فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

قوله: {قالت رب} جملة معترضة، من كلامها، بين كلام الملائكة.
والنداء للتحسر وليس للخطاب: لأنّ الذي كلمها هو الملك، وهي قد توجهت إلى الله.
والاستفهام في قولها {أنى يكون لي ولد} للإنكار والتعجّب ولذلك أجيب جوابين أحدهما كذلك الله يخلق ما يشاء فهو لرفع إنكارها، والثاني إذا قضى أمرًا إلخ لرفع تعجّبها.
وجملة {قال كذلك الله يخلق} إلخ جواب استفهامها ولم تعطف لأنّها جاءت على طريقة المحاورات كما تقدم في قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها ومابعدها} في سورة البقرة (30) والقائل لها هو الله تعالى بطريق الوحي.
واسم الإشارة في قوله: {كذلك} راجع إلى معنى المذكور في قوله: {إن الله يبشرك بكلمة منه} إلى قوله: {وكهلا} [آل عمران: 45، 46] أي مثل ذلك الخلق المذكور يخلق الله ما يشاء.
وتقديم اسم الجلالة على الفعل في قوله: {الله يخلق} لإفادة تقوى الحكم وتحقيق الخبر.
وعبر عن تكوين الله لعيسى بفعل يَخْلق: لأنّه إيجاد كائن من غير الأسباب المعتادة لإيجاد مثله، فهو خلْق أنُفٌ غيرُ ناشئ عن أسباب إيجاد الناس، فكان لفعل يخلُق هنا موقعٌ متعين، فإنّ الصانع إذا صنع شيئًا من موادّ معتادة وصنعة معتادة، لا يقول خلَقْت وإنما يقول صَنَعت. اهـ.

.قال الطبري:

يعني بذلك جل ثناؤه، قالت مريم إذ قالت لها الملائكة أنّ الله يبشرك بكلمة منه: {ربِّ أنَّى يكون لي ولد}، من أيِّ وجه يكون لي ولد؟ أمِن قبل زوج أتزوجه وبعل أنكحه، أمْ تبتدئ فيَّ خلقه من غير بعل ولا فحل، ومن غير أن يمسَّني بشر؟ فقال الله لها {كذلك الله يخلق ما يشاء}، يعني: هكذا يخلق الله منك ولدًا لك من غير أن يمسَّك بشر، فيجعله آيةً للناس وعبرة، فإنه يخلق ما يشاء ويصنعُ ما يريد، فيعطي الولد من يشاء من غير فحل ومن فحلٍ، ويحرِمُ ذلك من يشاءُ من النساء وإن كانت ذات بعلٍ، لأنه لا يتعذر عليه خلق شيء أراد خلقه، إنما هو أن يأمر إذا أراد شيئًا ما أراد خلقه فيقول له: {كن فيكون} ما شاء، مما يشاء، وكيف شاء. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {قالت رب أنّى يكون لي ولد} في علة قولها هذا قولان.
أحدهما: أنها قالت هذا تعجبًا واستفهامًا، لا شكًا وإنكارًا، على ما أشرنا إليه في قصة زكريا، وعلى هذا الجمهور، والثاني: أن الذي خاطبها كان جبريل، وكانت تظنه آدميا يريد بهًا سوءًا، ولهذا قالت: {أعوذ بالرحمن منك إِن كنت تقيًا} [مريم: 18].
فلما بشرها لم تتيقن صحة قوله، لأنها لم تعلم أنه ملك، فلذلك قالت: {أنى يكون لي ولد} قاله ابن الأنباري.
قوله تعالى: {ولم يمسسني بشر} أي: ولم يقربني زوج.
والمس: الجماع، قاله ابن فارس.
وسمي البشر بشرًا، لظهورهم، والبشرة: ظاهر جلد الإنسان، وأبشرت الأرض: أخرجت نباتها، وبشرت الأديم: إذا قشرت وجهه، وتباشير الصبح: أوائله.
قال: يعني جبريل: {كذلكِ الله يخلق ما يشاء} أي: بسبب، وبغير سبب. اهـ.

.قال ابن عطية:

وجاءت العبارة في أمر زكريا يفعل وجاءت هنا، {يخلق} من حيث أمر زكرياء داخل في الإمكان الذي يتعارف وإن قل وقصة مريم لا تتعارف البتة، فلفظ الخلق أقرب إلى الاختراع وأدل عليه، وروي أن عيسى عليه السلام، ولد لثمانية أشهر فلذلك لا يعيش من يولد من غيره لمثل ذلك. اهـ.

.قال ابن كثير:

ولم يقل: {يفعل} كما في قصة زكريا، بل نص هاهنا على أنه يخلق؛ لئلا يبقى شبهة، وأكد ذلك بقوله: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي: فلا يتأخر شيئًا، بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة، كقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] أي: إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها، فيكون ذلك الشيء سريعًا كلمح بالبصر. اهـ.

.قال التستري:

قوله: {كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [47] قال: إذا كان في علمه السابق الأزلي أمر فأراد إظهاره قال له كن فيكون، قال القائل شعر: [من الطويل].
قضى قبلَ خلقِ ما هو خالقٌ ** خلائقَ لا يَخفى عليه أمورُها

هواها ونجواها ومضمر قلبها ** وقبل الهوى ماذا يكون ضميرُها

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري:

قوله جلّ ذكره: {قَالَت رَبِّ أنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}.
كما شاهدت ظهور أشياء ناقضة للعادة في رزقنا فكذلك ننقض العادة في خلق ولدٍ من غير مسيس بشر.
قوله جلّ ذكره: {إِذَا قَضَى أَمْرًا} أي أراد إمضاء حُكْم.
{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فلا يتعسر عليه إبداء ولا إنشاء.
ولمَا بسطوا فيها لسان الملامة أنطق الله عيسى عليه السلام وهو ابن يومٍ حتى قال: {أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ} مَعْطُوفٌ عَلَى قوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ} مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: {وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} هَذَا الْخِطَابُ لَيْسَ بِشَرْعٍ خُصَّتْ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلْهَامٌ بِمَكَانَتِهَا عِنْدَ اللهِ رُبَّمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنَ الشُّكْرِ بِدَوَامِ الْقُنُوتِ وَالصَّلَاةِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ أنه مُكَرَّمٌ اجْتَهَدَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى كَرَامَتِهِ وَتَبَاعَدَ أَشَدَّ التَّبَاعُدِ عَنْ كُلِّ مَا يُنْقِصُ مِنْهَا، فَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ لَهَا: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} قَدْ زَادَهَا- بِمُقْتَضَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ- تَعَلُّقًا بِالْكَمَالِ كَمَا زَادَهَا رُوحَانِيَّةً بِتَأْثِيرِ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي أَمَدَّتْ رُوحَهَا الطَّاهِرَةَ، وَالِاصْطِفَاءُ الْأَوَّلُ هُوَ قَبُولُهَا مُحَرَّرَةً لِخِدْمَةِ اللهِ فِي بَيْتِهِ وَكَانَ ذَلِكَ خَاصًّا بِالرِّجَالِ، وَالتَّطْهِيرُ قَدْ فُسِّرَ بِعَدَمِ الْحَيْضِ، وَبِذَلِكَ كَانَتْ أَهْلًا لِمُلَازَمَةِ الْمِحْرَابِ وَهُوَ أَشْرَفُ مَكَانٍ فِي الْمَعْبَدِ.
وَرُوِيَ أَنَّ السَّيِّدَةَ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءَ مَا كَانَتْ تَحِيضُ وَأَنَّهَا لِذَلِكَ لُقِّبَتْ بِالزَّهْرَاءِ. وَقَالَ الْجَلَالُ: أنه التَّطْهِيرُ مِنْ مَسِيسِ الرِّجَالِ، وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ حَمْلَهُ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ، أَيْ طَهَّرَكِ مِمَّا يُسْتَقْبَحُ كَسَفْسَافِ الْأَخْلَاقِ وَذَمِيمِ الصِّفَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالِاصْطِفَاءُ الثَّانِي مَا اخْتُصَّتْ بِهِ مِنْ خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ وَكَمَالِ الْهِدَايَةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هُوَ جَعْلُهَا تَلِدُ نَبِيًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهَا رَجُلٌ، فَهُوَ عَلَى هَذَا اصْطِفَاءٌ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَحَقَّقَ بِالْفِعْلِ بَلْ بِالْإِعْدَادِ وَالتَّهْيِئَةِ. وَبَحَثُوا هُنَا فِي قوله: {عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} هَلِ الْمُرَادُ بِهِ عَالَمُو زَمَانِهَا- كَمَا يُقَالُ أَرِسْطُو أَعْظَمُ الْفَلَاسِفَةِ وَيُفْهَمُ مِنْهُ فَلَاسِفَةُ زَمَانِهِ أَوْ أُمَّتِهِ- أَمْ جَمِيعُ الْعَالَمِينَ.
وَفِي الْأَحَادِيثِ: «إِنَّ أَفْضَلَ النِّسَاءِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ- صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُنَّ».
{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} أَيِ الْزَمِي طَاعَتَهُ مَعَ الْخُضُوعِ لَهُ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ السُّجُودُ: التَّطَامُنُ وَالتَّذَلُّلُ. وَالرُّكُوعُ: الِانْحِنَاءُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي لَازِمِهِ وَسَبَبِهِ، وَهُوَ التَّوَاضُعُ وَالْخُشُوعُ فِي الْعِبَادَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَرُكُوعُهَا مَعَ الرَّاكِعِينَ عِبَارَةٌ عَنْ صَلَاتِهَا مَعَ الْمُصَلِّينَ فِي الْمَعْبَدِ وَقَدْ كَانَتْ مُلَازِمَةً لِمِحْرَابِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ أُطْلِقَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فِي صَلَاتِنَا عَلَى الْعَمَلِ الْمَعْلُومِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ لِلَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ إِذِ الدِّينُ يُطَالِبُنَا بِالْخُشُوعِ وَاسْتِشْعَارِ التَّوَاضُعِ فِي هَذَا الِانْحِنَاءِ وَالتَّطَامُنِ، وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةُ الْيَهُودِ كَصَلَاتِنَا فِي أَعْمَالِهَا وَصُورَتِهَا، وَلَكِنَّهُمْ طُولِبُوا فِيهَا بِمِثْلِ مَا طُولِبْنَا مِنَ الْخُشُوعِ وَالتَّذَلُّلِ لِلَّهِ تعالى.
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} {ذَلِكَ } الَّذِي قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَخْبَارِ مَرْيَمَ وَزَكَرِيَّا {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ } لَمْ تَشْهَدْهُ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِكَ، وَلَمْ تَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ فِي الْكِتَابِ وَإِنَّمَا نَحْنُ {نُوحِيهِ إِلَيْكَ } بِإِنْزَالِ الرُّوحِ الْأَمِينِ الَّذِي خَاطَبَ مَرْيَمَ وَزَكَرِيَّا بِمَا خَاطَبَهُمَا بِهِ عَلَى قَلْبِكَ، وَإِلْقَائِهِ فِي رَوْعِكَ خَبَرَ مَا وَقَعَ بَيْنَ بَنِي إسرائيل فِي ذَلِكَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَضَمِيرُ نُوحِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الْغَيْبِ {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ} أَيْ قِدَاحَهُمُ الْمَبْرِيَّةَ، فَالسِّهَامُ وَالْأَزْلَامُ الَّتِي يَضْرِبُونَ بِهَا الْقُرْعَةَ وَيُقَامِرُونَ تُسَمَّى أَقْلَامًا {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} أَيْ يَسْتَهِمُونَ بِهَذِهِ الْأَقْلَامِ وَيَقْتَرِعُونَ عَلَى كَفَالَةِ مَرْيَمَ، حَتَّى قَرَعَهُمْ زَكَرِيَّا فَكَانَ كَافِلَهَا {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى كَفَالَتِهَا إِلَّا بَعْدَ الْقُرْعَةِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَعْقَبَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ النَّاطِقَةِ بأنها مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، وَأَخَّرَ خَبَرَ إِلْقَاءِ الْأَقْلَامِ لِكَفَالَةِ مَرْيَمَ وَذَكَرَهُ فِي سِيَاقِ نَفْيِ حُضُورِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسَ الْقَوْمِ وَشُهُودِ مَا جَرَى مِنْهُمْ، وَلابد لِهَذِهِ الْعِنَايَةِ مِنْ نُكْتَةٍ، وَقَدْ قَالُوا فِي بَيَانِهَا: إِنَّ كَوْنَهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْرَأْ أَخْبَارَ الْقَوْمِ وَلَمْ يَرْوِهَا سَمَاعًا عَنْ أَحَدٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ مُنْكِرِي نُبُوَّتِهِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ طَرِيقٌ لِلْعِلْمِ بِهَا إِلَّا مُشَاهَدَتُهَا، فَنَفَاهَا تَهَكُّمًا بِهِمْ، وَبِذَلِكَ تَعَيَّنَ أنه لَمْ يَبْقَ لَهُ طَرِيقٌ لِمَعْرِفَتِهَا إِلَّا وَحْيُ اللهِ تعالى إِلَيْهِ بِهَا. وَهَذَا الْجَوَابُ مَنْقُوضٌ وَإِنِ اتَّفَقَ عَلَيْهِ مَنْ نَعْرِفُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَطَقَ بأنهمْ قَالُوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [16: 103] {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [25: 5] قَالَ: وَالصَّوَابُ أَنَّ النُّكْتَةَ فِي النَّصِّ عَلَى نَفْيِ حُضُورِ النَّبِيِّ الْقَوْمَ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ- أَيْ بَعْدَ النَّصِّ عَلَى كَوْنِ الْقِصَّةِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ- هِيَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيَكُونُ لِلْمُنْكِرِينَ شُبْهَةٌ عَلَى أنه أَخَذَهَا عَنْهُمْ. أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى هَذَا قوله تعالى فِي آخِرِ قِصَّةِ يُوسُفَ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [12: 102] وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْمُجَاحِدِينَ قَدِ ادَّعَوْا أنه يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، فَهَذِهِ الدَّعْوَى قَدَّرَهَا الْقُرْآنُ بِقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [16: 103] وَرَدَ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا إِذْ رَأَوْهُ يَقِفُ عَلَى قَيْنِ (حَدَّادٍ) رُومِيٍّ بِمَكَّةَ، وَذَلِكَ الْقَيْنُ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَأَنَّى لِلْقَيْنِ بِمِثْلِ هَذَا الْعِلْمِ عَرَفَ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لَمْ يَعْرِفْهَا؟ فَالْقُرْأن لا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الشُّبْهَةِ؛ إِذِ الْأُمِّيُّ النَّاشِئُ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَلَقَّى أَخْبَارَ الْأَوَّلِينَ مِنْ حَدَّادٍ وَلَا مِنْ عَالِمٍ كَحَبْرٍ أَوْ رَاهِبٍ بِمُجَرَّدِ وُقُوفِهِ عَلَيْهِ أَوِ اجْتِمَاعِهِ بِهِ، وَلَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ عَادَةً أَوْ عَقْلًا لَمَا كَانَ لِعَاقِلٍ أَنْ يَثِقَ بِحِفْظِ ذَلِكَ الْقَيْنِ- أَوْ غَيْرِ الْقَيْنِ- وَبِأَمَانَتِهِ وَلَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمُنْكِرِينَ لِنُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي كَمَالِ عَقْلِهِ وَسُمُوِّ إِدْرَاكِهِ وَفِطْنَتِهِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ إِتْيَانَهُ فِي هَذِهِ الْقَصَصِ بِمَا لَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِمَّا يُؤَكِّدُ دَفْعَ تِلْكَ الشُّبْهَةِ الْوَاهِيَةِ، وَيُدَعِّمُ ذَلِكَ الْأَصْلَ الرَّاسِخَ وَهُوَ كَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم أُمِّيًّا نَشَأَ بَيْنَ أُمِّيِّينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ أُمَمِهِمْ؛ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ نُوحٍ عليه السلام: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [11: 49] وَقَدْ سَمِعَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ هَذِهِ الْآيَةَ وَسَائِرَ سُورَتِهَا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَلْ كُنَّا نَعْلَمُهَا، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى وَشُعَيْبٍ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمر} [28: 44] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ.
أَمَّا الْمُجَاحِدُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لاسيما دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَهُمْ يَقُولُونَ فِيمَا وَافَقَ الْقُرْآنُ بِهِ كُتُبَهُمْ أنه مَأْخُوذٌ مِنْهَا بِدَلِيلِ مُوَافَقَتِهِ لَهَا، وَفِيمَا خَالَفَهَا أنه غَيْرُ صَحِيحٍ بِدَلِيلِ أنه خَالَفَهَا، وَفِيمَا لَمْ يُوَافِقْهَا وَلَمْ يُخَالِفْهَا بِهِ أنه غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَنَا، وَهَذَا مُنْتَهَى مَا يُكَابِرُ بِهِ مُنَاظِرٌ مُنَاظِرًا، وَأَبْطَلُ مَا يَرُدُّ بِهِ خَصْمٌ عَلَى خَصْمٍ. وَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّنَا نَحْتَجُّ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ الْحَقُّ بِمَا قَامَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ حِفْظِ كِتَابِهِ، وَنَقْلِهِ بِالتَّوَاتُرِ الصَّحِيحِ، وَمِنْ تِلْكَ الدَّلَائِلِ الَّتِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ مَعْرِفَةُ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا- كَمَا تَقَدَّمَ- فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ نَفْسِهَا، وَمَا جَاءَ فِيهَا مُخَالِفًا لِمَا فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ نُعِدُّهُ مُصَحِّحًا لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ بِانْقِطَاعِ أَسَانِيدِهَا حَتَّى أَنَّ أَعْظَمَهَا وَأَشْهَرَهَا كَالْأَسْفَارِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى مُوسَى عليه السلام لَا يُعْرَفُ كَاتِبُهَا وَلَا زَمَنَ كِتَابَتِهَا وَلَا اللُّغَةَ الَّتِي كُتِبَتْ بِهَا أَوَّلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِلْمَاعُ إِلَى ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ.
{إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إسرائيل أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}.
قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} شُرُوعٌ فِي خَبَرِ عِيسَى بَعْدَ قِصَّةِ أُمِّهِ وَقِصَّةِ زَكَرِيَّا- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ قوله: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ} وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ نَاطِقٌ بِحِكْمَةِ نُزُولِ الْآيَاتِ، مُبَيِّنٌ وَجْهَ دَلَالَتِهَا عَلَى صِدْقِ مَنْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَشَّرَتْ مَرْيَمَ بِالْوَلَدِ الصَّالِحِ حِينَ بَشَّرَتْهَا بِاصْطِفَاءِ اللهِ إِيَّاهَا وَتَطْهِيرِهِ لَهَا وَأَمَرَتْهَا بِمَزِيدِ عِبَادَتِهِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي شُكْرِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَلَائِكَةِ هُنَا الرُّوحُ جِبْرِيلُ لِقوله تعالى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [19: 17] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ. وَفِي لَفْظِ كَلِمَةٍ أَرْبَعَةُ وُجُوهٍ:
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلِمَةِ كَلِمَةُ التَّكْوِينِ لَا كَلِمَةُ الْوَحْيِ؛ ذَلِكَ أنه لَمَّا كَانَ أَمْرُ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَكَيْفِيَّةِ صُدُورِهِ عَنِ الْبَارِي- عَزَّ وَجَلَّ- مِمَّا يَعْلُو عُقُولَ الْبَشَرِ عَبَّرَ عَنْهُ سبحانه بِقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [36: 82] فَكَلِمَةُ (كُنْ) هِيَ كَلِمَةُ التَّكْوِينِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا، وَهَاهُنَا يُقَالُ: إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ خُلِقَ بِكَلِمَةِ التَّكْوِينِ فَلِمَاذَا خَصَّ الْمَسِيحَ بِإِطْلَاقِ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِ؟ وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ تُنْسَبُ فِي الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ الْعَامِّ فِي الْبَشَرِ إِلَى أَسْبَابِهَا، وَلَمَّا فُقِدَ فِي تَكْوِينِ الْمَسِيحِ وَعُلُوقِ أُمِّهِ بِهِ مَا جَعَلَهُ اللهُ سَبَبًا لِلْعُلُوقِ، وَهُوَ تَلْقِيحُ مَاءِ الرَّجُلِ لِمَا فِي الرَّحِمِ مِنَ الْبُوَيْضَاتِ الَّتِي يَتَكَوَّنُ مِنْهَا الْجَنِينُ أُضِيفَ هَذَا التَّكْوِينُ إِلَى كَلِمَةِ اللهِ، وَأُطْلِقَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى الْمُكَوَّنِ إِيذَانًا بِذَلِكَ، أَوْ جُعِلَ كَأَنَّهُ نَفْسُ الْكَلِمَةِ مُبَالَغَةً، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْمَشْهُورُ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) أنه أُطْلِقَ عَلَى الْمَسِيحِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى بِشَارَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِهِ، فَهُوَ قَدْ عُرِفَ بِكَلِمَةِ اللهِ، أَيْ بِوَحْيِهِ لِأَنْبِيَائِهِ. قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَالْكَلِمَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ كَقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [37: 171] إِلَخْ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أنه أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْكَلِمَةِ لِمَزِيدِ أيضاحِهِ لِكَلَامِ اللهِ الَّذِي حَرَّفَهُ قَوْمُهُ الْيَهُودُ حَتَّى أَخْرَجُوهُ عَنْ وَجْهِهِ، وَجَعَلُوا الدِّينَ مَادِّيًّا مَحْضًا، قَالَهُ الرَّازِيُّ وَجَعَلَهُ مِنْ قَبِيلِ وَصْفِ النَّاسِ لِلسُّلْطَانِ الْعَادِلِ بِظِلِّ اللهِ وَنُورِ اللهِ؛ لِمَا أنه سَبَبٌ لِظُهُورِ ظِلِّ الْعَدْلِ وَنُورِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: فَكَذَلِكَ كَانَ عِيسَى سَبَبًا لِظُهُورِ كَلَامِ اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ- بِسَبَبِ كَثْرَةِ بَيَانَاتِهِ لَهُ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَاتِ وَالتَّحْرِيفَاتِ عَنْهُ.