فصل: فصل في الكبرياء والعظمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن للجنة ثمانية أبواب، ففي هذا المقام انفتح لك باب من أبواب الجنة، وهو باب المعرفة، والباب الثاني: هو باب الذكر وهو قولك {بسم الله الرحمن الرحيم}، والباب الثالث: باب الشكر، وهو قولك {الحمد لله رب العالمين} والباب الرابع: باب الرجاء، وهو قولك الرحمن الرحيم، والباب الخامس: باب الخوف، وهو قولك {مالك يوم الدين}، والباب السادس: باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية، وهو قولك {إياك نعبد وإياك نستعين}، والباب السابع: باب الدعاء والتضرع كما قال: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62] وقال: {ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وهو هاهنا قولك {اهدنا الصراط المستقيم}، والباب الثامن: باب الاقتداء بالأرواح الطيبة الطاهرة والاهتداء بأنوارهم، وهو قولك {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}، وبهذا الطريق إذا قرأت هذه السورة.
ووقفت على أسرارها انفتحت لك ثمانية أبواب الجنة، وهو المراد من قوله تعالى: {جنات عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب} [ص: 50] فجنات المعارف الربا نية انفتحت أبوابها بهذه المقاليد الروحانية، فهذا هو الإشارة إلى ما حصل في الصلاة من المعراج الروحاني.
وأما المعراج الجسماني فالمرتبة الأولى أن تقوم بين يدي الله مثل قيام أصحاب الكهف، وهو قوله تعالى: {إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السموات والأرض} [الكهف: 14] بل قم قيام أهل القيامة وهو قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} [المطففين: 6] ثم اقرأ سبحانك اللهم، وبعده وجهت وجهي، وبعده الفاتحة، وبعدها ما تيسر لك من القرآن، واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك حتى تستحقرها وإياك أن تنظر من عبادتك إلى الله، فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين، وهذا سر قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
واعلم أن النفس الآن جارية مجرى خشبة عرضتها على نار خوف الجلال فلانت، فاجعلها محنية بالركوع فقل: سمع الله لمن حمده، ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى، فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بنهاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو، وقل: سبحان ربي الأعلى، فإذا أتيت بالسجدة الثانية فقد حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة: الركوع الواحد، والسجودان، وبها تنجو من العقبات الثلاث المهلكة، فبالركوع تنجو عن عقبة الشهوات، وبالسجود الأول تنجو عن عقبة الغضب الذي هو رئيس المؤذيات، وبالسجود الثاني تنجو عن عقبة الهوى الذي هو الداعي إلى كل المهلكات والمضلات، فإذا تجاوزت هذه العقبات وتخلصت عن هذه الدركات فقد وصلت إلى الدرجات العاليات، وملكت الباقيات الصالحات، وانتهيت إلى عتبة جلال مدبر الأرض والسموات، فقل عند ذلك التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، فالتحيات المباركات باللسان، والصلوات بالأركان، والطيبات بالجنان وقوة الإيمان، ثم في هذا المقام يصعد نور روحك وينزل نور روح محمد صلى الله عليه وسلم فيتلاقى الروحان، ويحصل هناك الروح والراحة والريحان، فلابد لروح محمد عليه الصلاة والسلام من محمدة وتحية، فقل: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فعند ذلك يقول محمد عليه الصلاة والسلام: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، وكأنه قيل لك فهذه الخيرات والبركات بأي وسيلة وجدتها؟ وبأي طريق وصلت إليها؟ فقل بقولي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فقيل لك أن محمدًا هو الذي هداك إليه، فأي شيء هديتك له؟ فقل: اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد، فقيل لك: إن إبراهيم هو الذي طلب من الله أن يرسل إليك مثل هذا الرسول فقال: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولًا مّنْهُمْ} [البقرة: 129] فما جزاؤك له؟ فقل: كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، فيقال لك: فكل هذه الخيرات من محمد أو من إبراهيم أو من الله؟ فقل: بل من الحميد المجيد إنك حميد مجيد.
ثم إن العبد إذا ذكر الله بهذه الأثنية والمدائح ذكره الله تعالى في محافل الملائكة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن الله عزّ وجلّ: «إذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى هذا العبد فقال الله: إن ملائكة السموات اشتاقوا إلى زيارتك وأحبوا القرب منك، وقد جاؤك فابدأ بالسلام عليهم لتحصل لك فيه مرتبة السابقين، فيقول العبد عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فلا جرم أنه إذا دخل الجنة الملائكة يدخلون عليه من كل باب فيقولون: {سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} [الرعد: 24]». اهـ.

.فصل في الكبرياء والعظمة:

قال الفخر:
أعظم المخلوقات جلالة ومهابة المكان والزمان:
أما المكان فهو الفضاء الذي لا نهاية له، والخلاء الذي لا غاية له، وأما الزمان فهو الامتداد المتوهم الخارج من قعر ظلمات عالم الأزل إلى ظلمات عالم الأبد، كأنه نهر خرج من قعر جبل الأزل وامتد حتى دخل في قعر جبل الأبد فلا يعرف لانفجاره مبدأ، ولا لاستقراره منزل، فالأول والآخر صفة الزمان، والظاهر والباطن صفة المكان، وكمال هذه الأربعة الرحمن الرحيم، فالحق سبحانه وسع المكان ظاهرًا وباطنًا، ووسع الزمان أولًا وآخرًا، وإذا كان مدبر المكان والزمان هو الحق تعالى كان منزهًا عن المكان والزمان.
إذا عرفت هذا فنقول: الحق سبحانه وتعالى له عرش، وكرسي، فعقد المكان بالكرسي فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات والأرض} [البقرة: 255] وعقد الزمان بالعرش فقال: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} [هود: 7] لأن جري الزمان يشبه جري الماء، فلا مكان وراء الكرسي، ولا زمان وراء العرش، فالعلو صفة الكرسي وهو قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات والأرض}.
والعظمة صفة العرش وهو قوله: {فَقُلْ حَسْبِىَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} [التوبة: 129] وكمال العلو والعظمة لله كما قال: {وَلاَ يُؤَدّهِ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العلى العظيم} [البقرة: 255].
واعلم أن العلو والعظمة درجتان من درجات الكمال، إلا أن درجة العظمة أكمل وأقوى من درجة العلو، وفوقهما درجة الكبرياء قال تعالى: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري»، ولا شك أن الرداء أعظم من الإزار، وفوق جميع هذه الصفات بالرتبة والشرف صفة الجلال، وهي تقدسه في حقيقته المخصوصة وهويته المعينة عن مناسبة شيء من الممكنات، وهو لتلك الهوية المخصوصة استحق صفة الإلهية، فلهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام: «ألظوا بياذا الجلال والإكرام»، وقال: {ويبقى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27] وقال: {تبارك اسم رَبّكَ ذِى الجلال والإكرام} [الرحمن: 78] إذا عرفت هذا الأصل فاعلم أن المصلى إذا قصد الصلاة صار من جملة من قال الله في صفتهم: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52، الكهف: 28] ومن أراد الدخول على السلطان العظيم وجب عليه أن يطهر نفسه من الأدناس والأنجاس، ولهذا التطهير مراتب: المرتبة الأولى: التطهير من دنس الذنوب بالتوبة، كما قال تعالى: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحًا} [التحريم: 8] ومن كان في مقام الزهد كانت طهارته من الدنيا حلالها وحرامها، ومن كان في مقام الإخلاص كانت طهارته من الالتفات إلى أعماله، ومن كان في مقام المحسنين كانت طهارته من الالتفات إلى حسناته، ومن كان في مقام الصديقين كانت طهارته من كل ما سوى الله، وبالجملة فالمقامات كثيرة والدرجات متفاوتة كأنها غير متناهية، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} [الروم: 30] فإذا أردت أن تكون من جملة من قال الله فيهم: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} فقم قائمًا واستحضر في نفسك جميع مخلوقات الله تعالى من عالم الأجسام والأرواح وذلك بأن تبتدئ من نفسك وتستحضر في عقلك جملة أعضائك البسيطة والمركبة وجميع قواك الطبيعية والحيوانية والإنسانية، ثم استحضر في عقلك جملة ما في هذا العالم من أنواع المعادن والنبات والحيوان من الإنسان وغيره، ثم ضم إليه البحار والجبال والتلال والمفاوز وجملة ما فيها من عجائب النبات والحيوان وذرات الهباء، ثم ترق منها إلى سماء الدنيا على عظمها واتساعها، ثم لا تزال ترقى من سماء إلى سماء حتى تصل إلى سدرة المنتهى والرفرف واللوح والقلم والجنة والنار والكرسي والعرش العظيم، ثم انتقل من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح واستحضر في عقلك جميع الأرواح الأرضية السفلية البشرية وغير البشرية، واستحضر جميع الأرواح المتعلقة بالجبال والبحار مثل ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام عن ملك الجبال وملك البحار ثم استحضر ملائكة سماء الدنيا وملائكة جميع السموات السبع كما قال عليه الصلاة والسلام: «ما في السموات موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو قاعد» واستحضر جميع الملائكة الحافين حول العرش وجميع حملة العرش الكرسي ثم انتقل منها إلى ما هو خارج هذا العالم كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] فإذا استحضرت جميع هذه الأقسام من الروحانيات والجسمانيات فقل: الله أكبر، وتريد بقولك: الله الذات التي حصل بإيجادها وجود هذه الأشياء وحصلت لها كمالاتها في صفاتها وأفعالها، وتريد بقولك أكبر أنه منزه عن مشابهتها ومشاكلتها، بل هو منزه عن أن يحكم العقل بجواز مقايسته بها ومناسبته إليها فهذا هو المراد من قوله في أول الصلاة الله أكبر.
والوجه الثاني: في تفسير هذا التكبير: أنه عليه الصلاة والسلام قال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» فتقول: الله أكبر من أن لا يراني ومن أن لا يسمع كلامي.
والوجه الثالث: أن يكون المعنى الله أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأوهامهم وأفهامهم، قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: التوحيد أن لا تتوهمه.
الوجه الرابع: أن يكون المعنى الله أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته، فطاعاتهم قاصرة عن خدمته، وثنائهم قاصر عن كبريائه، وعلومهم قاصرة عن كنه صمديته.
واعلم أيها العبد أنك لو بلغت إلى أن يحيط عقلك بجميع عجائب عالم الأجسام والأرواح فإياك أن تحدثك نفسك بأنك بلغت مبادئ ميادين جلال الله فضلًا عن أن تبلغ الغور والمنتهى ونعم ما قال الشاعر:
أساميا لم تزده معرفة ** وإنما لذة ذكرناها

ومن دعوات رسول الله عليه السلام وثنائه على الله: «لا ينالك غوص الفكر، ولا ينتهي إليك نظر ناظر، ارتفعت عن صفة المخلوقين صفات قدرتك، وعلا عن ذلك كبرياء عظمتك» وإذا قلت الله أكبر فاجعل عين عقلك في آفاق جلال الله وقل: سبحانك اللهم وبحمدك، ثم قل: وجهت وجهي، ثم انتقل منها إلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لك تبصر فيها عجائب عالم الدنيا والآخرة، وتطالع فيها أنوار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا والأديان السالفة والمذاهب الماضية، وأسرار الكتب الإلهية والشرائع النبوية، وتصل إلى الشريعة، ومنها إلى الطريقة، ومنها إلى الحقيقة، وتطالع درجات الأنبياء والمرسلين، ودركات الملعونين والمردودين والضالين، فإذا قلت {بسم الله الرحمن الرحيم} فابصر به الدنيا إذ باسمه قامت السموات والأرضون وإذا قلت {الحمد لله رب العالمين} أبصرت به الآخرة إذ بكلمة الحمد قامت الآخرة كما قال: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس: 10] وإذا قلت الرحمن الرحيم فابصر به عالم الجمال، وهو الرحمة والفضل والإحسان، وإذا قلت {مالك يوم الدين} فأبصر به عالم الجلال وما يحصل فيه من الأحوال والأهوال، وإذا قلت إياك نعبد فأبصر به عالم الشريعة، وإذا قلت وإياك نستعين فابصر به الطريقة، وإذا قلت {اهدنا الصراط المستقيم} فابصر به الحقيقة، وإذا قلت {صراط الذين أنعمت عليهم} فابصر به درجات أرباب السعادات وأصحاب الكرامات من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وإذا قلت {غير المغضوب عليهم} فابصر به مراتب فساق أهل الآفاق، وإذا قلت {ولا الضالين} فابصر به دركات أهل الكفر والشقاق والخزي والنفاق على كثرة درجاتها وتباين أطرافها وأكنافها.
ثم إذا انكشفت لك هذه الأحوال العالية والمراتب السامية فلا تظنن أنك بلغت الغور والغاية، بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء، ولنفسك بالذلة والمسكنة، وقل: الله أكبر، ثم أنزل من صفة الكبرياء إلى صفة العظمة، فقل: سبحان ربي العظيم، وإن أردت أن تعرف ذرة من صفة العظمة فاعرف أنا بينا أن العظمة صفة العرش، ولا يبلغ مخلوق بعقله كنه عظمة العرش وإن بقي إلى آخر أيام العالم، ثم اعرف أن عظمة العرش في مقابلة عظمة الله كالقطرة في البحر فكيف يمكنك أن تصل إلى كنه عظمة الله؟ ثم هاهنا سر عجيب وهو أنه ما جاء سبحان ربي الأعظم وإنما جاء سبحان ربي العظيم، وما جاء سبحان ربي العالي وإنما جاء سبحان ربي الأعلى، ولهذا التفاوت أسرار عجيبة لا يجوز ذكرها، فإذا ركعت وقلت سبحان ربي العظيم فعد إلى القيام ثانيًا، وادع لمن وقف موقفك وحمد حمدك وقل: سمع الله لمن حمده، فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك وهو المراد من قوله عليه السلام: «لا يزال الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم» فإن قيل: ما السبب في أنه لم يحصل في هذا المقام التكبير؟