فصل: قال ابن عادل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عادل:

قوله: {إلاَّ رَمْزًا} فيه وجهان:
أحدهما: أنه استثناء منقطع؛ لأن الرمز ليس من جنس الكلام، إذ الرمز الإشارة بعَيْن، أو حاجب أو نحوهما، ولم يذكر أبو البقاء غيره.
وبه بدأ ابن عطية مختارًا له، فإنه قال: والمراد بالكلام- في الآية- إنما هو النطق باللسأن لا الإعلام بما في النفس، فحقيقة هذا الاستثناء، منقطع، ثم قال: وذهب الفقهاءُ إلى أن الإشارة ونحوها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها؛ فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلًا.
والوجه الثاني: أنه متصل؛ لأن الكلام لغة يطلق بإزاء معانٍ: الرمز والإشارة من جملتها.
أنشدوا: [الطويل]
إذَا كَلَّمَتْنِي بِالْعُيُونِ الْفَوَاتِرِ ** رَدَدتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوَادِرِ

وقال آخر: [الطويل]
أرَادَتْ كَلاَمًا فَاتَّقَتْ مِنْ رَقِيبِهَا ** فَلَمْ يَكُ إلاَّ وَمْؤُهَا بِالْحَوَاجِبِ

وهو مستعمل، قال حبيب: [البسيط]
كَلَّمْتُهُ بِجُفُونٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ ** فَكَانَ مِنْ رَدِّهِ مَا قَالَ حَاجِبُهُ

وبهذا الوجه بدأ الزمخشريُّ مختارًا له، قال: لما أدى مؤدَّى الكلام، وفُهِم منه ما يُفْهَم سُمِّي كلامًا، ويجوز أن يكون استثناء منقطعًا.
والرمز: الإشارة والإيماء بعين، أو حاجب أو يَدٍ- ذكر بعض المفسّرين أن إشارته كانت بالمُسَبِّحة ومنه قيل للفاجرة: الرَّمَّازة، والرمَّازة، وفي الحديث: نَهَى عَنْ كَسْبِ الرَّمَّازَةِ، يقال منه: رمزت ترمُز وترمِز- بضم العين وكسرها في المضارع.
وأصل الرمز: التحرك، يقال: رمز وارْتَمز أي: تحرَّك، ومنه قيل للبحر: الراموز، لتحركه واضطرابه.
وقال الراغب: الرمز: الإشارة بالشفة والصوت الخفي، والغمز بالحاجب. وما ارمَازَّ: أي ما تكلم رمزًا، وكتيبه رمَّازة: أي: لم يُسْمَع منها إلا رَمزًا؛ لكثرتها.
ويؤيد كونه الصوت الخفي- على ما قاله الراغب- أنه كان ممنوعًا من رفع الصوت.
قال الفراء: قد يكون الرمز باللسان من غير أن يتبيَّن، وهو الصوت الخفي، شبه الهَمْس.
وقال عطاء: أراد صوم ثلاثة أيامٍ؛ لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزًا. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {واذكر رَّبَّكَ كَثِيرًا}:

.قال الفخر:

فيه قولان:
أحدهما: أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا {إِلاَّ رَمْزًا} فأما في الذكر والتسبيح، فقد كان لسانه جيدًا، وكان ذلك من المعجزات الباهرة.
والثاني: إن المراد منه الذكر بالقلب وذلك لأن المستغرقين في بحار معرفة الله تعالى عادتهم في الأول أن يواظبوا على الذكر اللساني مدة فإذا امتلأ القلب من نور ذكر الله سكت اللسان وبقي الذكر في القلب، ولذلك قالوا: من عرف الله كل لسانه، فكأن زكريا عليه السلام أمر بالسكوت واستحضار معاني الذكر والمعرفة واستدامتها. اهـ.

.قال الألوسي:

{واذكر رَّبَّكَ} أي في أيام الحبسة شكرًا لتلك النعمة كما يشعر به التعرض لعنوان الربوبية، وقيل: يحتمل أن يكون الأمر بالذكر شكرًا للنعمة مطلقًا لا في خصوص تلك الأيام، وأن يكون في جميع أيام الحمل لتعود بركاته إليه، والمنساق إلى الذهن هو الأول، والجملة مؤكدة لما قبلها مبينة للغرض منها، واستشكل العطف من وجهين: الأول عطف الإنشاء على الأخبار، والثاني: عطف المؤكد على المؤكد، وأجيب بأنه معطوف على محذوف أي اشكر واذكر، وقيل: لا يبعد أن يجعل الأمر بمعنى الخبر عطفًا على (لا تكلم) فيكون في تقدير: أن لا تكلم وتذكر ربك، ولا يخفى ما فيه. اهـ.

.قال القرطبي:

في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام وذلك موجود في كثير من السنة، وآكد الإشارات ما حكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها: «أين الله»؟ فأشارت برأسها إلى السماء فقال: «أعتقها فإنها مؤمنة».
فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز الدم والمال وتستحق به الجنة وينجي به من النار، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك؛ فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة، وهو قول عامة الفقهاء.
وروى ابن القاسم عن مالك أن الأخرس إذا أشار بالطلاق أنه يلزمه.
وقال الشافعيّ في الرجل يمرض فيختل لسانه فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق.
وقال أبو حنيفة: ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف، وإن شك فيها فهي باطل، وليس ذلك بقياس وإنما هو استحسان.
والقياس في هذا كله أنه باطل؛ لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته.
قال أبو الحسن بن بطّال: وإنما حمل أبا حنيفة على قوله هذا أنه لم يعلم السنن التي جاءت بجواز الإشارات في أحكام مختلفة في الديانة.
ولعل البخاري حاول بترجمته باب الإشارة في الطلاق والأُمور الردَّ عليه.
وقال عطاء: أراد بقوله: {أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس} صوم ثلاثة أيام.
وكانوا إذا صاموا لا يتكلمون إلا رمزًا. وهذا فيه بُعْدٌ. والله أعلم. اهـ.
قال القرطبي:
قال محمد بن كعب القرظيّ: لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا بقول الله عز وجل: {أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا واذكر رَّبَّكَ كَثِيرًا} ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله عز وجل: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيرًا} [الأنفال: 45]. وذكره الطبري. اهـ.

.قال الفخر:

في قوله: {وَسَبّحْ} قولان:
أحدهما: المراد منه: وصل لأن الصلاة تسمى تسبيحًا قال الله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ} وأيضا الصلاة مشتملة على التسبيح، فجاز تسمية الصلاة بالتسبيح، وهاهنا الدليل دل على وقوع هذا المحتمل وهو من وجهين:
الأول: أنا لو حملناه على التسبيح والتهليل لم يبق بين هذه الآية وبين ما قبلها وهو قوله: {واذكر رَّبَّكَ} فرق، وحينئذ يبطل لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز والثاني: وهو أنه شديد الموافقة لقوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار}.
وثانيهما: أن قوله: {واذكر رَّبَّكَ} محمول على الذكر باللسان. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة آل عمران: آية 33]

{إِنَّ الله اصْطَفى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33)}.
آلَ إِبْراهِيمَ إسماعيل وإسحاق وأولادهما. وآلَ عِمْرانَ موسى وهرون ابنا عمران ابن يصهر. وقيل عيسى ومريم بنت عمران بن ماثان، وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة.
وذُرِّيَّةً بدل من آل إبراهيم وآل عمران بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ يعنى أنّ الآلين ذرّية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض: موسى وهرون من عمران، وعمران من يصهر، ويصهر من فاهث، وفاهث من لاوى، ولاوى من يعقوب، ويعقوب من إسحاق. وكذلك عيسى ابن مريم بنت عمران بن ماثان بن سليمان بن داود بن ايشا بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق. وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل بعضها من بعض في الدين، كقوله تعالى: {الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}. وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ يعلم من يصلح للاصطفاء، أو يعلم أنّ بعضهم من بعض في الدين. أو سميع عليم لقول امرأة عمران ونيتها. وإِذْ منصوب به.
وقيل: بإضمار اذكر. وامرأة عمران هي امرأة عمران بن ماثان، أمّ مريم البتول، جدّة عيسى عليه السلام، وهي حنة بنت فاقوذ. وقوله إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ على أثر قوله: {وَآلَ عِمْرانَ} مما يرجح أنّ عمران هو عمران بن ماثان جدّ عيسى، والقول الآخر يرجحه أن موسى يقرن بإبراهيم كثيرًا في الذكر. فإن قلت: كانت لعمران بن يصهر بنت اسمها مريم أكبر من موسى وهرون، ولعمران بن ماثان مريم البتول، فما أدراك أن عمران هذا هو أبو مريم البتول دون عمران أبى مريم التي هي أخت موسى وهرون؟ قلت: كفى بكفالة زكريا دليلا على أنه عمران أبو البتول، لأن زكريا بن آذن وعمران بن ماثان كانا في عصر واحد، وقد تزوّج زكريا بنته إيشاع أخت مريم فكان يحيى وعيسى ابني خالة.
روى أنها كانت عاقرًا لم تلد إلى أن عجزت، فبينا هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخًا له فتحرّكت نفسها للولد وتمنته، فقالت: اللهم إن لك علىّ نذرًا شكرًا إن رزقتني ولدًا أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه، فحملت بمريم وهلك عمران وهي حامل مُحَرَّرًا معتقًا لخدمة بيت المقدس لا يدَ لي عليه ولا أستخدمه ولا أشغله بشيء، وكان هذا النوع من النذر مشروعا عندهم.
وروى أنهم كانوا ينذرون هذا النذر، فإذا بلغ الغلام خير بين أن يفعل وبين أن لا يفعل.
وعن الشعبي {مُحَرَّرًا} مخلصًا للعبادة، وما كان التحرير إلا للغلمان، وإنما بنت الأمر على التقدير، أو طلبت أن ترزق ذكرًا فَلَمَّا وَضَعَتْها الضمير لما في بطني، وإنما أنث على المعنى لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله، أو على تأويل الحبلة أو النفس أو النسمة. فإن قلت: كيف جاز انتصاب أُنْثى حالا من الضمير في وضعتها وهو كقولك وضعت الأنثى أنثى؟ قلت: الأصل: وضعته أنثى، وإنما أنث لتأنيث الحال لأن الحال وذا الحال لشيء واحد، كما أنث الاسم في ما كانت أمّك لتأنيث الخبر.
ونظيره قوله تعالى: {فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ} وأمّا على تأويل الحبلة أو النسمة فهو ظاهر، كأنه قيل: إني وضعت الحبلة أو النسمة أنثى. فإن قلت: فلم قالت: إني وضعتها أنثى وما أرادت إلى هذا القول؟ قلت: قالته تحسرًا على ما رأت من خيبة رجائها وعكس تقديرها، فتحزنت إلى ربها لأنها كانت ترجو وتقدر أن تلد ذكرًا، ولذلك نذرته محرّرًا للسدانة. ولتكلمها بذلك على وجه التحسر والتحزن قال الله تعالى وَالله أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بقدر ما وهب لها منه. ومعناه: والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آية للعالمين وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا، فلذلك تحسرت. وفي قراءة ابن عباس: {وَالله أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ} على خطاب الله تعالى لها أي أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب وما علم الله من عظم شأنه وعلوّ قدره. وقرئ:
وضعت. بمعنى: ولعلّ للَّه تعالى فيه سرًا وحكمة، ولعلّ هذه الأنثى خير من الذكر تسلية لنفسها.
فإن قلت: فما معنى قوله وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى؟ قلت: هو بيان لما في قوله: {وَالله أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ} من التعظيم للموضوع والرفع منه، ومعناه: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها، واللام فيهما للعهد. فإن قلت: علام عطف قوله وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ؟ قلت: هو عطف على إني وضعتها أنثى، وما بينهما جملتان معترضتان، كقوله تعالى: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم}. فإن قلت: فلم ذكرت تسميتها مريم لربها؟ قلت: لأن مريم في لغتهم بمعنى العابدة، فأرادت بذلك التقرب والطلب إليه أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقًا لاسمها، وأن يصدق فيها ظنها بها. ألا ترى كيف أتبعته طلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان وإغوائه. وما يروى من الحديث: «ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهلّ صارخًا من مس الشيطان إياه، إلا مريم وابنها» فالله أعلم بصحته. فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها، فإنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} واستهلاله صارخًا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول: هذا ممن أغويه، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي:
لِمَا تُؤْذِنُ الدُّنْيَا بِهِ مِنْ صُرُوفِهَا ** يَكُونُ بُكَاءُ الطِّفْلِ سَاعَةَ يُولَدُ

وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا، ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلونا به من نخسه فَتَقَبَّلَها رَبُّها فرضي بها في النذر مكان الذكر بِقَبُولٍ حَسَنٍ فيه وجهان: أحدهما أن يكون القبول اسم ما تقبل به الشيء كالسعوط واللدود، لما يسعط به ويلد، وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر، ولم يقبل قبلها أنثى في ذلك، أو بأن تسلمها من أمّها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة.
وروى أن حنة حين ولدت مريم، لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار أبناء هرون، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربأنهم، وكانت بنو ماثان رءوس بنى إسرائيل وأحبارهم وملوكهم، فقال لهم زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها. فقالوا: لا حتى نقترع عليها، فانطلقوا- وكانوا سبعة وعشرين- إلى نهر، فألقوا فيه أقلامهم، فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم، فتكفلها. والثاني: أن يكون مصدرًا على تقدير حذف المضاف بمعنى: فتقبلها بذي قبول حسن، أي بأمر ذى قبول حسن وهو الاختصاص. ويجوز أن يكون معنى {فتقبلها} فاستقبلها، كقولك:
تعجله بمعنى استعجله، وتقصاه بمعنى استقصاه، وهو كثير في كلامهم، من استقبل الأمر إذا أخذه بأوّله وعنفوانه. قال القطامي:
وَخَيْرُ الأمر مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ ** وَلَيْسَ بِأَنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعَا

ومنه المثل (خذ الأمر بقوابله) أي فأخذها في أوّل أمرها حين ولدت بقبول حسن وَأَنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها. وقرئ: وكفلها زكرياء، بوزن وعملها وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا بتشديد الفاء ونصب زكرياء، الفعل للَّه تعالى بمعنى: وضمها إليه وجعله كافلا لها وضامنًا لمصالحها. ويؤيدها قراءة أبىّ: وأكفلها، من قوله تعالى: {فَقالَ أَكْفِلْنِيها} وقرأ مجاهد: فتقبلها ربها، وأنبتها، وكفلها، على لفظ الأمر في الأفعال الثلاثة، ونصب ربها، تدعو بذلك، أي فاقبلها يا ربها وربها، واجعل زكريا كافلا لها. قيل بنى لها زكريا محرابا في المسجد، أي غرفة يصعد إليها بسلم. وقيل المحراب أشرف المجالس ومقدّمها، كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس. وقيل: كانت مساجدهم تسمى المحاريب.
وروى أنه كأن لا يدخل عليها إلا هو وحده، وكان إذا خرج غلق عليها سبعة أبواب وَجَدَ عِنْدَها رِزْقًا كان رزقها ينزل عليها من الجنة ولم ترضع ثديا قط، فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء أَنَّى لَكِ هذا من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آت في غير حينه والأبواب مغلقة عليك لا سبيل للداخل به إليك؟ قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله فلا تستبعد. قيل تكلمت وهي صغيرة كما تكلم عيسى وهو في المهد.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه جاع في زمن قحط فأهدت له فاطمة رضى الله عنها رغيفين وبضعة لحم آثرته بها، فرجع بها إليها وقال: هلمى يا بنية فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزًا ولحمًا، فبهتت وعلمت أنها نزلت من عند الله، فقال لها صلى الله عليه وسلم: أنى لك هذا؟ فقالت: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. فقال عليه الصلاة والسلام: الحمد للَّه الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بنى إسرائيل، ثم جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم علىّ بن أبى طالب والحسن والحسين وجميع أهل بيته، فأكلوا عليه حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو، فأوسعت فاطمة على جيرانها. إِنَّ الله يَرْزُقُ من جملة كلام مريم عليها السلام، أو من كلام رب العزّة عزّ من قائل بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تقدير لكثرته، أو تفضلا بغير محاسبة ومجازاة على عمل بحسب الاستحقاق.