فصل: من فوائد ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْيَهُودُ مُوَحِّدِينَ وَلَكِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ هُوَ مَنْبَعُ شَقَائِهِمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَهُوَ اتِّبَاعُ رُؤَسَاءِ الدِّينِ فِيمَا يُقَرِّرُونَهُ وَجَعْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَحْكَامِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ اللهِ تعالى، وَجَرَى النَّصَارَى عَلَى ذَلِكَ وَزَادُوا مَسْأَلَةَ غُفْرَانِ الْخَطَايَا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَفَاقَمَ أَمْرُهَا فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ حَتَّى ابْتَلَعَتْ بِهَا الْكَنَائِسُ أَكْثَرَ أَمْلَاكِ النَّاسِ، وَمِنَ الْغُلُوِّ فِيهَا وُلِدَتْ مَسْأَلَةُ الْبُرُوتِسْتَانْتِ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا: هَلُمَّ بِنَا نَتْرُكَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَابَ مِنْ دُونِ اللهِ وَنَأْخُذَ الدِّينَ مِنْ كِتَابِهِ لَا نُشْرِكَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَ أَحَدٍ.
قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} وَأَعْرَضُوا عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَةِ وَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللهِ بِاتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ وُسَطَاءَ وَشُفَعَاءَ وَاتِّخَاذِ الْأَرْبَابِ الَّذِينَ يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ نَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينُ لَا نَدْعُو سِوَاهُ وَلَا نَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِهِ فِي طَلَبِ نَفْعٍ وَلَا دَفْعِ ضُرٍّ، وَلَا نُحِلُّ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ وَلَا نُحَرِّمُ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى أنه لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ أَحَدٍ مَا لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى الْمَعْصُومِ. أَقُولُ: يَعْنِي فِي مَسَائِلِ الدِّينِ الْبَحْتَةِ الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، أَمَّا الْمَسَائِلُ الدُّنْيَوِيَّةُ كَالْقَضَاءِ وَالسِّيَاسَةِ فَهِيَ مُفَوَّضَةٌ بِأَمْرِ اللهِ إِلَى أُولِي الأمر، وَهُمْ رِجَالُ الشُّورَى مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَمَا يُقَرِّرُونَهُ يَجِبُ عَلَى حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُنَفِّذُوهُ وَعَلَى الرَّعِيَّةِ أَنْ يَقْبَلُوهُ.
فَمَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُقَلِّدُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَخْذِ بِآرَاءِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ هُوَ عَيْنُ مَا أَنْكَرَهُ كِتَابُ اللهِ تعالى عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَجَعَلَهُ مُنَافِيًا لِلْإِسْلَامِ، بَلْ جَعَلَ مُخَالَفَتَهُمْ فِيهِ هِيَ عَيْنَ الإسلام فَلْيَعْتَبِرِ الْمُعْتَبِرُونَ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَسَاسُ الدِّينِ الْمَتِينِ وَأَصْلُهُ الْأَصِيلُ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهَا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَى الإسلام كَمَا ثَبَتَ فِي كُتُبِهِ إِلَى هِرَقْلَ وَالْمُقَوْقِسِ وَغَيْرِهِمَا. وَهَذَا نَصُّ كِتَابِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ عَاهِلِ الرُّومِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ:
«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسلام، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ ويَا أَهْلَ الْكِتَابِ {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}» الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا.
فَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ أَسَاسُ الدِّينِ وَعَمُودُهُ لَمَا جَعَلَهَا آيَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى الإسلام، فَهَلْ يُعْذَرُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَا إِذَا هُوَ أَدْخَلَ فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا فَاتَّخَذَ لَهُ أَنْدَادًا يَدْعُوهُمْ لِكَشْفِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ زَاعِمًا أَنَّهُمْ وَسَائِطُ يُقَرِّبُونَهُ إِلَى زُلْفَى، وَيَشْفَعُونَ لَهُ عِنْدَهُ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَهَذَا عَيْنُ الْإِشْرَاكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ بِالِاجْتِهَادِ الْبَاطِلِ، وَالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الَّذِي يُشَبِّهُ بِهِ الْخَبِيرَ الْعَلِيمَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ بِالْمُلُوكِ الْجَاهِلِينَ وَالأمراءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَلَا اجْتِهَادَ فِي الْعَقَائِدِ، وَلَا قِيَاسَ فِي أَصْلِ الإيمان، أَمْ هَلْ يُعْذَرُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَا إِذَا هُوَ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ أَرْبَابًا سَمَّاهُمُ الْعُلَمَاءَ الرَّاسِخِينَ، أَوِ الْأَئِمَّةَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَجَعَلَ كَلَامَهُمْ حُجَّةً فِي الدِّينِ، وَشَرْعًا مُتَّبَعًا فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْإِشْرَاكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْخُرُوجِ عَنْ هِدَايَةِ الْآيَةِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِمِثْلِ قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ} [42: 20] وَقوله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [16: 166] فَاللهُ تعالى قَدْ حَدَّ الْحُدُودَ وَبَيَّنَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِنَا غَيْرَ نِسْيَانٍ مِنْهُ- عَزَّ وَجَلَّ-، وَنَهَانَا نَبِيُّهُ أَنْ نَبْحَثَ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ وَأَنْ نَزِيدَ فِي الدِّينِ بِرَأْيِنَا وَاجْتِهَادِنَا، وَإِنَّمَا أَبَاحَ لَنَا الِاجْتِهَادَ لِاسْتِنْبَاطِ مَا تَقُومُ بِهِ مَصَالِحُنَا فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا هُوَ هَدْيُ الْآيَةِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ.
رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ بِسَنَدِهِ الْمُتَكَرِّرِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اجْتَمَعَتْ نَصَارَى نَجْرَانَ وَأَحْبَارُ يَهُودَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتِ الْأَحْبَارُ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا نَصْرَانِيًّا، فَأَنْزَلَ اللهُ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ الْآيَةَ. كَذَا فِي لُبَابِ النُّقُولِ. وَأَقُولُ: جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ بَعْدَهَا فِي سِيَاقِ دَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الإسلام، وَبَيَانِ أنه دِينُ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِمُ الَّذِينَ يَدِينُونَ بِإِجْلَالِهِمْ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَلَى آلِهِ- مَوْضِعَ إِجْلَالِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ لِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي الْعَهْدِ الْعَتِيقِ وَالْعَهْدِ الْجَدِيدِ، كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تُجِلُّهُ وَتَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى دِينِهِ، فَأَرَادَ تعالى أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ جَمِيعًا أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الْكَرِيمَ الَّذِي كَانُوا يُجِلُّونَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تَقَالِيدِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى الإسلام الَّذِي يَدْعُوهُمْ هُوَ إِلَيْهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، فَبَدَأَ بِالِاحْتِجَاجِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِقوله: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} أَيْ فَإِذَا كَأن الدين الْحَقُّ لَا يَعْدُو التَّوْرَاةَ كَمَا تَقُولُونَ أَيُّهَا الْيَهُودُ، أَوْ لَا يَتَجَاوَزُ الْإِنْجِيلَ كَمَا تَقُولُونَ أَيُّهَا النَّصَارَى، فَكَيْفَ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْحَقِّ وَاسْتَوْجَبَ ثَنَاءَكُمْ وَثَنَاءَ مَنْ قَبْلَكُمْ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى الشَّيْءِ لَا يُمْكِنُ أن يكون تَابِعًا لَهُ!! فَإِنْ خَطَرَ فِي بَالِكَ أَيُّهَا الْقَارِئُ أَنَّ هَذَا يَرُدُّ عَلَى الْقُرْآنِ فَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعِي إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ.
{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} مَا، وَهُوَ خَبَرُ عِيسَى فَقَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ بِأَنَّ مِنْكُمْ مَنْ غَلَا فِي الْإِفْرَاطِ إِذْ قَالَ: أنه إِلَهٌ، وَمِنْكُمْ مَنْ غَلَا فِي التَّفْرِيطِ إِذْ قَالَ: أنه دَعِيٌّ كَذَّابٌ، وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُكُمُ الْقَلِيلُ بِهِ عَاصِمًا لَكُمْ مِنَ الْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} وَهُوَ كَوْنُ إِبْرَاهِيمَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا! أَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَبَّعُوا فِيهِ مَا يُوحِيهِ اللهُ إِلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ثُمَّ بَيَّنَ تعالى مَا يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهِ فَقَالَ: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا} أَيْ مَائِلًا عَنْ كُلِّ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ عَصْرِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ {مُسْلِمًا } وَجْهَهُ إِلَى اللهِ تعالى وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَالطَّاعَةَ {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْحُنَفَاءَ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَهُمْ قُرَيْشٌ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ. وَهَذَا مِنَ الِاحْتِرَاسِ فَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَدْعُونَ الْعَرَبَ بِالْحُنَفَاءِ، حَتَّى صَارَ الْحَنِيفُ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى الْوَثَنِيِّ الْمُشْرِكِ، فَلَمَّا وَافَقَهُمُ الْقُرْآنُ عَلَى إِطْلَاقِ لَفْظِ الْحَنِيفِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ مُسْتَعْمِلًا لَهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، احْتَرَسَ عَمَّا يُوهِمُهُ الْإِطْلَاقُ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ عِنْدَهُمْ، فَصَارَ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْمُتَّفَقَ عَلَى إِجْلَالِهِ وَادِّعَاءِ دِينِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ الثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِلَّةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، بَلْ كَانَ مَائِلًا عَنْ مِثْلِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ وَالتَّقَالِيدِ مُسْلِمًا خَالِصًا لِلَّهِ تعالى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مُسْلِمًا أنه كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ- صَلَّى الله عَلَيْهِمَا وَعَلَى آلِهِمَا وَسَلَّمَ- مِنَ الشَّرِيعَةِ بِالتَّفْصِيلِ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَى هَذَا أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ مِنْ بَعْدِهِ كَمَا كَانَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أنه كَانَ مُتَحَقِّقًا بِمَعْنَى الإسلام الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ {إن الدين عِنْدَ اللهِ الإسلام} [3: 19] وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَسْتَطِيعُ أَهْلُ الْكِتَابِ إِنْكَارَهُ؛ فَإِنَّ مَا فِي كُتُبِهِمْ عَنْ إِبْرَاهِيمَ لَا يَعْدُوهُ وَمَا كَانَ النَّبِيُّ يَدْعُوهُمْ إِلَّا إِلَيْهِ، وَقَدْ نَسِيَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مَعْنَى الإسلام الَّذِي يُقَرِّرُهُ الْقُرْآنُ، وَجَمَدُوا عَلَى الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ لَهُ فَجَعَلُوهُ جِنْسِيَّةً غَافِلِينَ عَنْ كَوْنِهِ هِدَايَةً رُوحِيَّةً، وَمَا كَانَ سَلَفُهُمُ الصَّالِحُ كَذَلِكَ.
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ } أَيْ أَجْدَرَهُمْ بِوِلَايَتِهِ وَأَحْرَاهُمْ بِمُوَافَقَتِهِ {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } فِي عَصْرِهِ وَأَجَابُوا دَعْوَتَهُ فَاهْتَدَوْا بِهَدْيِهِ {وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا } مَعَهُ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ الْمُخْلَصِ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ اتِّخَاذُ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا التَّوَسُّلُ بِالْوُسَطَاءِ وَالشُّفَعَاءِ، وَأَهْلُ الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ الَّذِي لَا يُبْطِلُهُ شِرْكٌ وَلَا رِيَاءٌ، وَهَذَا هُوَ رُوحُ الإسلام وَالْمَقْصُودُ مِنَ الإيمان، فَمَنْ فَاتَهُ فَقَدَ فَاتَهُ الدِّينُ كُلُّهُ لَا تُغْنِي عَنْهُ التَّقَالِيدُ وَالرُّسُومُ وَلَا تَنْفَعُهُ الْوُسَطَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [26: 88، 89] بِأَخْذِهِ بِحَقِيقَةِ الإسلام الَّذِي شُرِعَ لِتَنْقِيَةِ الْقُلُوبِ وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَإِعْدَادِ الْأَرْوَاحِ فِي الدُّنْيَا إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَا فِي الْأُخْرَى {وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } الَّذِينَ لَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ فِي كَشْفِ ضُرٍّ وَلَا طَلَبِ نَفْعٍ فَهُوَ يَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ وَيُصْلِحُ شُئُونَهُمْ، وَيَتَوَلَّى إِثَابَتَهُمْ عَلَى حَسَبِ تَأْثِيرِ الإسلام فِي قُلُوبِهِمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. فَنَسْأَلُهُ تعالى أَنْ يَجْعَلَنَا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الْجُمُودِ عَلَى التَّقَالِيدِ الظَّاهِرَةِ الْغَافِلِينَ عَنْ رُوحِ الإسلام الْمَفْتُونِينَ بِاتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ وَالأمراءِ هَذَا وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَمَا قُلْنَاهُ مُوَافِقٌ لِطَرِيقَتِهِ. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور:

قال عليه الرحمه:
قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَالله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}.
استئناف ناشيء عن نفي اليهودية والنصرانية عن إبراهيم، فليس اليهود ولا النصارى ولا المشركون بأولى الناس به، وهذا يدل على أنهم كانوا يقولون: نحن أولى بدينكم.
و(أولى) اسم تفضيل أي أشد ولْيًا أي قربًا مشتق من وَلِي إذا صار وَليًّا، وعدّي بالباء لتضمّنه معنى الاتصال أي أخصّ الناس بإبراهيم وأقربهم منه.
ومن المفسّرين من جعل أولى هنا بمعنى أجدر فيضطرّ إلى تقدير مضاف قبل قوله: {بإبراهيم} أي بدين إبراهيم.
والذين اتبعوا إبراهيم هم الذين اتبعوه في حياته: مثل لوط وإسماعيل وإسحاقَ، ولا اعتداد بمحاولة الذين حاولوا اتباع الحنيفية ولم يهتدوا إليها، مثل زيد بن عَمْرو بن نُفَيْل، وأميةَ ابن أبي الصّلْت، وأبيه أبي الصَّلت، وأبي قيْس صِرمَة بن أبي أنس من بني النجّار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كاد أمية بن أبي الصّلْت، أن يُسلم» وهو لم يدرك الإسلام فالمعنى كاد أن يكون حنيفًا، وفي صحيح البخاري: أنّ زيد بن عَمرو بن نُفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين فلقي عالمًا من اليهود، فسأله عن دينه فقال له: إنّي أريد أن أكونَ على دينك، فقال اليهوديّ: أنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله، قال زيد: أفِرُّ إلاّ من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئًا أبدًا وأنا أستطيع، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ قال: لا أعلمه إلاّ أن تكون حنيفًا، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا وكأن لا يعبد إلاّ الله، فخرج من عنده فلقي عالمًا من النصارى فقاوله مثل مقاولة اليهودي، غير أنّ النصراني قال: أن تأخذ بنصيبك من لَعنة الله، فخرج من عنده وقد اتفقا له على دين إبراهيم، فلم يزل رافعًا يديه إلى السماء وقال: اللهم أشهَدْ أنّي على دين إبراهيم وهذا أمنية منه لا تصادف الواقع.
وفي صحيح البخاري، عن أسماء بنت أبي بكر: قالت: رأيت زيدَ بن عَمرو بن نُفيل قبل الإسلام مسنِدًا ظهره إلى الكعبة وهو يقول: يا معشر قريش ليس منكم على دين إبراهيم غيري وفيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيدَ بن عمرو بن نُفيل بأسفل بَلْدَح قبل أن يَنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي فقُدِّمَتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم سُفرة فأبى زيدُ بن عمرو أنْ يأكل منها وقال: إنّي لست آكل ممّا تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلاّ ما ذكر اسم الله عليه وهذا توهّم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل كما تفعل قريش.
وإنّ زيدًا كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء أنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله.
واسم الإشارة في قوله: {وهذا النبي} مستعمل مجازًا في المشتهر بوصف بين المخاطبين كقوله في الحديث: «فجعل الفَرَاشُ وهذه الدّوَابُّ تقع في النار» فالإشارة استعملت في استحضار الدوابّ المعروفة بالتساقط على النار عند وقودها، والنبي ليس بمشاهد للمخاطبين بالآية، حينئذ، ولا قُصدت الإشارة إلى ذاته.
ويجوز أن تكون الإشارة مستعملة في حضور التكلم باعتبار كون النبي هو الناطق بهذا الكلام، فهو كقول الشاعر:
نجوتتِ وهَذا تحملين طَليق

أي والمتكلّم الذي تحملينه.
والاسم الواقع بعد اسم الإشارة، بدلًا منه، هو الذي يعين جهة الإشارة مَا هي.
وعطف النبي على الذين اتبعوا إبراهيم للاهتمام به وفيه إيماء إلى أنّ متابعته إبراهيم عليه السلام ليست متابعة عامة فكون الإسلام من الحنيفية أنه موافق لها في أصولها.
والمراد بالذين آمنوا المسلمون.
فالمقصود معناه اللقَبي، فإنّ وصف الذين آمنوا صار لقبًا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك كثر خطابهم في القرآن بيأيها الذين آمنوا.
ووجه كون هذا النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا أولى الناس بإبراهيم، مثل الذين اتبعوه، إنّهم قد تخلقوا بأصول شرعه، وعرفوا قدره، وكانوا له لسان صدق دائبًا بذكره، فهؤلاء أحقّ به ممّن انتسبوا إليه لكنهم نقضوا أصول شرعه وهم المشركون، ومن الذين انتسبوا إليه وأنسوا ذكر شرعه، وهم اليهود والنصارى، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سَأل عن صوم اليهود، يوم عاشوراء فقالوا: هو يوم نجّى الله فيه موسى فقال: «نَحْن أحقّ بموسى منهم» وصامه وأمر المسلمين بصومه.
وقوله: {والله ولي المؤمنين} تذييل أي هؤلاء هم أولى الناس بإبراهيم، والله ولي إبراهيم، والذين اتبعوه، وهذا النبي، والذين آمنوا؛ لأنّ التذييل يشمل المذيَّل قطعًا، ثم يشمل غيره تكميلًا كالعام على سبب خاص.
وفي قوله: {والله ولي المؤمنين} بعد قوله: {كان إبراهيم يهوديًا} [آل عمران: 67] تعريض بأنّ الذين لم يكن إبراهيم منهم ليسوا بمؤمنين. اهـ.

.حديث هجرة الحبشة:

روى الكلبيُّ وابنُ إسحاقَ حديث هجرة الحبشة لما هاجر جعفر بن أبي طالب، وأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة، واستقرَّتْ بهم الدَّارُ، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان من أمر بدر ما كان، اجتمعت قريش في دارِ الندوةِ، وقالوا: إن لنا في الذين عند النجاشي- من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم- ثأرًا ممن قُتِل منكم ببدر، فاجمعوا مالًا، وأهدوه إلى النجاشِيِّ؛ لعله يدفع إليكم مَنْ عنده من قَوْمِكُمْ، ولْيُنْتَدَب لذلك رجلان من ذوي رَأيكم، فبعثوا عمرو بنَ العاصِ، وعمارة بن الوليد مع الهدايا، فركِبا البحرَ، وأتَيَا الحبشةَ، فلما دَخَلاَ على النجاشيِّ سَجَدَا له، وسلما عليه، وقَالاَ له: إنَّ قومَنا لك ناصحون شاكرون، ولصِلاَحِك مُحِبُّونَ، وإنهم بعثونا لنحذّرك هؤلاءِ الذين قَدِموا عليك؛ لأنهم قومُ رجلٍ كَذَّابٍ، خرج فينا يزعم أنه رسولُ اللهِ، ولم يتابعه أحدٌ منا إلاَّ السُّفَهاءُ، وإنا كنا ضيَّقْنَا عليهم الأمر، وألجأناهم إلى شِعْبٍ بأرضِنَا، لا يدخل عليهم أحدٌ، ولا يخرجُ منهم أحدٌ، حتى قتلهم الجوعُ والعطشُ، فلمَّا اشتدَّ عليهم الأمر بعث إليك ابن عَمِّه، ليُفْسِد عليك دِينَك ومُلْكَك ورَعِيَّتَك، فاحْذَرْهُمْ، وادْفَعْهم إلَيْنَا، لنكفِيَكَهُمْ، قالوا: وآية ذلك أنهم إذا دَخَلوا عليك لا يسجدون لك، ولا يُحَيُّونَك بالتحية التي يُحَيِّيك بها الناسُ رغبةً عن دِينك وسُنَّتِكَ.
فدعاهم النجاشيُّ، فلمَّا حضروا صاح جعفرُ بالباب: يستأذن عليك حزبُ اللهِ، فقال النجاشيُّ: مروا هذا الصائحَ فلْيُعِدْ كلامَه، ففعل جَعْفَرُ، فقال النجاشيُّ: نعم، فلْيَدْخُلُوا بأمان اللهِ وذمته، فنظر عمرو بنُ العاصِ إلى صاحبه، فقال: ألا تسمع؟ يرطنون بحِزْبِ اللهِ وما أجابهم به النجاشي!!! فساءهما ذلك، ثم دخلوا عليه ولم يَسْجُدُوا له، فقال عمرو بن العاص ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشِيُّ: ما منعكم أن تسجدوا لِي وتُحَيُّونِي بالتحية التي يحييني بها مَنْ أتاني من الآفاقِ؟ قالوا: نَسْجُد لله الذي خَلَقَكَ ومُلْكَك، وإنما كانت تلك التحيةُ لنا ونحن نعبدُ الأصْنَام، فبعث الله فينا نبيًّا صادقًا، وأمرنا بالتحية التي رضيها اللهُ، وهي السلامُ، وتحية أهل الجنَّةِ، فعرف النجاشيُّ أن ذلك حَقٌّ، وأنه في التوراة والإنجيل، فقال: أيكم الهاتف: يستأذنُ عليك حِزْبُ الله؟ قال جَعْفَر: أنا، قال: فتكلم، قال: أنك مَلِك من ملوك أهل الأرض، ومن أهل الكتاب، ولا يصلح عندَك كثرةُ الكلامِ، ولا الظلمُ، وأنا أحب أن أجيبَ عن أصحابي، فمر هذين الرجلين، فلْيَتَكَلَّمْ أحدُهما، وليُنْصِت الآخرُ، فيسمع محاورتنا، فقال عَمْرو لجعفر: تَكَلَّمْ، فقال جعفر للنجاشيُّ: سل هذين الرجلين أعَبيدٌ نحن أم أحرارٌ؟ فإن كنا عبيدًا أبَقْنَا من أرْبَابِنا فاردُدْنا إليهم، فقال النجاشيُّ: أعبيدٌ هم أم أحرار؟ فقال لا، بل أحرارٌ كرام، فقال النجاشيُّ: نَجَوْا من العبوديَّةِ، ثم قال جعفرُ: سَلْهُمَا هل لهم فينا دماء بغير حق، فيقتصّ منا؟ فقال عمرو: لا، ولا قطرة.