فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي:

ويقال: الحب من الله عصمته وتوفيقه، والحب من العباد طاعة كما قال القائل:
تَعْصي الإله وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّه ** هَذَا لَعَمْرِي في القِيَاسِ بديعُ

لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأَطَعْتَه ** إِنَّ المُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطيعُ

.قال الفخر:

المتكلمون مصرون على أن محبة الله تعالى عبارة عن محبة إعظامه وإجلاله، أو محبة طاعته، أو محبة ثوابه، قالوا: لأن المحبة من جنس الإرادة، والإرادة لا تعلق لها إلا بالحوادث وإلا بالمنافع.
واعلم أن هذا القول ضعيف، وذلك لأنه لا يمكن أن يقال في كل شيء أنه إنما كان محبوبًا لأجل معنى آخر وإلا لزم التسلسل والدور، فلابد من الانتهاء إلى شيء يكون محبوبًا بالذات، كما أنا نعلم أن اللذة محبوبة لذاتها، فكذلك نعلم أن الكمال محبوب لذاته، وكذلك أنا إذا سمعنا أخبار رستم واسفنديار في شجاعتهما مال القلب إليهما مع أنا نقطع بأنه لا فائدة لنا في ذلك الميل، بل ربما نعتقد أن تلك المحبة معصية لا يجوز لنا أن نصر عليها، فعلمنا أن الكمال محبوب لذاته، كما أن اللذة محبوبة لذاتها، وكمال الكمال لله سبحانه وتعالى، فكان ذلك يقتضي كونه محبوبًا لذاته من ذاته ومن المقربين عنده الذين تجلى لهم أثر من آثار كماله وجلاله قال المتكلمون: وأما محبة الله تعالى للعبد فهي عبارة عن إرادته تعالى إيصال الخيرات والمنافع في الدين والدنيا إليه. اهـ.

.قال ابن عطية:

ومحبة الله للعبد أمارتها للمتأمل أن يرى العبد مهديًا مسددًا ذا قبول في الأرض، فلطف الله بالعبد ورحمته إياه هي ثمرة محبته، وبهذا النظر يتفسر لفظ المحبة حيث وقعت من كتاب الله عز وجل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

المحبة: انفعال نفساني ينشأ عند الشعور بحسن شيء: من صفات ذاتية. أو إحسان، أو اعتقاد أنه يحب المستحسن ويجر إليه الخير. فإذا حصل ذلك الانفعال عقبه ميل وانجذاب إلى الشيء المشعور بمحاسنه، فيكون المنفعل محبا، ويكون المشعور بمحاسنه محبوبا، وتعد الصفات التي أوجبت هذا الانفعال جمالا عند المحب، فإذا قوي هذا الانفعال صار تهيجا نفسانيا، فسمي عشقا للذوات، وافتنانا بغيرها.
والشعور بالحسن الموجب للمحبة يستمد من الحواس في إدراك المحاسن الذاتية المعروفة بالجمال، ويستمد أيضا من التفكر في الكمالات المستدل عليها بالعقل وهي المدعوة بالفضيلة، ولذلك يحب المؤمنون الله تعالى، ويحبون النبي صلى الله عليه وسلم، تعظيما للكمالات، واعتقادا بأنهما يدعوانهم إلى الخير، ويحب الناس أهل الفضل الأولين كالأنبياء والحكماء والفاضلين، ويحبون سعاة الخير من الحاضرين وهم لم يلقوهم ولا رأوهم.
ويرجع الجمال والفضيلة إلى إدراك النفس ما يلائمها: من الأشكال، والأنغام، والمحسوسات، والخلال. وهذه الملاءمة تكون حسية لأجل مناسبة الطبع كملاءمة البرودة في الصيف، والحر في الشتاء، وملاءمة اللين لسليم الجلد، والخشن لمن به داعي حكة، أو إلى حصول منافع كملاءمة الإحسان والإغاثة. وتكون فكرية لأجل غايات نافعة كملاءمة الدوام للمريض، والتعب لجاني الثمرة، والسهر للمتفكر في العلم، وتكون لأجل الإلف، وتكون لأجل الاعتقاد المحض، كتلقي الناس أن العلم فضيلة، ويدخل في هذين محبة الأقوام عوائدهم من غير تأمل في صلاحها، وقد تكون مجهولة السبب كملاءمة الأشكال المنتظمة للنفوس وملاءمة الألوان اللطيفة.
وفي جميع ذلك تستطيع أن تزيد اتضاحا بأضدادها كالأشكال الفاسدة، والأصوات المنكرة، والألوان الكريهة، دائما، أو في بعض الأحوال، كاللون الأحمر يراه المحموم.
ولم يستطع الفلاسفة توضيح علة ملاءمة بعض ما يعبر عنه بالجمال للنفوس: ككون الذات جميلة أو قبيحة الشكل، وكون المربع أو الدائرة حسنا لجئ النفس، والشكل المختل قبيحا، ومع الاعتراف باختلاف الناس في بعض ما يعبر عنه بالجمال والقبح كما قال أبو الطيب:
ضروب الناس عشاق ضروبا

وأن بعض الناس يستجيد من الملابس ما لا يرضى به الآخر ويستحسن من الألوان ما يستقبحه الآخر، ومع ذلك كله فالمشاهد أن معظم الأحوال لا يختلف فيها الناس السالم والأذواق.
فأما المتقدمون فقال سقراط: سبب الجمال حب النفع، وقال أفلاطون: الجمل أمر إلهي أزلي موجود في عالم العقل غير قابل للتغير قد تمتعت الأرواح به قبل هبوطها إلى الأجسام فلما نزلت إلى الأجسام صارت مهما رأت شيئا على مثال ما عهدته في العوالم العقلية وهي عالم المثال مالت إليه لأنه مألوفها من قبل هبوطها. وذهب الطبائعيون: إلى أن الجمال شيء ينشأ عندنا الإحساس بالحواس.
ورأيت في كتاب جامع أسرار الطب للحكيم عبد الملك ابن زهر القرطبي العشق الحسي إنما هو ميل النفس إلى الشيء الذي تستحسنه وتستلذه، وذلك أن الروح النفساني الذي مسكنه الدماغ قريب من النور البصري الذي يحيط بالعين ومتصل بمؤخر الدماغ وهو الذكر فإذا نظرت العين إلى الشيء المستحسن انضم النوري البصري وارتعد فبذلك الانضمام والارتعاد يتصل بالروح النفساني فيقبله قبولا حسنا ثم يودعه الذكر فيوجب ذلك المحبة. ويشترك أيضا بالروح الحيواني الذي مسكنه القلب لاتصاله بأفعاله في الجسد كله فحينئذ تكون الفكرة والهم والسهر.
والحق أن منشأ الشعور بالجمال قد يكون عن الملائم، وعن التأثر العصبي، وهو يرجع إلى الملائم أيضا كتأثر المحموم باللون الأحمر، وعن الإلف والعادة بكثرة الممارسة، وهو يرجع إلى الملائم كما قال ابن الرومي:
وحبب أوطان الرجال إليهم ** مآرب قضاها الشباب هنالك

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ** عهود الصبا فيها فحنوا لذلك

وعن ترقب الخير والمنفعة وهو يرجع إلى الملائم، وعن اعتقاد الكمال والفضيلة وهو يرجع إلى المألوف الراجع إلى الممارسة بسبب ترقب الخير من صاحب الكمال والفضيلة.
ووراء ذلك كله شيء من الجمال ومن المحبة لا يمكن تعليله وهو استحسان الذوات الحسنة واستقباح الأشياء الموحشة فنرى الطفل الذي لا إلف له بشيء ينفر من الأشياء التي نراها وحشة.
وقد اختلف المتقدمون في أن المحبة والجمال هل يقصران على المحسوسات: فالذين قصروهما على المحسوسات لم يثبتوا غير المحبة المادية، والذين لم يقصروهما عليها أثبتوا المحبة الرمزية، أعني المتعلقة بالأكوان غير المحسوسة كمحبة العبد لله تعالى، وهذا هو الحق، وقال به من المتقدمين أفلاطون، ومن المسلمين الغزالي وفخر الدين وقد أضيفت هذه المحبة إلى أفلاطون، فقيل محبة أفلاطونية: لأنه بحث عنها وعللها فإننا نسمع بصفات مشاهير الرجال مثل الرسل وأهل الخير والذين نفعوا الناس، والذين اتصفوا بمحامد الصفات كالعلم والكرم والعدل، فنجد من أنفسنا ميلا إلى ذكرهم ثم يقوى ذلك الميل حتى يصير محبة منا إياهم مع أننا ما عرفناهم، ألا ترى أن مزاولة كتب الحديث والسيرة مما يقوي محبة المزاول في الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك صفات الخالق تعالى، لما كانت كلها كمالات وإحسانا إلينا وإصلاحا لفاسدنا، أكسبنا اعتقادها إجلالا لموصوفها، ثم يذهب ذلك الإجلال يقوى إلى أن يصير محبة وفي الحديث: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة لإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» فكانت هذه الثلاثة من قبيل المحبة ولذلك جعل عندها وجدان حلاة الإيمان أي وجدانه جميلا عند معتقده.
فأصحاب الرأي الأول يرون تعليق المحبة بذات الله في هذه الآية ونحوها مجازا بتشبيه الرغبة في مرضاته بالمحبة، وأصحاب الرأي الثاني يرونه حقيقة وهو الصحيح.
ومن آثار المحبة تطلب القرب من المحبوب والاتصال به واجتناب فراقه. ومن آثارها محبة ما يسره ويرضيه، واجتناب ما يغضبه، فتعليق لزوم اتباع الرسول على محبة الله تعالى لأن الرسول دعا إلى ما يأمر الله به وإلى إفراد الوجهة إليه، وذلك كمال المحبة.
وأما إطلاق المحبة في قوله: {يُحْبِبْكُمُ الله} فهو مجاز لا محالة أريد به لازم المحبة وهو الرضى وسوق المنفعة ونحو ذلك من تجليات لله يعلمها سبحانه. وهما المعبر عنهما بقوله: {يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فإن ذلك دليل المحبة وفي القرآن {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18].
وتعليق محبة الله إياهم على {فاتَبُعُونِي} المعلق على قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله} ينتظم منه قياس شرطي اقتراني. ويدل على الحب المزعوم إذا لم يكن معه اتباع الرسول فهو حب كاذب، لأن المحب لمن يحب مطيع، ولأن ارتكاب ما يكرهه المحبوب إغاضة له وتلبس بعدوه وقد قال أبو الطيب:
أأحبه وأحب فيه ملامة ** إن الملامة فيه من أعدائه

فعلم أن حب العدو لا يجامع الحب وقد قال العتابي:
تود عدوي ثم تزعم أنني ** صديقك ليس النوك عنك بعازب

.قال الفخر:

القوم كانوا يدعون أنهم كانوا محبين لله تعالى، وكانوا يظهرون الرغبة في أن يحبهم الله تعالى، والآية مشتملة على أن الإلزام من وجهين:
أحدهما: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني، لأن المعجزات دلّت على أنه تعالى أوجب عليكم متابعتي.
الثاني: إن كنتم تحبون أن يحبكم الله فاتبعوني لأنكم إذا اتبعتموني فقد أطعتم الله، والله تعالى يحب كل من أطاعه، وأيضا فليس في متابعتي إلا أني دعوتكم إلى طاعة الله تعالى وتعظيمه وترك تعظيم غيره، ومن أحب الله كان راغبًا فيه، لأن المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب، والإعراض بالكلية عن غير المحبوب. اهـ.
فصل:
قال الفخر:
خاض صاحب الكشاف في هذا المقام في الطعن في أولياء الله تعالى وكتب هاهنا ما لا يليق بالعاقل أن يكتب مثله في كتب الفحش فهب أنه اجترأ على الطعن في أولياء الله تعالى فكيف اجترأ على كتبه مثل ذلك الكلام الفاحش في تفسير كلام الله تعالى، نسأل الله العصمة والهداية، ثم قال تعالى: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} والمراد من محبة الله تعالى له إعطاؤه الثواب، ومن غفران ذنبه إزالة العقاب، وهذا غاية ما يطلبه كل عاقل، ثم قال: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يعني غفور في الدنيا يستر على العبد أنواع المعاصي رحيم في الآخرة بفضله وكرمه. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} الآية.
صرح تعالى: في هذه الآية الكريمة أن اتباع نبيه موجب لمحبته جلا وعلا ذلك المتبع، وذلك يدل على أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي عين طاعته تعالى، وصرح بهذا المدلول في قوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7].
تنبيه: يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن علامة المحبة الصادقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم هي اتباعه صلى الله عليه وسلم، فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر. إذ لو كان محبًا له لأطاعه، ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة ومنه قول الشاعر:
لو كان حبك صادقًا لأطعته ** إن المحب لمن يحب مطيع

وقول ابن أبي ربيعة المخزومي:
ومن لو نهاني من حبه ** عن الماء عطشان لم أشرب

وقد أجاد من قال:
قالت: وقد سألت عن حال عاشقها ** بالله صفه ولا تنقص ولا تزد

فقلت: لو كان رهن الموت من ظمأ ** وقلت: قف عن ورود الماء لم يرد

.قال ابن كثير:

هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عليه أمْرُنَا فَهُوَ رَدُّ» ولهذا قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله} أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض الحكماء العلماء: ليس الشأن أن تُحِبّ، إنما الشأن أن تُحَبّ. اهـ.

.قال السعدي:

هذه الآية فيها وجوب محبة الله، وعلاماتها، ونتيجتها، وثمراتها، فقال: {قل إن كنتم تحبون الله} أي: ادعيتم هذه المرتبة العالية، والرتبة التي ليس فوقها رتبة فلا يكفي فيها مجرد الدعوى، بل لابد من الصدق فيها، وعلامة الصدق اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، في أقواله وأفعاله، في أصول الدين وفروعه، في الظاهر والباطن، فمن اتبع الرسول دل على صدق دعواه محبة الله تعالى، وأحبه الله وغفر له ذنبه، ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته، ومن لم يتبع الرسول فليس محبا لله تعالى، لأن محبته لله توجب له اتباع رسوله، فما لم يوجد ذلك دل على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها، مع أنها على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها، وبهذه الآية يوزن جميع الخلق، فعلى حسب حظهم من اتباع الرسول يكون إيمانهم وحبهم لله، وما نقص من ذلك نقص. اهـ.

.قال الثعالبي:

قال الشيخُ العارفُ بالله ابْنُ أبي جَمْرَةَ رضي الله عنه: مِنْ علامةِ السعادةِ للشخْصِ: أن يكون مُعْتَنِيًا بمعرفة السُّنَّة في جميعِ تصرُّفاته، والذي يكونُ كذلك هو دائمٌ في عبادة؛ في كلِّ حركاته وسكناته، وهذا هو طريق أهل الفَضْلِ؛ حتى حُكِيَ عن بعضهم؛ أنه لم يأكُلِ البطِّيخَ سنين؛ لَمَّا لَمْ يبلُغْه كيفيَّةُ السُّنَّة في أَكْله، وكيف لاَ، والله سبحانه يَقُولُ: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} والاِتباعية الكاملةُ إِنما تصحُّ بأنْ تكون عامَّة في كلِّ الأشياء، يعني: إِلا ما خصَّصه به الدليلُ، جعلنا الله من أهْلها في الدَّارَيْن. انتهى.