها من التوالج حيث ظهر ذلك فيها وخفي في توالج أحوال الكائن القائم، لأن الإحكام والاشتباه متراد بين الآيتين: آية الكائن القائم الآدمي وآية الكون الدائر العرشي، فما وقع اشتباهه في أحدهما ظهر أحكامه في الآخر فقال سبحانه وتعالى: {تولج} من الولوج، وهو الدخول في الشيء الساتر لجملة الداخل {الليل في النهار} فيه تفصيل من مضاء قدرته، فهو سبحانه وتعالى يجعل كل واحد من المتقابلين بطانة للآخر والجًا فيه على وجه لا يصل إليه منال العقول لما في المعقول من افتراق المتقابلات، فكان في القدرة إيلاج المتقابلات بعضها في بعض وإيداع بعضها في بعض على وجه لا يتكيف بمعقول ولا ينال بفكر- انتهى.
{وتولج النهار في الليل} أي تدخل كلًا منهما في الآخر بعد ظهوره حتى يذهب فيه فيخفى ولا يبقى له أثر.
قال الحرالي: ولما جعل المتعاقبين من الليل والنهار متوالجين جعل المتباطنين من الحي والميت مخرجين، فما ظهر فيه الموت بطنت فيه الحياة، وما ظهرت فيه الحياة بطن فيه الموت؛ انتهى.
فقال سبحانه وتعالى: {وتخرج الحي} أي من النبات والحيوان {من الميت} منهما {وتخرج الميت} منهما {من الحي} منهما كذلك.
قال الحرالي: فهذه سنة الله وتعالى وحكمته في الكائن القائم وفي الكون الدائر، فأما في الكون الدائر فبإخراج حي الشجر والنجم من موات البذر والعجم، وبظهوره في العيان كان أحكم في البيان مما يقع في الكائن القائم، كذلك الكائن القائم يخرج الحي المؤمن الموقن من الميت الكافر الجاهل {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعده وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} [التوبة: 14] ويخرج الكافر الآبي من المؤمن الراحم {يا نوح أنه ليس من أهلك} [هود: 46] أظهر سبحانه وتعالى بذلك وجوه الإحكام والاشتباه في آيتي خلقه ليكون ذلك آية على ما في أمره، وليشف ذلك عما يظهر من أمر علمه وقدرته على من شاء من عباده كما أظهر في ملائكته وأنيبائه، وكما خصص بما شاء من إظهار عظيم أمره في المثلين الأعظمين: مثل آدم وعيسى عليهما الصلاة والسلام، فأنزلت هذه السورة لبيان الأمر فيما اشتبه على من التبس عليه أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فهو تعالى أظهر من موات الإنسانية ما شاء من الإحياء بإذنه، وأظهر في آدم عليه الصلاة والسلام ما شاء من علمه حين علم آدم الأسماء كلها كذلك أظهر في عيسى عليه الصلاة والسلام ما شاء من قدرته كما أظهر في الخلق ما شاء من ملكه، فملك من شاء ونزع الملك ممن شاء، وأعز من شاء وأذل من شاء، وأظهر بالنهار ما شاء وطمس بالليل ما شاء، وأولج المتقابلين بعضهما في بعض وأخرج المتباطنين بعضهما من بعض- انتهى.
ولما بدأ الآية سبحانه وتعالى مما يقتضي الترغيب بما هو محط أحوال الأنفس من الملك وأنواع الخير ختمها بمثل ذلك مما لا يقوم الملك ولا يطيب العيش إلا به فقال: {وترزق من تشاء} قويًا كان أو ضعيفًا {بغير حساب} أي تعطيه عطاء واسعًا جدًا متصلًا من غير تضييق ولا عسر، كما فعل بأول هذه الأمة على ما كانوا فيه من القلة والضعف حيث أباد بهم الأكاسرة والقياصرة وآتاهم كنوزهم وأخدمهم أبناءهم وأحلهم ديارهم.
وقال الحرالي: ولما ذكر سبحانه وتعالى هذا الإحكام والاشتباه في أمر العلية من الخلق وفيه من الإحكام والاشتباه نحو ما في الإيتاء والنزع ولما فيه من الوزن والإيتاء بقدر ختم بأعزيه وهو الإرزاق الذي لا يقع على وزن ولا يكون بحساب، وفيه إشعار بالإرزاق الختمي الذي يكون في آخر اليوم المحمدي للذين يؤتيهم الله سبحانه وتعالى ما شاء من ملكه وعزه وسعة رزقه بغير حساب، فكما ختم الملك لبني إسرائيل بملك سليمان عليه الصلاة والسلام في قوله سبحانه وتعالى: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} [ص: 39] كذلك يختم لهذه الأمة بأن يرزقهم بغير حساب حين تلقي الأرض بركاتها وتتطهر من فتنتها، فتقع المكنة في ختم اليوم المحمدي بالهداية والهدنة كما انقضت لبني إسرائيل بالملك والقوة- انتهى. اهـ.