فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الآية.
هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن تدل على أن إبراهيم- عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- لم يكن مشركًا يوما؛ لأن نفي الكون الماضي في قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يدل على استغراق النفي لجميع الزمن الماضي كما دل عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} الآية، وقد جاء في موضع آخر ما يوهم خلاف ذلك وهو قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رأى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي... فَلَمَّا رأى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي... فَلَمَّا رأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} الآية، ومن ظنّ ربوبية غير الله فهو مشرك بالله كما دل عليه قول الله تعالى عن الكفار: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ}، والجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أنه مناظر لا ناظر ومقصوده التسليم الجدلي: أي هذا ربي على زعمكم الباطل، والمناظر قد يسلم المقدمة الباطلة تسليما جدليا ليفحم بذلك خصمه، فلو قال لهم إبراهيم في أول الأمر: الكوكب مخلوق لا يمكن أن يكون ربا، لقالوا له: كذبت، بل الكوكب ربّ، ومما يدل لكونه مناظرا لا ناظر قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} استدل به بن جرير على أنه غير مناظر من قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} لا دليل فيه على التحقيق؛ لأن الرسل يقولون مثل ذلك تواضعا وإظهارا لإلتجائهم إلى الله كقول إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}، وقوله هو وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} الآية.
الوجه الثاني: أنّ الكلام على حذف همزة الاستفهام أي: أهذا ربي؟ وقد تقرر في علم النحو أن حذف همزة الاستفهام إذا دلّ المقام عليها جائز، وهو قياسي عند الأخفش مع أم ودونها، ذُكِر الجواب أم لا، فمن أمثلته دون أم ودون ذكر الجواب قول الكميت:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ** ولا لعبا مني وذو شيب يلعب

يعني أو ذو الشيب يلعب؟، وقول أبي خراش الهذلي واسمه بن خويلد:
رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع ** فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

بعني أهم هم كما هو الصحيح، وجزم به الألوسي في تفسيره، وذكره ابن جرير عن جماعة، ويدل له قوله: وأنكرت الوجوه، ومن أمثلته دون أم مع ذكر الجواب قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
ثم قالوا تحبها قلت بهرا ** عدد النجم والحصى والتراب

يعني: أتحبُّها على القول الصحيح، وهو مع أم كثير جدًا، ومن أمثلته قول الأسود بن يعفر التميمي وأنشده سيبويه لذلك:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ** شعيث بن سهم أو شعيث بن منقر

يعني أشعيث بن سهم؟ وقول بن أبي ربيعة المخزومي:
بدا لي منها معصم يوم جمرت ** وكف خضيب زينت ببنان

فوالله ما أدري وإني لحاسب ** بسبع رميت الجمر أم بثمان

يعني أبسبع؟ وقول الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط ** غلس الظلام من الرباب خيالا

يعني أكذبتك عينك؟ كما نصّ سيبويه على جواز ذلك في بيت الأخطل، هذا وإن خالف الخليل زاعما أنّ (كذبتك) صيغة خبرية، وأنّ أم بمعنى (بل) ففي البيت على قول الخليل نوع من أنواع البديع المعنوي يسمى بالرجوع عند البلاغيين، وقول الخنساء:
قذى بعينيك أم بالعين عوار ** أم خلت إذا أقفرت من أهلها الدار

تعني أقذى بعينيك؟ وقول أحيحة بن الجلاح الأنصاري:
وما تدري وإن ذمرت سقبا ** لغيرك أم يكون لك الفصيل

يعني ألغيرك؟ وقول أمرئ القيس:
تروح من الحي أم تبتكر ** وماذا عليك بأن تنتظر

يعني أتروح؟
وعلى هذا القول فقرينة الاستفهام المحذوف علو مقام إبراهيم عن ظن ربوبية غير الله، وشهادة القرآن له بالبراءة من ذلك، والآية على هذا القول تشبه قراءة بن محيصن: {سواء عليهم أنذرتهم}، ونظيرها على هذا القول قوله تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}، وقوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا} على أحد القولين، وقوله: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} على أحد القولين.
وما ذكره بعض العلماء غير هذين الوجهين فهو راجع إليهما كالقول بإضمار القول أي يقول الكفار: هذا ربي، فإنه راجع إلى الوجه الأول، وما ذكره عن ابن إسحاق واختاره ابن جرير الطبري ونقله عن ابن عباس من أنّ إبراهيم كان ناظرًا يظنُّ ربوبية الكوكب فهو ظاهر الضعف؛ لأن نصوص القرآن ترده كقوله: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، وقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ}، وقد بيّن المحقق ابن كثير في تفسيره رد ما ذكره بن جرير بهذه النصوص القرآنية وأمثالها، والأحاديث الدالة على مقتضاها كقوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» الحديث. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد الألوسي:

قال رحمه الله:
{مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا} كما قالت اليهود {وَلاَ نَصْرَانِيّا} كما قالت النصارى {وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا} أي مائلًا عن العقائد الزائغة {مُسْلِمًا} أي منقادًا لطاعة الحق، أو موحدًا لأن الإسلام يرد بمعنى التوحيد أيضا؛ قيل: وينصره قوله تعالى: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} أي عبدة الأصنام كالعرب الذي كانوا يدعون أنهم على دينه، أو سائر المشركين ليعم أيضا عبدة النار كالمجوس، وعبدة الكواكب كالصابئة، وقيل: أراد بهم اليهود والنصارى لقول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وأصل الكلام وما كان منكم إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر للتعريض بأنهم مشركون، والجملة حينئذ تأكيد لما قبلها، وتفسير الإسلام بما ذكر هو ما اختاره جمع من المحققين وادعوا أنه لا يصح تفسيره هنا بالدين المحمدي لأنه يرد عليه أنه كان بعده بكثير فكيف يكون مسلمًا؟ فيكون كادعائهم تهوده وتنصره المردود بقوله سبحانه: {وَمَا أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} [آل عمران: 65] فيرد عليه ما ورد عليهم، ويشترك الإلزام بينهما، وفسره بعضهم بذلك، وأجاب عن اشتراك الإلزام بأن القرآن أخبر بأن إبراهيم كان مسلمًا وليس في التوراة والإنجيل أنه عليه الصلاة والسلام كان يهوديًا أو نصرانيًا فظهر الفرق، قال العلامة النيسابوري: فإن قيل: قولكم: إن إبراهيم عليه السلام على دين الإسلام إن أردتم به الموافقة في الأصول فليس هذا مختصًا بدين الإسلام، وإن أردتم في الفروع لزم أن لا يكون نبينا صلى الله عليه وسلم صاحب شريعة بل مقرر لشرع من قبله. قيل: يختار الأول، والاختصاص ثابت لأن اليهود والنصارى مخالفون للأصول في زماننا لقولهم بالتثليث وإشراك عزير عليه السلام إلى غير ذلك، أو الثاني ولا يلزم ما ذكر لجواز أنه تعالى نسخ تلك الفروع بشرع موسى عليه السلام ثم نسخ نبينا صلى الله عليه وسلم شرع موسى بشريعته التي هي موافقة لشريعة إبراهيم صلوات الله تعالى وسلامه عليه فيكون عليه الصلاة والسلام صاحب شريعة مع موافقة شرعه شرع إبراهيم في معظم الفروع انتهى، ولا يخفى ما في الجواب على الاختيار الثاني من مزيد البعد، بل عدم الصحة لأن نسخ شريعة إبراهيم بشريعة موسى، ثم نسخ شريعة موسى بشريعة نبينا عليهم الصلاة والسلام الموافقة لشريعة إبراهيم لا يجعل نبينا صاحب شريعة جديدة بل يقال له أيضا: أنه مقرر لشرع من قبله وهو إبراهيم عليه السلام، وأيضا موافقة جميع فروع شريعتنا لجميع فروع شريعة إبراهيم مما لا يمكن بوجه أصلًا إذ من جملة فروع شريعتنا فرضية قراءة القرآن في الصلاة ولم ينزل على غير نبينا صلى الله عليه وسلم بالبديهة، ونحو ذلك كثير.
وموافقة المعظم في حيز المنع ودون إثباتها الشم الراسيات، وقوله تعالى: {أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم} [النحل: 123] ليس بالدليل على الموافقة في الفروع إذ الملة فيه عبارة عن التوحيد أو عنه وعن الأخلاق كالهدى في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الانعام: 90] واعترض الشهاب على الجواب على الاختيار الأول بالبعد كاعتراضه على الجواب على الاختيار الثاني بمجرده أيضا، وذكر أن ذلك سبب عدول بعض المحققين عما يقتضيه كلام هذا العلامة من أن المراد بكون إبراهيم مسلمًا أنه على ملة الإسلام إلى أن المراد بذلك أنه منقاد بحمل الإسلام على المعنى اللغوي، وادعى أنه سالم من القدح، ونظر فيه بأن أخذ الإسلام لغويًا لا يناسب بحث الأديان والكلام فيه فلا يخلو هذا الوجه عن بعد، ولعله لا يقصر عما ادعاه من بعد الجواب الأول كما لا يخفى على صاحب الذوق السليم.
هذا وفي الآية وجه آخر ولعله يخرج من بين فرث ودم وهو أن أهل الكتاب لما تنازعوا فقالت اليهود إبراهيم منا، وقالت النصارى أنه منا أرادت كل طائفة أنه عليه السلام كان إذ ذاك على ما هو عليه الآن من الحال وهو حال مخالف لما عليه نبيهم في نفس الأمر موافق له زعمًا على معنى موافقة الأصول للأصول، أو الموافقة فيما يعد في العرف موافقة ولو لم تكن في المعظم وليست هذه الدعوى من البطلان بحيث لا تخفى على أحد فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه: {وَمَا أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} [آل عمران: 65] أي وليسا مشتملين على ذلك وهو من الحري بالذكر لو كان، ثم أشار سبحانه إلى ما هم عليه من الحماقة على وجه أتم، ثم صرح سبحانه بما أشار أولًا فقال: {مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا} أي من الطائفة اليهودية المخالفة لما جاء به موسى عليه السلام في نفس الأمر {وَلاَ نَصْرَانِيّا} أي من الطائفة النصرانية المخالفة لما جاء به عيسى عليه السلام كذلك {وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا} أي على دين الإسلام الذي ليس عند الله دين مرضي سواه وهو دين جميع الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، وفي ذلك إشارة إلى أن أولئك اليهود والنصارى ليسوا من الدين في شيء لمخالفتهم في نفس الأمر لما عليه النبيان بل الأنبياء، ثم أشار إلى سبب ذلك بما عرّض به من قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} فعلى هذا يكون المسلم كما قال الجصاص، وأشرنا إليه فيما مرّ مرارًا المؤمن ولو من غير هذه الأمة خلافًا للسيوطي في زعمه أن الإسلام مخصوص بهذه الأمة هذا ما عندي في هذا المقام فتدبر فلمسلك الذهن اتساع. اهـ.

.من فوائد الشعراوي:

قال رحمه الله:
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
وبذلك يتأكد أن إبراهيم عليه السلام لم يكن يهوديا، لأن اليهودية جاءت من بعده. ولم يكن إبراهيم نصرانيا، لأن النصرانية جاءت من بعده، لكنه وهو خليل الرحمن {كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ونحن نفهم أن كلمة {حَنِيفًا} تعني الدين الصافي القادم من الله، والكلمة مأخوذة من المحسات، فالحنف هو ميل في الساقين من أسفل، أي اعوجاج في الرجلين، ثم نقل الحنف إلى كل أمر غير مستوٍ.
وهنا يتساءل الإنسان، هل كان إبراهيم عليه السلام في العوج أو في الاستقامة؟ وكيف يكون حنيفا، والحنف عوج؟ وهنا نقول: إن إبراهيم عليه السلام كان على الاستقامة، ولكنه جاء على وثنية واعوجاج طاغ فالعالم كان معوجا. وجاء إبراهيم ليخرج عن هذا العوج، وما دام منحرفا عن العوج فهو مستقيم، لماذا؟ لأن الرسل لا يأتون إلا على فساد عقدي وتشريعي طاغ. والحق سبحانه وتعالى ساعة ينزل منهجه يجعل في كل نفس خلية إيمانية. والخلية الإيمانية تستيقظ مرة، فتلتزم، وتغفل مرة، فتنحرف، ثم يأتي الاستيقاظ بعد الانحراف، فيكون الانتباه، وهكذا توجد النفس اللوامة، تلك النفس التي تهمس للإنسان عند الفعل الخاطئ: أن الله لم يأمر بذلك.
ويعود الإنسان إلى منهج الله تائبا ومستغفرا، فإن لم توجد النفس اللوامة صارت النفس أمارة بالسوء، وهي التي تتجه دائما إلى الانحراف، وحول النفس الواحدة توجد نفوس متعددة تحاول أن تقاوم وتقوّم المعوج، وهي نفوس من البيئة والمجتمع، فمرة يكون الاعتدال والاتجاه إلى الصواب بعد الخطأ قادما من ذات الإنسان أي من النفس اللوامة، ومرة لا توجد النفس اللوامة، بل توجد النفس الأمارة بالسوء، لكن المجتمع الذي حول هذا الإنسأن لا يخلو من أن يكون فيه خلية من الخير تهديه إلى الصواب، أما إذا كانت كل الخلايا في المجتمع قد أصبحت أمارة بالسوء فمن الذي يعدلها ويصوبها؟
هنا لابد أن يأتي الله برسول جديد، لأن الإنسان يفتقد الردع من ذاتية النفس بخلاياها الإيمانية، ويفتقد الردع من المجتمع الموجود لخلوه كذلك من تلك الخلايا الطيبة، وهكذا يطم الظلام ويعم، فيرسل الله رسولا ليعيد شعلة الإيمان في النفوس. والله سبحانه وتعالى قد ضمن لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ألا يأتي لها نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فمن الضروري أن يوجد فيها الخير ويبقى، فالخير يبقى في الذات المسلمة، فإذا كانت الغفلة فالنفس اللوامة تصوب، وإن كانت هناك نفس أمارة بالسوء فهناك قوم كثيرون مطمئنون يهدون النفس الأمارة إلى الصواب.
وهكذا لن تخلو أمة محمد في أي عصر من العصور من الخير، أما الأمم الأخرى السابقة فأمرها مختلف؛ فإن الله يرسل لهم الرسل عندما تنطفئ كل شموع الخير في النفوس، ويعم ظلام الفساد فتتدخل السماء، وحين تتدخل السماء يقال: إن السماء قد تدخلت على عوج لتعدله وتقومه.
إذن فإبراهيم عليه السلام جاء حنيفا، أي مائلا عن المائل، وما دام مائلا عن المائل فهو مستقيم، فالحنيفية السمحة هي الاستقامة. وهكذا نفهم قول الحق: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
إن إبراهيم هو أبو الأنبياء، ولم تكن اليهودية قد حرفت وبدلت، وكذلك النصرانية لكان من المقبول أن يكون اليهود والنصارى على ملة إبراهيم؛ لأن الأديأن لا تختلف في أصولها، ولكن قد تختلف في بعض التشريعات المناسبة للعصور، ولذلك فسيدنا إبراهيم عليه السلام لا يمكن أن يكون يهوديا باعتبار التحريف الذي حدث منهم، أي لا يكون موافقا لهم في عقيدتهم، وكذلك لا يمكن أن يكون نصرانيا للأسباب نفسها، لكنه {كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي أنه مائل عن طريق الاعوجاج.