فصل: (سورة آل عمران: الآيات 45- 51)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة آل عمران: الآيات 45- 51]

{إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ الله يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلى بَنِي إسرائيل أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا الله وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)}.
{الْمَسِيحُ} لقب من الألقاب المشرفة، كالصدّيق والفاروق، وأصله مشيحا بالعبرانية، ومعناه المبارك، كقوله: {وَجَعَلَنِي مُبارَكًا أَيْنَ ما كُنْتُ} وكذلك (عيسى) معرب من أيشوع، ومشتقهما من المسح والعيس، كالراقم في الماء. فإن قلت: {إِذْ قالَتِ} بم يتعلق؟ قلت: هو بدل من {وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ} ويجوز أن يبدل من {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} على أن الاختصام والبشارة وقعا في زمان واسع، كما تقول: لقيته سنة كذا. فإن قلت: لم قيل: عيسى ابن مريم والخطاب لمريم؟
قلت: لأنّ الأبناء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات، فأعلمت بنسبته إليها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه، وبذلك فضلت واصطفيت على نساء العالمين. فإن قلت: لم ذكر ضمير الكلمة؟ قلت لأن المسمى بها مذكر. فإن قلت: لم قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وهذه ثلاثة أشياء: الاسم منها عيسى، وأما المسيح والابن فلقب وصفة؟ قلت: الاسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره، فكأنه قيل: الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة {وَجِيهًا} حال من {بِكَلِمَةٍ} وكذلك قوله: {ومن المقربين}، {ويكلم}، {ومن الصالحين}. أي يبشرك به موصوفا بهذه الصفات. وصح انتصاب الحال من النكرة لكونها موصوفة. والوجاهة في الدنيا: النبوّة والتقدم على الناس. وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة. وكونه {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} رفعه إلى السماء وصحبته للملائكة. والمهد: ما يمهد للصبي من مضجعه، سمى بالمصدر.
و{فِي الْمَهْدِ} في محل النصب على الحال {وَكَهْلًا} عطف عليه بمعنى: ويكلم الناس طفلا وكهلا.
ومعناه: يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء، من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء. ومن بدع التفاسير أن قولها: {رَبِّ} نداء لجبريل عليه السلام بمعنى يا سيدي {ونعلمه} عطف على يبشرك، أو على وجيها أو على يخلق، أو هو كلام مبتدأ. وقرأ عاصم ونافع: ويعلمه، بالياء. فإن قلت: علام تحمل: ورسولا، ومصدّقا، من المنصوبات المتقدّمة، وقوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} و{لِما بَيْنَ يَدَيَّ} يأبى حمله عليها؟ قلت:
هو من المضايق، وفيه وجهان: أحدهما أن يضمر له (وأرسلت) على إرادة القول تقديره: ونعلمه الكتاب والحكمة، ويقول أرسلت رسولا بأنى قد جئتكم. ومصدقا لما بين يدي. والثاني أن الرسول والمصدّق فيهما معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقا بأنى قد جئتكم، وناطقا بأنى أصدق ما بين يدي وقرأ اليزيدي: ورسول: عطفًا على كلمة {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} أصله أرسلت بأنى قد جئتكم، فحذف الجار وانتصب بالفعل، و{أَنِّي أَخْلُقُ} نصب بدل من {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} أو جرّ بدل من آية، أو رفع على: هي أنى أخلق لكم، وقرئ: إنى، بالكسر على الاستئناف، أي أقدر لكم شيئا مثل صورة الطير {فَأَنْفُخُ فِيهِ} الضمير للكاف، أي في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير {فَيَكُونُ طَيْرًا} فيصير طيرًا كسائر الطيور حيًا. وقرأ عبد الله: فأنفخها. قال:
كَالْهَبْرَقِىِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الْفَحْمَا

وقيل: لم يخلق غير الخفاش الْأَكْمَهَ الذي ولد أعمى، وقيل هو الممسوح العين. ويقال: لم يكن في هذه الأمّة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير.
وروى أنه ربما اجتمع عليه خمسون ألفا من المرضى، من أطاق منهم أتاه، ومن لم يطق أتاه عيسى، وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده. وكرر {بِإِذْنِ الله} دفعًا لوهم من توهم فيه اللاهوتية.
وروى أنه أحيا سام بن نوح وهم ينظرون، فقالوا هذا سحر فأرنا آية: فقال يا فلان أكلت كذا، ويا فلان خبئ لك كذا. وقرئ تذخرون، بالذال والتخفيف {وَلِأُحِلَّ} ردّ على قوله: {بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي جئتكم بآية من ربكم، ولأحل لكم ويجوز أن يكون {مُصَدِّقًا} مردودا عليه أيضا، أي جئتكم بآية وجئتكم مصدقا. وما حرم الله عليهم في شريعة موسى: الشحوم والثروب ولحوم الإبل، والسمك، وكل ذى ظفر، فأحل لهم عيسى بعض ذلك. وقيل: أحل لهم من السمك والطير ما لا صيصية له. واختلفوا في إحلاله لهم السبت. وقرئ {حرم عليكم} على تسمية الفاعل، وهو ما بين يدىّ من التوراة، أو الله عزّ وجلّ، أو موسى عليه السلام لأن ذكر التوراة دل عليه، ولأنه كان معلوما عندهم. وقرئ: حرم، بوزن كرم.
{وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} شاهدة على صحة رسالتي وهي قوله: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} لأنّ جميع الرسل كانوا على هذا القول لم يختلفوا فيه: وقرئ بالفتح على البدل من {بِآيَةٍ}.
وقوله: {فَاتَّقُوا الله وَأَطِيعُونِ} اعتراض، فإن قلت: كيف جعل هذا القول آية من ربه؟ قلت لأنّ الله تعالى جعله له علامة يعرف منها أنه رسول كسائر الرسل، حيث هداه للنظر في أدلة العقل والاستدلال. ويجوز أن يكون تكريرًا لقوله: {جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم، من خلق الطير، والإبراء، والإحياء، والإنباء بالخفايا، وبغيره من ولادتي بغير أب، ومن كلامى في المهد، ومن سائر ذلك. وقرأ عبد الله. وجئتكم بآيات من ربكم، فاتقوا الله لما جئتكم به من الآيات، وأطيعونى فيما أدعوكم إليه. ثم ابتدأ فقال: إن الله ربى وربكم. ومعنى قراءة من فتح:
ولأنّ الله ربى وربكم فاعبدوه، كقوله: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ......فلْيَعْبُدُوا}.
ويجوز أن يكون المعنى: وجئتكم بآية على أن الله ربى وربكم وما بينهما اعتراض. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ الله يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إسرائيل أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا الله وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)}.
التفسير: القصة الثالثة قصة مريم:
والعامل في {إذ} هاهنا هو ما ذكر في قوله: {إذ قالت امرأة عمران} [آل عمران: 35] لمكان العطف. والمراد بالملائكة هاهنا جبريل كما يجيء، في سورة مريم {فأرسلنا إليها روحنا} [مريم: 17]. واعلم أن مريم ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم} [الأنبياء: 7] فإرسال جبريل إليها إما أن يكون كرامة لها عند من يجوّز كرامات الأولياء، وإما أن يكون إرهاصًا لعيسى وهو جائز عندنا وعند الكعبي من المعتزلة، أو معجزة لزكريا وهو قول جمهور المعتزلة. ومن الناس من قال: إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإلهام كما في حق أم موسى {وأوحينا إلى أم موسى} [القصص: 7]. ثم أنه تعالى مدحها بالاصطفاء ثم بالتطهير ثم بالاصطفاء ولا يجوز أن يكون الاصفطاآن بمعنى واحد للتكرار والصرف، فحمل المفسرون الاصطفاء الأول على ما اتفق لها من الأمور في أول عمرها منها قبول تحريرها مع كونها أنثى، ومنها قال الحسن: ما غذتها أمها طرفة عين بل ألقتها إلى زكريا وكان رزقها من عند الله، ومنها تفريغها للعبادة، ومنها إسماعها كلام الملائكة شفاهًا ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها إلى غير ذلك من أنواع اللطف والهداية والعصمة في حقها. وأما التطهير فتطهيرها عن الكفر والمعصية كما قال في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته {ويطهركم تطهيرًا} [الأحزاب: 33].
وعن مسيس الرجال وعن الحيض والنفاس قالوا: كانت لا تحيض وعن الأفعال الذميمة والأقوال القبيحة. وأما الاصطفاء الثاني فهو ما اتفق لها في آخر عمرها من ولادة عيسى بغير أب وشهادته ببراءتها عما قذفها اليهود. قيل: المراد اصطفاؤها على نساء عالمي زمانها لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كمل من نساء العالمين أربع: مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة» ثم لما بيّن اختصاصها بمزيد المواهب والعطايا أوجب عليها مزيد الطاعة شكرًا لتلك النعم. فقوله: {اقنتي} أمر بالعبادة على العموم {واسجدي} أمر بالصلاة تسمية للشيء بمعظم أركانه كما في قوله: {وأدبار السجود} [ق: 4] وفي الخبر: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين» ولا ريب أن السجود أشرف الأركان لقوله صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من الله تعالى وهو ساجد» ثم قال: {واركعي مع الراكعين} فالأول أمر بالصلاة مطلقًا، والثاني أمر بالصلاة في الجماعة. وإنما عبر عن الصلاة هاهنا بالركوع إما لتغيير العبارة وقد يسمى الشيء بأحد أركانه، وإما تسمية للشيء بمعظم أركانه بناء على ما قيل إن الركوع أفضل من السجود، لأن الراكع حامل نفسه في الركوع فالمشقة فيه أكثر، وللتمييز عن صلاة اليهود. وقيل: اركعي مع الراكعين أمر بالخضوع والخشوع بالقلب، ويحتمل أن يراد بقوله: {اقنتي} الأمر بالصلاة لأن القنوت أحد أجزائها، وأن يراد بقوله: {واسجدي واركعي} استعمال كل منهما في وقته اللائق به، والواو تفيد التشريك لا الترتيب، أو المراد انظمي نفسك في جملة المصلين وكوني في عدادهم لا في عداد غيرهم. وإنما لم يقل مع الراكعات إما للتغليب وإما لأن الاقتداء بالرجل حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء. روي أن مريم بعد ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسال الدم والقيح منهما. اللهم لا تؤاخذنا باسم الرجولية ونحن أقل في خدمتك من إحدى النساء {ذلك} الذي سبق من أنباء حنة وزكريا ويحيى ومريم من أخبار الغيب {نوحيه إليك} قد ورد الكتاب بالإيحاء على معان مختلفة يجمعها تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرها.
وبهذا التفسير يعد الإلهام وحيًا كقوله: {وأوحى ربك إلى النحل} [النحل: 68] وقال: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} [الأنعام: 121] وقال: {فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيًا} [مريم: 11] فلما كان الله سبحانه ألقى هذه الأنباء إلى النبي بواسطة جبريل بحيث تخفى على غيره سماه وحيًا {وما كنت لديهم} نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم، وترك نفي استماع الأنباء حفظتها وهو موهوم لأنه كان معلومًا عندهم علمًا يقينًا أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحي فلم يبق إلا المشاهدة الممتنعة في حقه صلى الله عليه وسلم فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي، ومثله في القرآن غير عزيز {وما كنت بجانب الغربي} [القصص: 44] {وما كنت بجانب الطور} [القصص: 46] {إذ يلقون أقلامهم} ينظرون أو ليعلموا أو يقولوا: {أيهم يكفل مريم} حذف متعلق الاستفهام لدلالة الإلقاء عليه. وظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يلقون الأقلام في شيء على وجه يظهر به امتياز بعضهم عن البعض في استحقاق ذلك المطلوب، وليس فيها دلالة على كيفية ذلك الإلقاء إلا أنه روي في الخبر أنهم كانوا يلقونها في الماء بشرط أن من جرى قلمه على خلاف جري الماء فاليد له. ثم أنه حصل هذا المعنى لزكريا فصار أولى بكفالتها. وقيل: عرف برسوب الأقلام وارتفاعها كما مر.
وعن الربيع أنهم ألقوا عصيهم في الماء الجاري فجرت عصا زكريا على ضد جرية الماء فغلبهم. وقال أبو مسلم: المراد بإلقاء الأقلام ما كانت تفعله الأمم من المساهمة عند التنازع، فيطرحون سهامًا يكتبون عليها أسماءهم. فمن خرج له السهم سلم له الأمر. قال تعالى: {فساهم فكان من المدحضين} [الصافات: 141] وهو شبيه بالقداح التي يتقاسم بها العرب لحم الجزور. وإنما سميت تلك السهام أقلامًا لأنها تقلم وتبرى. قال القاضي: وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحًا نظرًا إلى أصل الاشتقاق إلا أن العرف الظاهر يوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به فوجب حمل اللفظ عليه.
{وما كنت لديهم إذ يختصمون} يتنازعون على التكفل. قيل: هم خزنة البيت. وقيل: بل العلماء والأحبار وكتاب الوحي. ولا شبهة في أنهم كانوا من الخواص وأهل الفضل في الدين والرغبة في طريق الخير. ثم المراد بهذا الاختصام يحتمل أن يكون ما كان قبل الاقتراع وأن يكون اختصامًا آخر حصل بعد الاقتراع. وبالجملة فالمقصود شدة رغبتهم في التكفل بشأنها والقيام بإصلاح مهامها، إما لأن عمران كان رئيسًا لهم فأرادوا قضاء حقوقه، وإما لأجل الدين حيث كانت محررة لخدمة بيت العبادة وإما لأنهم وجدوا في الكتب الإلهية أن لها ولابنها شأنًا.
القصة الرابعة حكاية ولادة عيسى وذكر طرف من معجزاته {إذ قالت الملائكة} يعني جبريل كما مر. ومتعلق {إذ} هو متعلق {وإذ قالت} لأن هذا بدل من ذاك، ويجوز أن يكون بدلًا من قوله: {إذ يختصمون}.
قال في الكشاف: هذا على أن الاختصام والبشارة وقعا في زمان واسع كما تقول: لقيته سنة كذا يعني وإنما لقيته في ساعة منها. فيكون الزمان الواسع زمانًا لكل منهما، فيكون الثاني بدل الكل من الأول. ويجوز أن يتعلق بـ {يختصمون} ولا يحتاج إلى زمان واسع بناء على ما روي عن الحسن أنها كانت عاقلة في حال الصغر، وأن ذلك كان من كراماتها، فجاز أن ترد عليها البشرى في حالة الصغر ولا يفتقر إلى أن يؤخر إلى حين العقل. واعلم أن حدوث الشخص من غير نطفة الأب أمر ممكن في نفسه، وكيف لا وقد يشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد كتولد الفأر عن المدر، والحيات عن الشعر العفن، والعقارب عن الباذروج غايته الاستبعاد عرفًا وعادة وهذا لا يوجب عند الحكماء ظنًا قويًا فضلًا عن العلم. ثم إن الصادق أخبر عن وجود ذلك الممكن فيجب القطع بصحته. ومما يزيده في العقل بيانًا أن التخيلات الذهنية كثيرًا ما تكون أسبابًا لحدوث الحوادث. كتصور حضور المنافي للغضب، وكتصور السقوط لحصول السقوط للماشي على جذع ممدود فوق فضاء بخلاف ما لو كان على قرار من الأرض. وقد جعلت الفلاسفة هذا كأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات. فما المانع أن يقال إنها لما تخيلت صورة جبريل كفى ذلك في علوق الولد في رحمها، فإن مني الرجل ليس إلا لأجل العقد، فإذا حصل الانعقاد لمني المرأة بوجه آخر أمكن علوق الولد. قوله: {بكلمة منه} لفظة من هاهنا ليست للتبعيض كما توهمت النصارى والحلولية لأنه تعالى غير متبعض بوجه من الوجوه، ولكنها لابتداء الغاية أي بكلمة حاصلة من الله. وذلك أن عيسى لما خلق من غير واسطة أب صار تأثير كلمة كن في حقه أظهر وأكمل فكان كأنه نفس الكلمة، كما أن من غلب عليه الجود والكرم والإقبال يقال أنه محض الجود ونفس الكرم وصريح الإقبال. وللمسيح لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق. وأصله مشيحا بالعبرانية ومعناه المبارك {وجعلني مباركًا أينما كنت} [مريم: 31] وكذلك عيسى معرب إيشوع.
أما احتمال اشتقاق عيسى من العيس البياض الذي تعلوه حمرة فبعيد، وأما احتمال المسيح من المسح فقريب وعليه الأكثرون.
عن ابن عباس: سمي بذلك لأنه ما كان يمسح ذا عاهة إلا يبرأ. وقال أحمد بن يحيى: لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها. وعلى هذا فيجوز أن يقال له مسيح بالتشديد كشريب. وقيل: لأنه مسح من الأوزار والآثام. وقيل: لأنه لم يكن في قدمه خمص وكان ممسوح القدمين. وقيل: لأنه ممسوح بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء ولا يمسح به غيرهم.
قالوا: ويجوز أن يكون هذا الدهن جعله الله علامة للملائكة يعرفون بها الأنبياء حين يولدون. وقيل: لأن جبريل مسحه بجناحيه وقت ولادته صيانة له عن مس الشيطان. وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحًا بالدهن. وأمالمسيح الدجال فسمي بذلك لأنه مسح إحدى عينيه، أو لأنه يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة. قالوا: ومثله الدجال دجل في الأرض أي قطعها. وقيل: الدجال من دجل الرجل إذا موّه ولبس. وتقديم المسيح- وهو اللقب- على الاسم- وهو عيسى- للتشريف والتنبيه على علو درجته. وإنما نسب إلى مريم والخطاب لمريم تنبيهًا على أنه لا أب له حتى ينسب إليه كما في سائر الأبناء فلا ينسب إلا إلى أمه. وذلك من جملة ما اصطفيت به. وإنما ذكر ضمير الكلمة في اسمه لأنه المسمى بها مذكر. وإنما قيل: {اسمه المسيح عيسى ابن مريم} والاسم من المجموع عيسى والمسيح لقب والابن صفة، لأن المراد التعريف والتمييز والذي يتميز به عن غيره هو مجموع الثلاثة.