فصل: بحث نفيس للدكتور عبد المجيد الزنداني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.بحث نفيس للدكتور عبد المجيد الزنداني:

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين وبعد:
فهذا هو البروفيسور ج. س. جورنجر أستاذ في كلية الطب قسم التشريح في جامعة جورج تاون في واشنطن. التقينا بهذا الأستاذ وسألناه: هل ذكر في تاريخ علم الأجنة أن الجنين يخلق في أطوار؟ وهل هناك من الكتب المتعلقة بعلم الأجنة ما قد أشار إلى هذه الأطوار في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعده بقرون، أم أن هذا التقسيم إلى أطوار لم يعرف إلا في منتصف القرن التاسع عشر؟
أجابنا بقوله: لقد كانت هناك عناية من اليونانيين بدراسة الجنين، وقد حاول عدد منهم أن يصف ما يدور للجنين وما يحدث فيه. قلنا له: نعم، نعلم هذا، إن هناك نظريات لبعض العلماء منهم أرسطو وغيره، ولكن هل هناك من ذكر أن هناك أطوارًا؟ لأننا نعلم أن الأطوار لم تعرف إلا في منتصف القرن التاسع عشر، ولم تثبت إلا في أوائل القرن العشرين.
فبعد نقاش طويل قال: لا. قلنا: هل هناك مصطلحات أطلقت على هذه الأطوار كالمصطلحات التي وردت في القرآن الكريم؟ قال: لا. قلنا فما رأيك في هذه المصطلحات التي تغطي أطوار الجنين؟ بعد مناقشة طويلة معه قدم بحثًا وألقاه في المؤتمر الطبي السعودي الثامن عن هذه الأطوار التي وردت في القرآن الكريم، وعن جهل البشرية بها، وعن شمول ودقة هذه المصطلحات التي أطلقها القرآن الكريم على هذه الأطوار لأحوال الجنين بعبارات موجزة وألفاظ مختصرة شملت حقائق واسعة.
ثم هو ذا يتكلم عن رأيه في هذا فيقول: البروفيسور جورنجر: أنه وصف للتطور البشري منذ تكوين الأمشاج إلى أن أصبحت كتلًا عضوية، عن هذا الوصف والأيضاحات الجلية والشاملة لكل مرحلة من مراحل تطور الجنين في معظم الحالات إن لم يكن في جميعها يعود هذا الوصف في قدمه إلى قرون عديدة قبل تسجيل المراحل المختلفة للتطور الجنيني البشري التي وردت في العلوم التقليدية العلمية.
الشيخ الزنداني: وتطرق البحث مع البروفيسور جورنجر حول هذه الظاهرة التي كشفت علميًا وكشفت حديثًا أنها لتزيل الإشكال الذي كان يثيره النصارى.
النصارى يقولون ها هو ذا عيسى عليه السلام قد خلق من أم فمن هو أبوه؟ يثيرون هذا الإشكال لا يتصورون أن يكون هناك خلق بدون أب. أجاب عليهم القرآن الكريم وبين لهم وضرب لهم مثلًا بآدم قال تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59].
إننا نجد ثلاثة أنواع من الخلق. آدم مخلوق بدون أب ولا أم. حواء مخلوقة بدون أم. عيسى عليه السلام مخلوق بدون أب. والذي قدر أن يخلق آدم عليه السلام بدون أب وأم قادر على أن يخلق عيسى عليه السلام من أم بدون أب، ومع ذلك لا يزال النصارى يجادلون، ويشاء الله سبحانه وتعالى أن يكشف لهم حجة بعد حجة وبرهانًا بعد برهان.لماذا تستشكلون هذا أيها النصارى؟ قالوا: لأنا لا نرى أبدًا مخلوقًا يمكن أن يأتي بغير أب ولا أم. فإذا بالعلم يكشف أن كثيرًا من الحيوانات الدنيا وكثيرًا من الكائنات الآن تتوالد وتنجب بدون تلقيح الذكور، فهذا النحل: جميع ذكوره عبارة عن بيض لم يلقح بماء الذكور والبيضة التي تلقح بماء الذكور تكون شغالة أنثى. أما الذكور فهي مخلوقة من بيض الملكة بدون ماء الذكور وهناك أمثلة كثيرة على ذلك.
بل لقد حدث في التقدم العلمي أن تمكن الإنسان أن ينبه بعض البيض لبعض الكائنات فتنمو هذه البيضة بدون حاجة إلى تلقيح الذكر.
وها هو ذا البروفيسور جورنجر يحدثنا عن هذا الأمر:
البروفيسور جورنجر: في نوع آخر لتناول الموضوع فإن البيض غير المخصب لكثير من الحيوانات اللافقارية والبرمائية والثديية السفلي يمكن تنشيطه بوسائل ميكانيكية، كالوخز بالإبرة، أو بوسائل مادية كالصدمة الحرارية، أو بوسائل كيميائية بأي عدد من المواد الكيمائية المختلفة، ويستمر البيض إلى مراحل تطور متقدمة، في بعض الأجناس يعتبر هذا النوع من التطور الجيني طبيعيًا.
الشيخ الزنداني: أين الإشكال إذًا عند النصارى؟ يقولون مستحيل أن يكون هناك مخلوق من أم بدون أب. ويقدم هذا الدليل ويصبح ذلك من الأمور التي يمكن أن تقاس فيما بعد فأي إشكال بعد ذلك؟ لقد أجاب الله تعالى الجواب القاطع الشافي وضرب مثلًا بآدم الذي هم يؤمنون به ليس له أب وليس له أم.
أنتم تستشكلون مخلوقًا من أم بدون أب فإن الله قد قدم لكم مثلًا مخلوقًا أنتم تعرفونه وتؤمنون به بدون أب وبدون أم وهو آدم عليه السلام.
{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}.
ويشاء الله جل وعلا أن يأتي هذا التقدم العلمي والكشف العلمي ليقيم دليلًا بعد دليل على بيان الحق الذي جاء به القرآن، وهكذا يتجلى هذا الكتاب الكريم مع مرور الزمن وتتجلى آياته، وتتضح لأكابر علماء عصرنا وللعلماء جيلًا بعد جيل، فهو الكتاب الذي لا يشبع منه العلماء ولا تنقضي عجائبه. اهـ.
من طريف ما ذكره الدكتور عبد الرزاق نوفل أنه قد ورد ذكر آدم في القرآن الكريم خمسا وعشرين مرة، ومثل ذلك العدد ورد ذكر عيسى بن مريم. اهـ..

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ}:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} ليس بصلة لآدم ولا صفة ولكنه خبر مستأنف على جهة التفسير بحال آدم، قال الزجاج: هذا كما تقول في الكلام مثلك كمثل زيد، تريد أن تشبهه به في أمر من الأمور، ثم تخبر بقصة زيد فتقول فعل كذا وكذا. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أن العقل دل على أنه لابد للناس من والد أول، وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوق بوالد لا إلى أول وهو محال، والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم عليه السلام كما في هذه الآية، وقال: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] وقال: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] ثم أنه تعالى ذكر في كيفية خلق آدم عليه السلام وجوهًا كثيرة:
أحدها: أنه مخلوق من التراب كما في هذه الآية.
والثاني: أنه مخلوق من الماء، قال الله تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ الماء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54].
والثالث: أنه مخلوق من الطين قال الله تعالى: {الذى أَحْسَنَ كُلَّ شيء خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ} [السجدة: 7، 8].
والرابع: أنه مخلوق من سلالة من طين قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ ثُمَّ جعلناه نُطْفَةً في قَرَارٍ مَّكِينٍ} [المؤمنون: 12، 13].
الخامس: أنه مخلوق من طين لازب قال تعالى: {إِنَّا خلقناهم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ} [الصافات: 11].
السادس: أنه مخلوق من صلصال قال تعالى: {إِنّى خالق بَشَرًا مِّن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 28].
السابع: أنه مخلوق من عجل، قال تعالى: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] الثامن: قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في كَبَدٍ} [البلد: 4] أما الحكماء فقالوا: إنما خلق آدم عليه السلام من تراب لوجوه:
الأول: ليكون متواضعًا.
الثاني: ليكون ستارًا.
الثالث: ليكون أشد التصاقًا بالأرض، وذلك لأنه إنما خلق لخلافة أهل الأرض، قال تعالى: {إِنّي جَاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
الرابع: أراد إظهار القدرة فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام وابتلاهم بظلمات الضلالة، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام وأعطاهم كمال الشدة والقوة، وخلق آدم عليه السلام من التراب الذي هو أكثف الأجرام، ثم أعطاه المحبة والمعرفة والنور والهداية، وخلق السموات من أمواج مياه البحار وأبقاها معلقة في الهواء حتى يكون خلقه هذه الأجرام برهانًا باهرًا ودليلًا ظاهرًا على أنه تعالى هو المدبر بغير احتياج، والخالق بلا مزاج وعلاج الخامس: خلق الإنسان من تراب ليكون مطفئًا لنار الشهوة، والغضب، والحرص، فإن هذه النيرأن لا تطفأ إلا بالتراب وإنما خلقه من الماء ليكون صافيًا تتجلى فيه صور الأشياء، ثم أنه تعالى مزج بين الأرض والماء ليمتزج الكثيف فيصير طينًا وهو قوله: {إِنّى خالق بَشَرًا مّن طِينٍ} ثم أنه في المرتبة الرابعة قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} والسلالة بمعنى المفعولة لأنها هي التي تسل من ألطف أجزاء الطين، ثم أنه في المرتبة السادسة أثبت له من الصفات ثلاثة أنواع:
أحدها: أنه من صلصال والصلصال: اليابس الذي إذا حرك تصلصل كالخزف الذي يسمع من داخله صوت.
والثاني: الحمأ وهو الذي استقر في الماء مدة، وتغير لونه إلى السواد.
والثالث: تغير رائحته قال تعالى: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259] أي لم يتغير.
فهذه جملة الكلام في التوفيق بين الآيات الواردة في خلق آدم عليه السلام. اهـ.
قال الفخر:
في الآية إشكال، وهو أنه تعالى قال: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} فهذا يقتضي أن يكون خلق آدم متقدمًا على قول الله له {كُنَّ} وذلك غير جائز.
وأجاب عنه من وجوه الأول: قال أبو مسلم: قد بينا أن الخلق هو التقدير والتسوية، ويرجع معناه إلى علم الله تعالى بكيفية وقوعه وإراداته لإيقاعه على الوجه المخصوص وكل ذلك متقدم على وجود آدم عليه السلام تقديمًا من الأزل إلى الأبد، وأما قوله: {كُنَّ} فهو عبارة عن إدخاله في الوجود فثبت أن خلق آدم متقدم على قوله: {كُنَّ}.
والجواب الثاني: وهو الذي عول عليه القاضي أنه تعالى خلقه من الطين ثم قال له {كُنَّ} أي أحياه كما قال: {ثم أنشأناه خلقًا آخر} فإن قيل الضمير في قوله خلقه راجع إلى آدم وحين كان ترابًا لم يكن آدم عليه السلام موجودًا.
أجاب القاضي وقال: بل كان موجودًا وإنما وجد بعد حياته، وليست الحياة نفس آدم وهذا ضعيف لأن آدم عليه السلام ليس عبارة عن مجرد الأجسام المشكلة بالشكل المخصوص، بل هو عبارة عن هوية أخرى مخصوصة وهي: إما المزاج المعتدل، أو النفس، وينجر الكلام من هذا البحث إلى أن النفس ما هي، ولا شك أنها من أغمض المسائل.
الجواب: الصحيح أن يقال لما كان ذلك الهيكل بحيث سيصير آدم عن قريب سماه آدم عليه السلام قبل ذلك، تسمية لما سيقع بالواقع.
والجواب الثالث: أن قوله: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} يفيد تراخي هذا الخبر عن ذلك الخبر كما في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} [البلد: 17] ويقول القائل: أعطيت زيدًا اليوم ألفًا ثم أعطيته أمس ألفين، ومراده: أعطيته اليوم ألفًا، ثم أنا أخبركم أني أعطيته أمس ألفين فكذا قوله: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} أي صيره خلقًا سويًا ثم أنه يخبركم أني إنما خلقته بأن قلت له {كُنَّ}. اهـ.
قال الفخر:
في الآية إشكال آخر وهو أنه كان ينبغي أن يقال: ثم قال له كن فكان فلم يقل كذلك بل قال: {كُنْ فَيَكُونُ}.
والجواب: تأويل الكلام، ثم قال له {كُنْ فَيَكُونُ} فكان.
واعلم يا محمد أن ما قال له ربك {كُنَّ} فإنه يكون لا محالة. اهـ.

.قال ابن كثير:

يقول تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله} في قدرة الله تعالى حيث خلقه من غير أب {كَمَثَلِ آدَمَ} فإن الله تعالى خلقه من غير أب ولا أم، بل {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} والذي خلق آدم قادر على خلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى بكونه مخلوقا من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل، فدعواها في عيسى أشد بطلانا وأظهر فسادًا. ولكن الرب، عَزّ وجل، أراد أن يظهر قدرته لخلقه، حين خَلَق آدم لا من ذكر ولا من أنثى؛ وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى، ولهذا قال تعالى في سورة مريم: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم: 21]. اهـ.

.قال ابن عادل:

وعن بعض العلماء أنه أسِر بالروم، فقال لهم: لِمَ تعبدون عيسى؟ قالوا: لأنه لا أبَ لَه.
قال: فآدم أوْلَى؛ لأنه لا أبوين له، قالوا: فإنه كان يُحْيي الموتَى؟ قال: فحَزقيل أوْلَى؛ لأن عيسى أحْيَى أربعةَ نفر، وحزقيل أحْيَى ثَمَانِيةَ آلاف، قالوا: فإنه كان يُبْرِئُ الأكمه والأبرص.
قال: فجَرْجيس أوْلَى؛ لأنه طُبخَ، وأحرق، وخَرَجَ سَالِمًا. اهـ.

.قال أبو حيان:

وقال بعض أهل العلم: المشاركة بين آدم وعيسى في خمسة عشر وصفًا: في التكوين، و: في الخلق من العناصر التي ركب الله منها الدنيا.
وفي العبودية، وفي النبوّة.
وفي المحنة: عيسى باليهود، وآدم بابليس، وفي: أكلهما الطعام والشراب، وفي الفقر إلى الله.
وفي الصورة، وفي الرفع إلى السماء والإنزال منها إلى الأرض، وفي الإلهام، عطس آدم فألهم، فقال الحمد لله.
وألهم عيسى، حين أخرج من بطن أمّة فقال: {إني عبد الله} وفي العلم، قال: {وعلم آدم الاسماء} وقال: {ويعلمه الكتاب والحكمة} وفي نفخ الروح فيهما {ونفخت فيه من روحي} {فنفخنا فيه من روحنا} وفي الموت، وفي فقد الأب. اهـ.