فصل: تفسير الآية رقم (44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13].
ومعنى لنتعارف أي أن يكون لكل منا اسمٌ يعرف به عند الآخرين.
وفي حياتنا العادية- ولله المثل الأعلى- نجد رجلا عنده أولاد كثيرون، لذلك يُطلق على كل ابن اسما ليعرفه المجتمع به، والعجيب في هذه الآية الكريمة: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}. أننا نجد كلمة {شعوبا} مذكرة وكلمة {قبائل} مؤنثة. إذن فلا تمايز بالأحسن، ولكن الكلمات هنا مسميات للتعارف. والحق الأعلى يقول: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} [العصر: 1- 3].
إذن فما وضع النساء اللائي آمنّ؟ إنهن يدخلن ضمن {الَّذِينَ آمَنُواْ}. ولماذا أدخل الله المؤنث في الذكر؟ لأن المذكر هو الأصل، والمؤنث جاء منه فرعا. إذن فالمؤنث هو الذي يدخل مع المذكر في الأمور المشتركة في الجنس.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
وهذا يعني أن المؤنث عليه أن يدخل في تكليف العبودية لله.
والمعنى العام يحدد أن المطلوب منه العبادة هو الإنسان كجنس. وبنوعية الذكر والأنثى. وفي الأمر الخاص بالمرأة، ويحدد الله المرأة بذاتيتها. فالحق سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أن يكون لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].
لماذا؟ إن المسألة هنا تشمل النوعين من الجنس الواحد: الرجل والمرأة، زوج وزوجة، فمثلا نجد زوجا يريد تطليق زوجته، فيأتي الحق بتفصيل يوضح ذلك. وإذا كان هناك أمر خاص بالمرأة فالحق سبحانه وتعالى يحدد الأمر فها هوذا قوله الحكيم: {يانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 32- 33].
إن كل ما جاء في الآية السابقة يحدد المهام بالنسبة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فالخطاب الموجه يحدد الأمر بدقة {لستن} و{اتقيتن}، و{لا تخضعن}، و{قرن}، و{لا تبرجن}. الحديث في هذه الآية الكريمة يتعلق بالمرأة لذلك يأتي لها بضميرها مؤنثا.
ولكن إذا جاء أمر يتعلق بالإنسان بوجه عام فإن الحق يأتي بالأمر شاملا للرجل والمرأة ويكون مذكرا، ولذلك فعندما قالت النساء لماذا يكون الرجل أحسن من المرأة، جاء قول الحق: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ الله كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] هكذا حسم الحق الأمر.
قال سبحانه تأكيدا لذلك: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124].
إن الذكر والأنثى هنا يدخلان في وصف واحد هو {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} إذن فعندما يأتي الأمر في المعنى العام الذي يُطلب من الرجل والمرأة فهو يُضمر المرأة في الرجل لأنها مبنية على الستر والحجاب، مطمورة فيه. داخله معه.. فإذا قال الحق سبحانه لمريم: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} فالركوع ليس خاصا بالمرأة حتى يقول مع الراكعات ولكنه أمر عام يشمل الرجل والمرأة، لذلك جاء الأمر لمريم بأن تركع مع الراكعين. اهـ.

.تفسير الآية رقم (44):

قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أتى نبينا صلى الله عليه وسلم بهذه الأخبار الغريبة المحررة العجيبة التي لا يعرفها على وجهها إلا الحذاق من علماء بني إسرائيل كان من حق سامعها أن يتنبه من غفلته ويستيقظ من رقدته، لأنها منبهة بنفسها للمنصف الفطن على أن الآتي بها- والسامع خبير بأنه لم يخالط عالمًا قط- صادقًا لا مرية في صدقه في كل ما يدعيه عن الله سبحانه وتعالى، وكان من حق من يتنبه أن يبادر إلى الإذعان فيصرح بالإيمان، فلما لم يفعلوا التفت إلى تنبيه الغبي وتبكيت العتي فقال: {ذلك} أي الخطاب العلي المقام الصادق المرام البديع النظام {من أنباء الغيب نوحيه} أي نجدد إيحاءه في أمثاله {إليك} في كل حين فما كنت لديهم في هذا الذي ذكرناه لك يومًا على هذا التحرير مع الإعجاز في البلاغة ويجوز أن تكون الجملة حالًا تقديرها: {و} الحال أنك {ما كنت} ولما كان هذا مع كونه من أبطن السر هو من أخفى العلم عبر فيه بلدي لما هو في أعلى رتب الغرابة كما تقدم في قوله: {هو من عند الله} وكررها زيادة في تعظيمه وتنبيهًا على أنه مما يستغرب جدًا حتى عند أهل الاصطفاء فقال: {لديهم} قال الحرالي: لدى هي عند حاضرة لرفعة ذلك الشيء الذي ينبأ به عنه- انتهى.
{إذ يلقون} لأجل القرعة- {أقلامهم} قال الحرالي: جمع قلم، وهو مظهر الآثار المنبئة عما وراءها من الاعتبار- انتهى {أيهم} أي يستهمون أيهم {يكفل مريم} أي يحضنها ويربيها تنافسًا في أمرها لما شرفها الله تعالى به {وما كنت لديهم إذ} أي حين {يختصمون} أي في ذلك حتى نقصّ مثل هذه الأخبار على هذا الوجه السديد- يعني أنه لا وجه لك إلى علم ذلك إلا بالكون معهم إذ ذاك، أو أخذ ذلك عن أهل الكتاب، أو بوحي منا؛ ومن الواضح الجلي أن بعد نسبتك إلى التعلم من البشر كبعد نسبتك إلى الحضور بينهم في ذلك الوقت، لشهرتك بالنشأة أميًا مباعدًا للعلم والعلماء حتى ما يتفاخر به قومك من السجع ومعاناة الصوغ لفنون الكلام على الوجوه الفائقة، فانحصر إخبارك بذلك في الوحي منا، وجعل هذا التنبيه في نحو وسط هذا القصص ليكون السامع على ذكر مما مضى ويلقي السمع وهو شهيد لما بقي، وجعله بعد الافتتاح بقصة مريم عليها السلام تنبيهًا على عظم شأنها وأنها المقصودة بالذات للرد على وفد نصارى نجران، وكأنه أتبع التنبيه ما كان في أول القصة من اقتراعهم بالأقلام واختصامهم في كفالتها لخفائه إلا على خواص أهل الكتاب، هذا مع ما في مناسبة الأقلام للبشارة بمن يعلمه الكتاب، واستمر في إكمال المقال على ذلك الأسلوب الحكيم حتى تمت الحجة واستقامت المحجة فقال تعالى مبدلًا من إذ الأولى إيذانًا بأن ما بينهما اعتراض لما نبه عليه من شريف الأغراض: {إذ قالت الملائكة يا مريم}. اهـ.

.اللغة:

{أنباء} جمع نبأ وهو الخبر الهام.
{نوحيه} الوحي: القاء المعنى في النفس في خفاء.
{أقلامهم} القلم معروف وهو الذي يكتب به وقد يطلق على السهم الذي يقترع به وهو المراد هنا.
{المسيح} لقب من الالقاب المشرفة كالصديق والفاروق، وأصله مشيحا بالعبرانية ومعناه: المبارك.
{وجيها} شريفا ذا جاه وقدر، والوجاهة الشرف والقدر.
{المهد} فراش الطفل.
{كهلا} الكهل: ما بين الشاب والشيخ والمراة كهلة، قال في الوسيط: الكهل ما بين الثلاثين الى الخمسين.
{الأكمه} الذي يولد اعمى.
{الأبرص} المصاب بالبرص، وهو بياض يعتري الجلد، وداء عضال يصعب شفاؤه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{ذلك} إشارة إلى ما تقدم، والمعنى أن الذي مضى ذكره من حديث حنة وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم، إنما هو من إخبار الغيب فلا يمكنك أن تعلمه إلا بالوحي.
فإن قيل: لم نفيت هذه المشاهدة، وانتفاؤها معلوم بغير شبهة، وترك نفي استماع هذه الأشياء من حفاظها وهو موهوم؟.
قلنا: كان معلومًا عندهم علمًا يقينيًا أنه ليس من أهل السماع والقراءة، وكانوا منكرين للوحي، فلم يبق إلا المشاهدة، وهي وإن كانت في غاية الاستبعاد إلا أنها نفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع ولا قراءة، ونظيره {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى} [القصص: 44]، {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور} [القصص: 46] {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم} [يوسف: 102] {وَمَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا} [هود: 49]. اهـ.

.قال ابن عادل:

قوله: {ذلك مِنْ أَنَبَاءِ الغيب نُوحِيهِ} يجوز فيه أوجه:
أحدها: أن يكون {ذَلِكَ} خبرَ مبتدأ محذوفٍ، وتقديره: الأمر ذلك. و{ذلك مِنْ أَنَبَاءِ الغيب} متعلقًا بما بعدَه، وتكون الجملة من {نُوحِيهِ}- إذ ذاك- إما مُبَيِّنَة وشارحة للجملة قبلها، وإما حالًا.
الثاني: أن يكون {ذَلِكَ} مبتدأ، و{مِنْ أَنَبَاءِ الغيب} خبره، والجملة من {نُوحِيهِ} مستأنفة، والضميرُ من {نوحِيهِ} عائد على الغيب، أي: الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ونُظهرك على قصص مَنْ تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار، ولذلك أتى بالمضارع في {نُوحِيهِ}. وهذا أحسن من عَوْده على {ذَلِكَ}؛ لأن عَوده على الغيب يشمل ما تقدم من القصص، وما لم يتقدم منها، ولو أعدته على {ذَلِكَ} اختص بما مَضَى وتقدم.
الثالث: أن يكون {نُوحِيهِ} هو الخبر و{مِنْ أَنَبَاءِ الغيب} على وجهَيْه المتقدمَيْن من كونه حالًا من ذلك، أو متعلقًا بـ {نُوحِيه}.
ويجوز فيه وجه ثالثٌ- على هذا- وهو أن يُجْعَل حالًا من مفعول {نُوحِيهِ} أي: نوحيه حال كونه بعض أنباءِ الغيبِ. اهـ.

.قال الفخر:

الإنباء: الأخبار عما غاب عنك، وأما الإيحاء فقد ورد الكتاب به على معان مختلفة، يجمعها تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرهما، وبهذا التفسير يعد الإلهام وحيًا كقوله تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] وقال في الشياطين {لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121] وقال: {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11] فلما كان الله سبحانه ألقى هذه الأشياء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام بحيث يخفى ذلك على غيره سماه وحيًا. اهـ.

.قال ابن عادل:

الإنباء هو الأخبار عما غاب عنك- والإيحاء، ورد بإزاء معانٍ مختلفةٍ، وأصله إعلام في خفاء يكون بالرمز والإشارة ويتضمن السرعة.
كما في قوله: [الطويل]
...................... ** فَأَوْحَتْ إلَيْنَا وَالأنَامِلُ رُسْلُهَا

وقال تعالى: {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11]. ويكون بالكتابة، قال زهير: [الطويل]
أتَى الْعُجْمَ وَالآفاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ ** بَقِينَ بَقَاءَ الْوَحْي فِي الْحَجَرِ الأصَمْ

ويطلق الوحي على الشيء المكتوب، قال: [الكامل]
فَمَدَافِعُ الرَّيانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا ** خَلَقًا كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُهَا

قيل: الوُحِيّ: جمع وَحْي- كفلس وفلوس- كُسِرَت الحاءُ إتباعًا.
قال القرطبيُّ: وأصل الوحي في اللغة: إعلام في خفاءٍ.
وتعريفُ الوحي بأمر خفي من إشارة، أو كتابة، أو غيرها، وبهذا التفسير يُعَدُّ الإلهامُ وَحيًا، كقوله تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] وقال- في الشياطين-: {لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121] وقال: {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11]، فلما ألقى الله- تعالى- هذه الأنباء إلى الرسول عليه السلام- بواسطة جبريل عليه السلام- بحيث يخفى ذلك على غيره- سمَّاه وحيًا. اهـ.

.قال القرطبي:

{نُوحِيهِ إِلَيكَ} فيه دلالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم ولم يكن قرأ الكتب؛ وأخبر عن ذلك وصدّقه أهل الكتاب بذلك؛ فذلك قوله تعالى: {نُوحِيهِ إِلَيكَ} فردّ الكناية إلى {ذلك} فلذلك ذُكِّر. اهـ.

.قال الألوسي:

{ذلك} إشارة إلى ما تقدم ذكره من تلك الأخبار البديعة الشأن المرتقية من الغرابة إلى أعلى مكان، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: {مِنْ أَنبَاء الغيب} أي من أخبار ما غاب عنك وعن قومك مما لا يعرف إلا بالوحي على ما يشير إليه المقام، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وقوله تعالى: {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} جملة مستقلة مبينة للأولى، والإيحاء إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي، ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الأنبياء، وبمعنى الإلهام، والضمير في {نُوحِيهِ} عائد إلى ذلك في المشهور، واستحسن عوده إلى الغيب لأنه حينئذ يشمل ما تقدم من القصص وما لم يتقدم منها بخلاف ما إذا عاد إلى ذلك فإنه حينئذ يوهم الاختصاص بما مضى، وجوز أن تكون هذه الجملة خبرًا عن المبتدأ قبلها، و{مِنْ أَنبَاء الغيب} إما متعلق بنوحيه أو حال من مفعوله أي: نوحيه حال كونه بعض أنباء الغيب وجعله حالًا من المبتدأ رأي البعض، وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير: الأمر ذلك فيكون {ذلك} خبرًا لمبتدأ محذوف والجار والمجرور حال منه، وهو وجه مرذول لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الملك الجليل. وصيغة الاستقبال عند قوم للإيذان بأن الوحي لم ينقطع بعد {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي عند المتنازعين فالضمير عائد إلى غير مذكور دل عليه المعنى، والمقصود من هذه الجملة تحقيق كون الأخبار بما ذكر عن وحي على سبيل التهكم بمنكريه كأنه قيل: إن رسولنا أخبركم بما لا سبيل إلى معرفته بالعقل مع اعترافكم بأنه لم يسمعه ولم يقرأه في كتاب، وتنكرون أنه وحي فلم يبق مع هذا ما يحتاج إلى النفي سوى المشاهدة التي هي أظهر الأمور انتفاءًا لاستحالتها المعلومة عند جميع العقلاء، ونبه على ثبوت قصة مريم مع أن ما علم بالوحي قصة زكريا عليه السلام أيضا لما أن {تِلْكَ} هي المقصودة بالأخبار أولًا، وإنما جاءت القصة الأخرى على سبيل الاستطراد ولاندراج بعض قصة زكريا في ذكر من تكفل فما خلت الجملة عن تنبيه على قصته في الجملة، وروي عن قتادة أن المقصود من هذه الجملة تعجيب الله سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام من شدة حرص القوم على كفالة مريم والقيام بأمرها، وسيق ذلك تأكيدًا لاصطفائها عليها السلام ويبعد هذا الفصل بين المؤكد والمؤكد، ومع هذا هو أولى مما قيل: إن المقصود منها التعجيب من تدافعهم لكفالتها لشدة الحال ومزيد الحاجة التي لحقتهم حتى وفق لها خير الكفلاء زكريا عليه السلام، بل يكاد يكون هذا غير صحيح دراية ورواية، وعلى كل تقدير لا يشكل نفي المشاهدة مع ظهور انتفائها عند كل أحد. اهـ.