فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكذلك قول الشاعر: [الطويل]
تَقِيٌّ نَقِيٌّ، لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةً ** بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ

كيف اتخذ معنى النفي في قوله: لم يُكَثِّرْ، وفي قوله: ولا بِحَقلَّدٍ، أي: ليس بمكثر ولا بحقلدٍ.
وكذلك ما جاء منه.
قال شهابُ الدّينِ: ويمكن أن يريد هذا القائلُ أنه معطوف على معنى {مُصَدِّقًا} أي: بسبب دلالته على علةٍ محذوفةٍ، هي موافقة له في اللفظ، فنسب العطف على معناه، باعتبار دلالته على العلة المحذوفة لأنها تشاركه في أصل معناه- أعني مدلول المادة- وإن كانت دلالة الحال غير دلالة العقل.
الثاني: أنه معطوف على عِلَّةٍ مقدرة، أي: جئتكم بآية، ولأوسِّعَ عليكم ولأحِلَّ، أو لأخفِّفَ عنكم ولأحِلَّ، ونحو ذلك.
الثالث: أنه معمول لفعلٍ مُضْمَرٍ؛ لدلالة ما تقدم عليه، أي: وجئتكم لأحِلَّ، فحذف العامل بعد الواو.
والرابع: أنه متعلق بقوله: {وَأَطِيعُونِ} والمعنى اتبعوني لأحِلَّ لكم. وهذا بَعِيدٌ جدًا أو مُمتنع.
الخامس: أن يكون {ولأُحِلَّ لَكُمْ} ردًا على قوله: {بِآيةٍ}. قال الزمخشريُّ: {وَلأُحِلَّ} رَدٌّ على قوله: {بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي: جئتكم بآية من ربكم ولأحلَّ.
قال أبو حيان: ولا يستقيم أن يكون {وَلأُحِلَّ لَكُم} رداَّ على {بآيَةٍ}، لأن {بِآيَةٍ} في موضع حال و{لأحل} تعليل، ولا يَصِحُّ عطف التعليل على الحال؛ لأن العطف بالحرف المشرك في الحكم يوجب التشريك في جنس المعطوفِ عليه، فإن عطفت على مصدر، أو مفعولٍ به، أو ظرفٍ، أو حالٍ، أو تعليل وغير ذلك شارَكه في ذلك المعطوف.
قال شهاب الدين: ويحتمل أن يكون جوابه ما تقدم من أنه أراد ردًا على {بآية} من حيث دلالتها على عمل مقدر.
قوله: {بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} المراد بـ {بَعْض} مدلوله في الأصل.
قال أبو عبيدة: إنها- هنا- بمعنى كل.
مستدلًا بقول لَبِيد: [الكامل]
تَرَّاكُ أمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أرْضَهَا ** أوْ يَعْتَلِقُ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا

يعني كلّ النفوس.
وقد يرد الناسُ عليه بأنه كان يَلْزَمُ أن يُحِلَّ لهم الزنا، والسرقةَ، والقَتْلَ؛ لأنها كانت محرَّمةً عليهم، فلو كان المعنى: ولأحِلَّ لكم كُلَّ الذي حُرِّم عليكم لأحلَّ لهم ذلك كلَّه.
واستدل بعضهم على أن بَعْضًا بمعنى كل بقول الآخر: [الطويل]
أبَا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا ** حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِنْ بَعْضِ

أي: أهون من كل شر.
واستدل آخرون بقول الشَّاعِر: [البسيط]
إنَّ الأمُورَ إذَا الأحْدَاثُ دَبَّرَهَا ** دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلاَ

أي: في كلها خللًا، ولا حاجة إلى إخراج اللفظ عن مدلوله مع إمكان صحة معناه؛ إذ مراد لبيد ببَعْضَ النُّفُوسِ نفسه هو والتبعيض في البيت الآخر واضح؛ فإن الشر بعضه أهون من بعضٍ آخر لا من كُلِّه، وكذلك ليس كل أمر دبره الأحداث كان خَلَلًا، بل قد يأتي تدبيره خيرًا من تدبير الشيخ.
وقرأ العامة: {حُرِّمَ} بالبناء للمفعول، والفاعل هو الله. وقرأ عكرمة {حَرَّمَ} مبنيًّا للفاعل وهو الله تعالى، أو الموصول في قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}؛ لأنه كتاب مُنزَّل، أو موسى؛ لأنه هو صاحب التوراة، فأضمر بالدلالة عليه بذكر كتابه.
وقرأ إبراهيم النّخْعِيُّ: {حَرُمَ}- بوزن شَرُفَ وظَرُفَ- ونُسِب الفعل إليه مجازًا للعلم بأن المُحَرِّم هو الله.
قوله: {وَجِئْتُكُمْ} هذه الجملة يحتمل أن تكون تأكيدًا للأولَى؛ لتقدُّم معناها ولفظها قبل ذلك.
قال أبو البقاء: هذا تكرير للتوكيد؛ لأنه قد سبق هذا المعنى في الآية التي قبلها.
ويحتمل أن تكون للتأسيس؛ لاختلاف متعلَّقها ومتعلَّق ما قبلها.
قال أبو حَيَّانَ: قوله: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} للتأسيس، لا للتوكيد لاختلاف متعلقها لقوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} وتكون هذه الآية هي {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه}، لأن هذا القولَ شاهدٌ على صحة رسالتِه؛ إذ جميعُ الرُّسُلِ كانوا عليه لم يختلفوا فيه، وجعل هذا القولَ آيةَ وعلامةً؛ لأنه رسول كسائر الرُّسُلِ؛ حيث هداه للنظر في أدلَّةِ العقل والاستدلال قاله الزمخشريُّ، وهو صحيح. اهـ. بتصرف يسير.
قال ابن عادل:
قوله: {مُصَدِّقًا} نَسَقٌ على محل بآيةٍ، لأن محل {بآيَةٍ} في محل نصبٍ على الحالِ؛ إذ التقدير وجئتكم متلبسًا بآيةٍ ومصدقًا.
وقال الفراء والزَّجَّاجُ: نصب {مُصَدِّقًا} على الحال، المعنى: وجئتكم مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ، وجاز إضمار {جئتكم}، لدلالة أول الكلام عليه- وهو قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}- ومثله في الكلام: جئته بما يُحِبُّ ومُكْرِمًا له.
قال الفراء: ولا يجوز أن يكون {مُصَدِّقًا} معطوفًا على {وَجِيهًا}؛ لأنه لو كان كذلك لقال: أو مصدقًا لما بين يديه، يعني: أنه لو كان معطوفًا عليه؛ لأتى معه بضمير الغيبة، لا بضمير التكلُّم.
وذكر غير الفرّاء، ومنع- أيضا- أن يكون منسوقًا على {رَسُولًا} قال: لأنه لو كان مردودًا عليه لقال: ومصدقًا لما بين يديك؛ لأنه خاطب بذلك مريم، أو قال: بين يديه.
يعني أنه لو كان معطوفًا على {رَسُولًا} لكان ينبغي أن يُؤتَى بضمير الخطاب؛ مراعاةً لمريم، أو بضمير الخطاب مراعاةً للاسم الظاهر.
قال أبو حيّان: وقد ذكرنا أنه يجوز في {رَسُولًا} أن يكون منصوبًا بإضمار فعل- أي: وأرسلت رسولًا- فعلى هذا التقدير يكون {مُصَدِّقًا} معطوفًا على {رَسُولًا}.
قوله: {مِنَ التوراة} فيه وجهان:
أحدهما: أنه حال من ما الموصولة، أي: الذي بين يدي حال كونه من التوراةِ، فالعامل فيه مصدقًا لأنه عامل في صاحب الحالِ.
الثاني: أنه حال من الضمير المُسْتَتِر في الظرف الواقع صِلَةً. والعامل فيه الاستقرارُ المُضْمَرُ في الظرف أو نفس الظرف؛ لقيامه مقامَ الفعل. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}:

.قال ابن الجوزي:

{وجئتكم بآية} أي: بآيات تعلمون بها صدقي، وإنما وحد، لأن الكل من جنس واحد. اهـ.

.قال الفخر:

خوفهم فقال: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} لأن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله تعالى فبيّن أنه إذا لزمكم أن تتقوا الله لزمكم أن تطيعوني فيما آمركم به عن ربي. اهـ.

.قال الطبري:

يعني بذلك: وجئتكم بآية من ربكم تعلمون بها يقينًا صدقي فيما أقول: {فاتقوا الله}، يا معشرَ بني إسرائيل، فيما أمركم به ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله على موسى، فأوفوا بعهده الذي عاهدتموه فيه {وأطيعون}، فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به إليكم ربي وربكم، فاعبدوه، فإنه بذلك أرسلني إليكم، وبإحلال بعض ما كان محرّمًا عليكم في كتابكم، وذلك هو الطريق القويمُ، والهدى المتينُ الذي لا اعوجاج فيه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد ابن عاشور:

قال رحمه الله:
{ومصدّقًا} حال من ضمير المقدّر معه، وليس عطفًا على قوله: {ورسولا} [آل عمران: 49] لأنّ رسولًا من كلام الملائكة، {ومصدقًا} من كلام عيسى بدليل قوله: {لما بين يدي}.
والمصدّق: المخبر بصِدق غيره، وأدخلت اللام على المفعول للتقوية، للدلالة على تصديقٍ مُثبت محقّق، أي مصدّقًا تصديقًا لا يشوبُه شك ولا نِسبةٌ إلى خطأ.
وجَعْل التصديق متعديًا إلى التوراة تَوْطئة لقوله: {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم}.
ومعنى ما بين يديّ ما تقدم قبلي، لأنّ المتقدّم السابق يمشي بين يدي الجائي فهو هنا تمثيل لحالة السبق، وإن كان بينه وبين نزول التوراة أزمنة طويلة، لأنّها لما اتّصل العمل بها إلى مَجيئه، فكأنها لم تسبقه بزمن طويل.
ويستعمل بين يديْ كذا فِي معنى المشاهَد الحاضر، كما تقدم في قوله تعالى: {يعلم ما بين أيديهم} في سورة البقرة.
وعَطْف قوله: {ولأحِلّ} على {رسولًا} وما بعده من الأحوال: لأنّ الحال تشبه العلة؛ إذ هي قيد لعاملها، فإذا كان التقييد على معنى التعليل شابَه المفعولَ لأجله، وشابَه الجرور بلام التعليل، فصح أن يُعطف عليها مجرورٌ بلام التعليل.
ويجوز أن يكون عطفًا على قوله: {بآية من ربكم} فيتعلّق بفعللِ جئتكم.
وعقب به قوله: {مصدّقًا لما بين يديّ} تنبيهًا على أنّ النسخ لا ينافي التصديق؛ لأنّ النسخ إعلام بتغيُّر الحكم.
وانحصرت شريعة عيسى في إحياء أحكام التوراة وما تركوه فيها وهو في هذا كغيره من أنبياء بني إسرائيل، وفي تحليل بعض ما حرمه الله عليهم رعيًا لحالهم في أزمنة مختلفة، وبهذا كان رسولًا.
قيل أحلّ لهم الشحوم، ولحوم الإبل، وبعض السمك، وبعض الطير: الذي كان محرّمًا من قبل، وأحلّ لهم السبت، ولم أقف على شيء من ذلك في الإنجيل.
وظاهر هذا أنه لم يحرّم عليهم ما حلّل لهم، فما قيل: أنه حرّم عليهم الطلاق فهو تقوُّل عليه وإنّما حذّرهم منه وبَيّن لهم سوء عواقبه، وحرّم تزوج المرأة المطلّقة وينضم إلى ذلك ما لا تخلو منه دعوة: من تذكير، ومواعظ، وترغيبات.
{وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} {إِنَّ الله رَبِّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ}.
وقوله: {وجئتكم بآية من ربكم} تأكيد لقوله الأولِ: {أنى قد جئتكم بآية من ربكم} [آل عمران: 49].
وإنما عطف بالواو لأنه أريد أن يكون من جملة الأخبار المتقدّمة ويحصل التأكيد بمجرّد تقدم مضمونه، فتكون لهذه الجملة اعتباران يجعلانها بمنزلة جملتين، وليبنى عليه التفريع بقوله: {فاتقوا الله وأطيعون}. اهـ.

.من فوائد الشعراوي:

قال رحمه الله:
{وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}.
وقد قلنا: إن {مصدقا} تعني أن ما جاء به عيسى بن مريم مطابق لما جاء في التوراة. وقلنا: إن {ما بين يدي} الإنسان هو الذي سبقه، أي الذي جاء من قبله وصار أمامه. وما دام عيسى ابن مريم جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة في زمانه، وكانت التوراة موجودة، فلماذا جاءت رسالته إذن؟
لكن القول الحق يتضمن هذا المعنى: إن عيسى سيأتي بأحكام جديدة، ويتضح ذلك في قوله الحق سبحانه على لسان عبده عيسى ابن مريم: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} إذن فليس المهم هو التصديق فقط، ذلك أن عيسى جاء ليحل بعضا من الذي حرمته التوراة.
وقد يقول قائل: إذا كانت الكتب السماوية تأتي مصدقة بعضها بعضا فما فائدة توالي نزول الكتب السماوية؟ والإجابة هي: أن فائدة الكتب السماوية اللاحقة أنها تذكر من سها عن الكتب السابقة، هذا في المرتبة الأولى، وثانيا: تأتي الكتب السماوية بأشياء، وأحكام تناسب التوقيتات الزمنية التي تنزل فيها هذه الكتب. هذه هي فوائد الكتب السماوية التي توالت نزولا من الحق على رسله، إنها تذكر من عقل وتُعَدلّ في بعض الأحكام.
ومن الطبيعي أننا جميعا نفهم أن العقائد لا تبديل فيها، وكذلك الأخبار والقصص، لكن التبديل يشمل بعضا من الأحكام. ولهذا جاء القول الحق على لسان عبده عيسى ابن مريم: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} ونحن نعرف أن القوم الذي أرسل الله عيسى ابن مريم لهم هم بنو إسرائيل، والتحريم والتحليل يكون بحكمة من الله.
إن لله حكمة فيما يحلل وحكمة فيما يحرم، إنما إياك أن تفهم أن كل شيء يحرمه الله يكون ضارا؛ قد يحرم الله أشياء لتأديب الخلق، فيأمر بالتحريم، ولا يصح أن تسأل عن الضرر فيها، وقد يعيش المؤمن دنياه ولم يثبت له ضرر بعض ما حرم الله. فإن تساءل أحد: لماذا حرم الله ذلك؟ تقول له: من الذي قال لك إن الله حين يحرم فهو يحرم الشيء الضار فقط؟ أنه الحق سبحانه يحرم الضار، ويحرم بعضا مما هو غير ضار، ولذلك قال الحق: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيرًا} [النساء: 160].
وتفصيل ذلك في آية أخرى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146].
إذن التحرير ليس ضروريا أن يكون لما فيه الضرر، ولهذا جاء قول الحق على لسان عبده ورسوله إلى بني إسرائيل عيسى ابن مريم: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} لقد جاء عيسى ابن مريم ليُحل لهم بأمر من الله ما كان قد حرمه الله عليهم من قبل.
وبعد ذلك يقول الحق على لسان عبده ورسوله عيسى ابن مريم: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ الله وَأَطِيعُونِ} ومجموعة هذه الأوامر التي تقدمت هي آية أي شيء عجيب، بلغت القوم الذين أرسل الله عيسى إليهم، أنه كرسول وكبشر لا يستطيع أن يجيء بالآية المعجزة بمفرده بل لابد أن يكون مبعوثا من الله. فيجب أن يلتفتوا إلى أن الله الذي أرسله، وله طلاقة القدرة في خرق النواميس هو سبحانه الذي أجرى على يدي عيسى هذه الأمور، ويأمرهم عيسى ابن مريم بتقوى الله نتيجة لذلك، ويدعو القوم لطاعته في تطبيق منهج الله.
وبعد ذلك يقول الحق على لسان عيسى ابن مريم: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ}. اهـ.

.من اللطائف في الآيات السابقة:

قال ابن عجيبة:
كل من انقطع بكليته إلى مولاه، وصدف عن حظوظه، وهواه، وأفنى شبابه في طاعة ربه، وجعل يلتمس في حياته دواء قلبه، تحققت له البشارة في العاجل والآجل، وحصل له التطهير من درن العيوب والرذائل، ورزقه من فواكه العلوم، ما تتضاءل دون إدراكه غاية الفهوم، هذه مريم البتول أفنت شبابها في طاعة مولاها، فقربها إليه وتولاها، وبشرها بالاصطفائية والتطهير، وأمرها شكرًا بالجد والتشمير، ثم بشّرها ثانيًا بالولد النزيه والسيد النبيه، روح الله وكلمة الله، من غير أب ولا سبب، ولا معالجة ولا تعب، أمره بأمر الله، يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، هذا كله ببركة الانقطاع وسر الاتباع.
قال صلى الله عليه وسلم: «من انقطع إلى الله كَفَاه الله كلَّ مُؤْنة، ورَزقه من حيثُ لا يحتسِبُ، ومن انقطعَ إلى الدنيا وكَلَه الله تعالى إليها».
وقال بعضهم: صِدْقُ المجاهدة: الانقطاع إليه من كل شيء سواه. فالانقطاع إلى الله في الصغر يخدم على الإنسان في حال الكبر، ومعاصي الصغر تجر الوبال إلى الكبر، فكما أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، كذلك من انقطع بكُلِّيته إلى الله أبرأ القلوبَ السقيمة بإذن الله، وأحيا موتى القلوب بذكر الله، وأخبر بالغيوب وما تدخره ضمائر القلوب، يدل على طاعة الله، ويدعو بحاله ومقاله إلى الله، يهدي الناس إلى الصراط المستقيم، ويوصل من اتبعه إلى حضرة النعيم. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق. اهـ.