فصل: المسألة السادسة: (تسلط الجن على الإنس):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة السادسة: (تسلط الجن على الإنس):

المشهور أن الجن لهم قدرة على النفوذ في بواطن البشر، وأنكر أكثر المعتزلة ذلك، أما المثبتون فقد احتجوا بوجوه: الأول: أنه إن كان الجن عبارة عن موجود ليس بجسم ولا جسماني فحينئذٍ يكون معنى كونه قادرًا على النفوذ في باطنه أنه يقدر على التصرف في باطنه، وذلك غير مستبعد، وإن كان عبارة عن حيوان هوائي لطيف نفاذ كما وصفناه كان نفاذه في باطن بني آدم أيضًا غير ممتنع قياسًا على النفس وغيره.
الثاني: قوله تعالى: {لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} [البقرة: 275] الثالث: قوله عليه السلام: «إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم».
أما المنكرون فقد احتجوا بأمور: الأول: قوله تعالى حكاية عن إبليس لعنه الله: {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} [إبراهيم: 22] صرح بأنه ما كان له على البشر سلطان إلا من الوجه الواحد، وهو إلقاء الوسوسة والدعوة إلى الباطل.
الثاني: لا شك أن الأنبياء والعلماء المحققين يدعون الناس إلى لعن الشيطان والبراءة منه، فوجب أن تكون العداوة بين الشياطين وبينهم أعظم أنواع العداوة، فلو كانوا قادرين على النفوذ في بواطن البشر وعلى إيصال البلاء والشر إليهم لوجب أن يكون تضرر الأنبياء والعلماء منهم أشد من تضرر كل أحد، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه باطل.

.المسألة السابعة: (صفة الملائكة):

اتفقوا على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأما الجن والشياطين فإنهم يأكلون وشربون، قال عليه السلام في الروث والعظم: «إنه زاد إخوانكم من الجن» وأيضًا فإنهم يتوالدون قال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى} [الكهف: 50].

.المسألة الثامنة في كيفية الوسوسة بناءً على ما ورد في الآثار:

ذكروا أنه يغوص في باطن الإنسان، ويضع رأسه على حبة قلبه، ويلقي إليه الوسوسة واحتجوا عليه بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم، ألا فضيقوا مجاريه بالجوع» وقال عليه السلام: «لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات».
ومن الناس من قال: هذه الأخبار لا بد، من تأويلها، لأنه يمتنع حملها على ظواهرها، واحتج عليه بوجوه: الأول: أن نفوذ الشياطين في بواطن الناس محال؛ لأنه يلزم إما اتساع تلك المجاري أو تداخل تلك الأجسام.
الثاني: ما ذكرنا أن العداوة الشديدة حاصلة بينه وبين أهل الدين، فلو قدر على هذا النفوذ فلم لا يخصهم بمزيد الضرر؟ الثالث: أن الشيطان مخلوق من النار، فلو دخل في داخل البدن لصار كأنه نفذ النار في داخل البدن، ومعلوم أنه لا يحس بذلك.
الرابع: أن الشياطين يحبون المعاصي وأنواع الكفر والفسق، ثم إنا نتضرع بأعظم الوجوه إليهم ليظهروا أنواع الفسق فلا نجد منه أثرًا ولا فائدة، وبالجملة فلا نرى لا من عداوتهم ضررًا ولا من صداقتهم نفعًا.
وأجاب مثبتو الشياطين عن السؤال الأول: بأن على القول بأنها نفوس مجردة فالسؤال زائل، وعلى القول بأنها أجسام لطيفة كالضوء والهواء فالسؤال أيضًا زائل، وعن الثاني: لا يبعد أن يقال: إن الله وملائكته يمنعونهم عن إيذاء علماء البشر، وعن الثالث: أنه لما جاز أن يقول الله تعالى لنار إبراهيم: {يانار كُونِى بَرْدًا وسلاما على إبراهيم} [الأنبياء: 69] فلم لا يجوز مثله هاهنا، وعن الرابع: أن الشياطين مختارون، ولعلهم يفعلون بعض القبائح دون بعض.

.المسألة التاسعة (تحقيق الكلام في الوسوسة):

في تحقيق الكلام في الوسوسة على الوجه الذي قرره الشيخ الغزالي في كتاب (الإحياء)، قال: القلب مثل قبة لها أبواب تنصب إليها الأحوال من كل باب، أو مثل هدف ترمى إليه السهام من كل جانب، أو مثل مرآة منصوبة تجتاز عليها الأشخاص، فتتراءى فيها صورة بعد صورة، أو مثل حوض تنصب إليه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة واعلم أن مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب ساعة فساعة إما من الظاهر كالحواس الخمس، وإما من البواطن كالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة في مزاج الإنسان، فإنه إذا أدرك بالحواس شيئًا حصل منه أثر في القلب، وكذا إذا هاجت الشهوة أو الغضب حصل من تلك الأحوال آثار في القلب، وأما إذا منع الإنسان عن الإدراكات الظاهرة فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى، وينتقل الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال، فالقلب دائمًا في التغير والتأثر من هذه الأسباب، وأخص الآثار الحاصلة في القلب هي الخواطر، وأعني بالخواطر ما يعرض فيه من الأفكار والأذكار، وأعني بها إدراكات وعلومًا إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر، وإنما تسمى خواطر من حيث أنها تخطر بالخيال بعد أن كان القلب غافلًا عنها، فالخواطر هي المحركات للإرادات، والإرادات محركة للأعضاء، ثم هذه الخواطر المحركة لهذه الإرادات تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني إلى ما يضر في العاقبة وإلى ما ينفع أعني ما ينفع في العاقبة فهما خاطران مختلفان، فافتقرا إلى اسمين مختلفين، فالخاطر المحمود يسمى إلهامًا، والمذموم يسمى وسواسًا، ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر أحوال حادثة فلابد لها من سبب، والتسلسل محال، فلابد من انتهاء الكل إلى واجب الوجود، وهذا ملخص كلام الشيخ الغزالي بعد حذف التطويلات منه.

.المسألة العاشرة: (تحقيق كلام الغزالي):

في تحقيق الكلام فيما ذكره الغزالي: اعلم أن هذا الرجل دار حول المقصود إلا أنه لا يحصل الغرض إلا من بعد مزيد التنقيح، فنقول: لابد قبل الخوض في المقصود من تقديم مقدمات.
المقدمة الأولى: لا شك أن هاهنا مطلوبًا ومهروبًا.
وكل مطلوب فأما أن يكون مطلوبًا لذاته أو لغيره، ولا يجوز أن يكون كل مطلوب مطلوبًا لغيره.
وأن يكون كل مهروب مهروبًا عنه لغيره: وإلا لزم إما الدور وإما التسلسل، وهما محالان، فثبت أنه لابد من الاعتراف بوجود شيء يكون مطلوبًا لذاه، وبوجود شيء يكون مهروبًا عنه لذاته.
المقدمة الثانية: إن الاستقراء دل على أن المطلوب بالذات هو اللذة والسرور، والمطلوب بالتبع ما يكون وسيلة إليهما، والمهروب عنه بالذات هو الألم والحزن، والمهروب عنه بالتبع ما يكون وسيلة إليهما.
المقدمة الثالثة: إن اللذيذ عند كل قوة من القوى النفسانية شيء آخر، فاللذيذ عند القوة الباصرة شيء، واللذيذ عند القوة السامعة شيء آخر، واللذيذ عند القوة الشهوانية شيء ثالث، واللذيذ عند القوة الغضبية شيء رابع، واللذيذ عند القوة العاقلة شيء خامس.
المقدمة الرابعة: إن القوة الباصرة إذا أدركت موجودًا في الخارج لزم من حصول ذلك الإدراك البصري وقوف الذهن على ماهية ذلك المرئي، وعند الوقوف عليه يحصل العلم بكونه لذيذًا أو مؤلمًا أو خاليًا عنهما، فإن حصل العلم بكونه لذيذا ترتب على حصول هذا العلم أو الاعتقاد حصول الميل إلى تحصيله، وإن حصل العلم بكونه مؤلمًا ترتب على هذا العلم أو الاعتقاد حصول الميل إلى البعد عنه والفرار منه، فإن لم يحصل العلم بكونه مؤلمًا ولا بكونه لذيذًا لم يحصل في القلب لا رغبة إلى الفرار عنه ولا رغبة إلى تحصيله.
المقدمة الخامسة: إن العلم بكونه لذيذًا إنما يوجب حصول الميل والرغبة في تحصيله إذا حصل ذلك العلم خاليًا عن المعارض والمعاوق، فأما إذا حصل هذا المعارض لم يحصل ذلك الاقتضاء، مثاله إذا رأينا طعامًا لذيذًا فعلمنا بكونه لذيذًا، إنما يؤثر في الإقدام على تناوله إذا لم نعتقد أنه حصل فيه ضرر زائد، أما إذا اعتقدنا أنه حصل فيه ضرر زائد فعند هذا يعتبر العقل كيفية المعارضة والترجيح، فأيهما غلب على ظنه أنه أرجح عمل بمقتضى ذلك الرجحان، ومثال آخر لهذا المعنى: إن الإنسان قد يقتل نفسه وقد يلقي نفسه من السطح العالي، إلا أنه إنما يقدم على هذا العمل إذا اعتقد أنه بسبب تحمل ذلك العمل المؤلم يتخلص عن مؤلم آخر أعظم منه، أو يتوصل به إلى تحصيل منفعة أعلى حالًا منها، فثبت بما ذكرنا أن اعتقاد كونه لذيذًا أو مؤلمًا إنما يوجب الرغبة والنفرة إذا خلا ذلك الاعتقاد عن المعارض.
المقدمة السادسة: في بيان أن التقرير الذي بيناه يدل على أن الأفعال الحيوانية لها مراتب مرتبة ترتيبًا ذاتيًا لزوميًا عقليًا، وذلك لأن هذه الأفعال مصدرها القريب هو القوى الموجودة في العضلات، إلا أن هذه القوى صالحة للفعل وللترك، فامتنع صيرورتها مصدرًا للفعل بدلًا عن الترك، وللترك بدلًا عن الفعل، إلا بضميمة تنضم إليها، وهي الإرادات ثم إن تلك الإرادات إنما توجد وتحدث لأجل العلم بكونها لذيذة أو مؤلمة، ثم إن تلك العلوم إن حصلت بفعل الإنسان عاد البحث الأول فيه، ولزم إما الدور وإما التسلسل وهما محالان، وإما الانتهاء إلى علوم وإدراكات وتصورات تحصل في جوهر النفس من الأسباب الخارجة، وهي إما الاتصالات الفلكية على مذهب قوم أو السبب الحقيقي وهو أن الله تعالى يخلق تلك الاعتقادات أو العلوم في القلب، فهذا تلخيص الكلام في أن الفعل كيف يصدر عن الحيوان.
إذا عرفت هذا فاعلم أن نفاة الشيطان ونفاة الوسوسة قالوا: ثبت أن المصدر القريب للأفعال الحيوانية هو هذه القوى المذكورة في العضلات والأوتار، فثبت أن تلك القوى لا تصير مصادر للفعل والترك إلا عند انضمام الميل والإرادة إليها، وثبت أن تلك الإرادة من لوازم حصول الشعور بكون ذلك الشيء لذيذًا أو مؤلمًا، وثبت أن حصول ذلك الشعور لابد وأن يكون يخلق الله تعالى ابتداء أو بواسطة مراتب شأن كل واحد منها في استلزام ما بعده على الوجه الذي قررناه، وثبت أن ترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبله أم لازم لزومًا ذاتيًا واجبًا، فإنه إذا أحس بالشيء وعرف كونه ملائمًا مال طبعه إليه، وإذا مال طبعه إليه تحركت القوة إلى الطلب، فإذا حصلت هذه المراتب حصل الفعل لا محالة، فلو قدرنا شيطانًا من الخارج وفرضنا أنه حصلت له وسوسة كانت تلك الوسوسة عديمة الأثر؛ لأنه إذا حصلت تلك المراتب المذكورة حصل الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل، وءن لم يحصل مجموع تلك المراتب امتنع حصول الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل، فعلمنا أن القول بوجود الشيطان وبوجود الوسوسة قول باطل، بل الحق أن نقول: إن اتفق حصول هذه المراتب في الطرف النافع سميناها بالإلهام، وإن اتفق حصولها في الطرف الضار سميناها بالوسوسة، هذا تمام الكلام في تقرير الإشكال.
والجواب: أن كل ما ذكرتموه حق وصدق، إلا أنه لا يبعد أن يكون الإنسان غافلًا عن الشيء فإذا ذكره الشيطان ذلك الشيء تذكره، ثم عند التذكر يترتب الميل عليه، ويترتب الفعل على حصول ذلك الميل، فالذي أتى به الشيطان الخارجي ليس إلا ذلك التذكر، وإليه الإشارة بقوله تعالى حاكيًا عن إبليس أنه قال: {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} [إبراهيم: 22] إلا أنه بقي لقائل أن يقول: فالإنسان إنما قدم على المعصية بتذكير الشيطان، فالشيطان إن كان إقدامه على المعصية بتذكير شيطان آخر لزم تسلسل الشياطين، وإن كان عمل ذلك الشيطان ليس لأجل شيطان آخر ثبت أن ذلك الشيطان الأول إنما أقدم على ما أقدم عليه لحصول ذلك الاعتقاد في قلبه، ولابد لذلك الاعتقاد الحادث من سبب، وماذاك إلا الله سبحانه وتعالى، وعند هذا يظهر أن الكل من الله تعالى، فهذا غاية الكلام في هذا البحث الدقيق العميق، وصار حاصل الكلام ما قاله سيد الرسل عليه الصلاة والسلام وهو قوله: «أعوذ بك منك» والله أعلم.

.المسألة الحادية عشرة: (الخواطر والاختلاف فيها):

اعلم أن الإنسان إذا جلس في الخلوة وتواترت الخواطر في قلبه فربما صار بحيث كأنه يسمع في دخل قلبه ودماغه أصواتًا خفية وحروفًا خفية، فكأن متكلمًا يتكلم معه، ومخاطبًا يخاطبه، فهذا أمر وجداني يجده كل أحد من نفسه، ثم اختلف الناس في تلك الخواطر فقالت الفلاسفة إن تلك الأشياء ليست حروفًا ولا أصواتًا، وإنما هي تخيلات الحروف والأصوات، وتخيل الشيء عبارة عن حضور رسمه ومثاله في الخيال، وهذا كما أنا إذا تخيلنا صور الجبال والبحار والأشخاص، فأعيان تلك الأشياء غير موجودة في العقل والقلب، بل الموجود في العقل والقلب صورها وأمثلتها ورسومها، وهي على سبيل التمثيل جارية مجرى الصورة المرتسمة في المرآة، فإنا إذا أحسسنا في المرآة صورة الفلك والشمس والقمر فليس ذلك لأجل أنه حضرت ذوات هذه الأشياء في المرآة فإن ذلك محال، وإنما الحاصل في المرآة رسوم هذه الأشياء وأمثلتها وصورتها، وإذا عرفت هذا في تخيل المبصرات فاعلم أن الحال في تخيل الحروف والكلمات المسموعة كذلك، فهذا قول جمهور الفلاسفة، ولقائل أن يقول: هذا الذي سميته بتخيل الحروف والكلمات هل هو مساوٍ للحرف والكلمة في الماهية أو لا؟ فإن حصلت المساواة فقد عاد الكلام إلى أن الحاصل في الخيال حقائق الحروف والأصوات، وإلى أن الحاصل في الخيال عند تخيل البحر والسماء حقيقة البحر والسماء، وإن كان الحق هو الثاني وهو أن الحاصل في الخيال شيء آخر مخالف للمبصرات والمسموعات فحينئذٍ يعود السؤال وهو: أنا كيف نجد من أنفسنا صور هذه المرئيات، وكيف نجد من أنفسنا هذه الكلمة والعبارات وجدانًا لا نشك أنها حروف متوالية على العقل وألفاظ متعاقبة عل الذهن، فهذا منتهى الكلام في كلام الفلاسفة، أما الجمهور الأعظم من أهل العلم فإنهم سلموا أن هذه الخواطر المتوالية المتعاقبة حروف وأصوات حقيقة.
واعلم أن القائلين بهذا القول قالوا: فاعل هذه الحروف والأصوات إما ذلك الإنسان أو إنسان آخر، وإما شيء آخر روحاني مباين يمكنه إلقاء هذه الحروف والأصوات إلى هذا الإنسان، سواء قيل إن ذلك المتكلم هو الجن والشياطين أو الملك، وإما أن يقال: خالق تلك الحروف والأصوات هو الله تعالى: أما القسم الأول وهو أن فاعل هذه الحروف والأصوات هو ذلك الإنسان فهذا قول باطل، لأن الذي يحصل باختيار الإنسان يكون قادرًا على تركه، فلو كان حصول هذه الخواطر بفعل الإنسان لكان الإنسان إذا أراد دفعها أو تركها لقدر عليه، ومعلوم أنه لا يقدر على دفعها، فإنه سواء حاول فعلها أو حاول تركها فتلك الخواطر تتوارد على طبعه وتتعاقب على ذهنه بغير اختياره، وأما القسم الثاني وهو أنها حصلت بفعل إنسان آخر فهو ظاهر الفساد، ولما بطل هذان القسمان بقي الثالث وهي أنها من فعل الجن أو الملك أو من فعل الله تعالى.
أما الذين قالوا إن الله تعالى لا يجوز أن يفعل القبائح فاللائق بمذهبهم أن يقولوا أن هذه الخواطر الخبيثة ليست من فعل الله تعالى، فبقي أنها من أحاديث الجن والشياطين، وأما الذين قالوا أنه لا يقبح من الله شيء فليس في مذهبهم مانع يمنعهم من إسناد هذه الخواطر إلى الله تعالى.
واعلم أن الثنوية يقولون: للعالم إلهان: أحدهما: خير وعسكره الملائكة، والثاني: شرير وعسكره الشياطين، وهما يتنازعان أبدًا كل شيء في هذا العالم، فلكل واحد منهما تعلق به، والخواطر الداعية إلى أعمال الخير إنما حصلت من عساكر الله، والخواطر الداعية إلى أعمال الشر إنما حصلت من عساكر الشيطان، واعلم أن القول بإثبات الإلهين قول باطل فاسد، على ما ثبت فساده بالدلائل، فهذا منتهى القول في هذا الباب.