فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال جعفر: سَلْهُمَا، هل أخذنا أموالَ الناسِ بغير حق، فعلينا قضاؤها- قال النجاشيُّ: إن كان قنطارًا فعلي قضاؤه- فقال عمرو: لا، ولا قيراط، فقال النجاشيُّ: فما تطلبون منهم؟ قال عمرو كنا وهم على دينٍ واحدٍ- دين آبائِنا- فتركوا ذلك، واتَّبَعُوا غيره، فَبَعَثَنَا إليك قومنا لتدفعهم إلينا، فقال النجاشيُّ: ما هذا الدينُ الذي كنتم عليه، الدين الذي اتبعتموه؟
قال: أما الدينُ الذي كنا عليه فتركناه فهو دينُ الشيطانِ، كنا نكفر بالله، ونعبد الحجارة، وأما الدين الذي تحوَّلنا إليه فدينُ الله الإسلام، جاءنا به من الله رسولٌ، وكتاب مثل كتاب ابن مريم، موافِقًا له.
فقال النجاشيُّ: يا جعفر، تكلمت بأمر عظيم، فعلى رِسْلِك، ثم أمر النجاشيُّ، فضُرِب بالنَّاقوس، قد اجتمع إليه كُلُّ قِسِّيسٍ ورَاهبٍ، فلما اجتمعوا عنده، قال النجاشيُّ: أنشدكم إله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيًّا مُرسَلًا؟ فقالوا: اللهم نَعَمْ، قد بشرنا به عيسَى، وقال: مَنْ آمن به فقد آمن بي، ومن كَفَر به فقد كفر بي.
قال النجاشيُّ لجعفَرَ: ماذا يقول لكم هذا الرجلُ؟ وما يأمركم به، وما ينهاكم عنه؟ قال: يقرأ علينا كتاب الله، ويأمرنا بالمعروف، وينهانا عن المنكر، ويأمر بحُسْنِ الجوار، وصلة الرَّحِم، وبِرِّ اليتيم، وأمرنا أن لا نعبد إلا اللهَ وحدَه لا شريك له، فقال: اقرأ عليَّ مما يقرأ عليكم، فقرأ سورتي العنكبوت والرُّوم، ففاضت عينا النجاشيِّ وأصحابه من الدّمع، وقالوا: زِدْنَا يا جعفرُ من هذا الحديثِ الطيبِ، فقرأ عليهم سورة الكهف، فأراد عمرو أن يُغْضِبَ النجاشِيّ، فقال: إنهم يشتمون عيسى ابن مريمَ وأمَّه، فقال النجاشِيُّ: ما تقولون في عيسى وأمِّه، فقرأ عليهم جعفر سورة مريم، فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشِيُّ نُفَاثَةً من سواكه قَدْرَ ما يُقْذِي العَيْنَ قال: والله ما زادَ المسيحُ على قول هذا، ثم أقبل على جعفرَ وأصحابه، فقال: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي، آمنون، مَنْ سَبَّكُمْ وآذاكم غَرِم، ثم قال: أبشروا، ولا تخافوا، فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيمَ، قال عمرو: يا نجاشيُّ، ومَنْ حِزْبَ إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبُهم الذي جاءوا من عنده ومَن اتبعهم، فأنكر ذلك المشركون، وادَّعَوْا في دين إبراهيمَ، ثم رَدَّ النجاشيُّ على عمرو وصاحبه المالَ الذي حملوه، وقال: إنما هديَّتُكم إليّ رشْوَة، فاقبضوها؛ فإن الله- تعالى- ملَّكَني ولم يأخذْ مني رشوة، قال جعفرُ: فانصرفْنَا، فكنا في خير دارٍ، وأكرم جوارٍ، فأنزل الله ذلك اليوم على رسوله في خصومتهم في إبراهيم- وهو في المدينة- قوله- عز وجل: {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين}.
وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاَةً مِنَ النَّبِيِّينَ، وَإنَّ وليِّي مِنْهُمْ أبي، وَخَلِيلُ رَبِّي» ثم قرأ: {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَالله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}.
أخرج عبد بن حميد من طريق شهر بن حوشب حدثني ابن غنم. أنه لما خرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي أدركهم عمرو بن العاص، وعمارة بن أبي معيط، فأرادوا عنتهم والبغي عليهم، فقدموا على النجاشي وأخبروه أن هؤلاء الرهط الذين قدموا عليك من أهل مكة إنما يريدون أن يخبلوا عليك ملكك، ويفسدوا عليك أرضك، ويشتموا ربك. فأرسل إليهم النجاشي فلما أن أتوه قال: ألا تسمعون ما يقول صاحباكم هذان؟ لعمرو بن العاص، وعمارة بن أبي معيط، يزعمان أنما جئتم لتخبلوا عليَّ ملكي، وتفسدوا علي أرضي. فقال عثمان بن مظعون، وحمزة: إن شئتم فخلوا بين أحدنا وبين النجاشي فلنكلمه فانا أَحْدَثَكُمْ سنًا، فإن كان صوابًا فالله يأتي به، وإن كان أمرًا غير ذلك قلتم رجل شاب لكم في ذلك عذر. فجمع النجاشي قسيسيه ورهبأنه وتراجمته، ثم سألهم أرأيتكم صاحبكم هذا الذي من عنده جئتم ما يقول لكم، وما يأمركم به، وما ينهاكم عنه. هل له كتاب يقرأه؟ قالوا: نعم. هذا الرجل يقرأ ما أنزل الله عليه، وما قد سمع منه، وهو يأمر بالمعروف، ويأمر بحسن المجاورة، ويأمر باليتيم، ويأمر بأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه إله أخر. فقرأ عليه سورة الروم، وسورة العنكبوت، وأصحاب الكهف، ومريم. فلما ان ذكر عيسى في القرآن أراد عمرو أن يغضبه عليهم فقال: والله إنهم ليشتمون عيسى ويسبونه قال النجاشي: ما يقول صاحبكم في عيسى؟ قال: يقول ان عيسى عبدالله، ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم. فأخذ النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذي العين، فحلف ما زاد المسيح على ما يقول صاحبكم ما يزن ذلك القذى في يده من نفثة سواكه، فابشروا ولا تخافوا فلا دهونة يعني بلسان الحبشة اليوم على حزب إبراهيم قال عمرو بن العاص: ما حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاؤوا من عنده ومن اتبعهم. فأنزلت ذلك اليوم خصومتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين}.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبي وخليل ربي ثم قرأ {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين}».
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحكم بن ميناء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر قريش إن أولى الناس بالنبي المتقون، فكونوا أنتم بسبيل ذلك، فانظروا أن لا يلقاني الناس يحملون الأعمال، وتلقوني بالدنيا تحولنها فأصدُّ عنكم بوجهي. ثم قرأ عليهم هذه الآية: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين}».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه} قال: هم المؤمنون.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه} يقول الذين اتبعوه على ملته، وسنته، ومنهاجه، وفطرته، {وهذا النبي} وهو نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم {والذين آمنوا معه} وهم المؤمنون.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال: كل مؤمن ولي لإبراهيم ممن مضى وممن بقي.
وأخرج أحمد وابن أبي داود في البعث وابن أبي الدنيا في العزاء والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولاد المؤمنين في جبل في الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة حتى يردهم إلى آبائهم يوم القيامة». اهـ.

.تفسير الآية رقم (69):

قوله تعالى: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كان قصد بعضهم بدعواه أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام على دينه إنما هو إضلال أهل الإسلام عقب ذلك بالإعراب عن مرادهم بقوله تعالى- جوابًا لمن كأنه قال: فما كان مراد أهل الكتابين بدعواهم فيه مع علمهم أن ذلك مخالف لصريح العقل؟ {ودت طائفة} أي من شأنها أن تطوف حولكم طواف التابع المحب مكرًا وخداعًا {من أهل الكتاب} حسدًا لكم {لو يضلونكم} بالرجوع إلى دينهم الذي يعلمون أنه قد نسخ {وما} أي والحال أنهم ما {يضلون} بذلك التمني أو الإضلال لو وقع {إلا أنفسهم} لأن كلًا من تمنيهم وإضلالهم ضلال لهم مع أنهم لا يقدرون أن يضلوا من هداه الله، فمن تابعهم على ضلالهم فإنما أضله الله {وما يشعرون} أي وليس يتجدد لهم في وقت من الأوقات نوع شعور، فكيدهم لا يتعداهم فقد جمعوا بين الضلال والجهل، إما حقيقة لبغضهم وإما لأنهم لما عملوا بغير ما يعلمون عد علمهم جهلًا وعدوا هم بهائم، فكانت هذه الجملة على غاية التناسب، لأن أهم شيء في حق من رمى بباطل- إنما غلبة الرامي ليتعاظم بأنه شأنه- بيان إبطاله في دعواه، ثم تبكيته المتضمن لبراءة المقذوف، ثم التصريح ببراءته، ثم بيان من هو أولى بالكون من حربه، ثم بيان المراد من تلك الدعوى الكاذبة ليحذر غائلتها السامع. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما بيّن أن من طريقة أهل الكتاب العدول عن الحق، والإعراض عن قبول الحجة بيّن أنهم لا يقتصرون على هذا القدر، بل يجتهدون في إضلال من آمن بالرسول عليه السلام بإلقاء الشبهات كقولهم: إن محمدًا عليه السلام مقر بموسى وعيسى ويدعي لنفسه النبوّة، وأيضا إن موسى عليه السلام أخبر في التوراة بأن شرعه لا يزول، وأيضا القول بالنسخ يفضي إلى البداء، والغرض منه تنبيه المؤمنين على أن لا يغتروا بكلام اليهود، ونظير قوله تعالى في سورة البقرة: {وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إيمانكم كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109] وقوله: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء} [النساء: 89].
واعلم أن {مِنْ} هاهنا للتبعيض وإنما ذكر بعضهم ولم يعمهم لأن منهم من آمن وأثنى الله عليهم بقوله: {مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} [المائدة: 66] {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَة} [آل عمران: 113] وقيل نزلت هذه الآية في معاذ وعمّار بن ياسر وحذيفة دعاهم اليهود إلى دينهم، وإنما قال: {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} ولم يقل أن يضلوكم، لأن {لَوْ} للتمني فإن قولك لو كان كذا يفيد التمني ونظيره قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96].
ثم قال تعالى: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} وهو يحتمل وجوهًا منها إهلاكهم أنفسهم باستحقاق العقاب على قصدهم إضلال الغير وهو كقوله: {وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] ومنها إخراجهم أنفسهم عن معرفة الهدى والحق لأن الذاهب عن الاهتداء يوصف بأنه ضال ومنها أنهم لما اجتهدوا في إضلال المؤمنين ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم فهم قد صاروا خائبين خاسرين، حيث اعتقدوا شيئًا ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوروه.
ثم قال تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي ما يعلمون أن هذا يضرهم ولا يضر المؤمنين. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عادل:

في مِن وجهان:
أظهرهما: أنها تبعيضيَّة.
والثاني: أنها لبيان الجنس.
قال ابن عطيَّة: ويعني أن المراد بـ {طائفة} جميع أهل الكتاب، قال أبو حيّان: وهذا بعيد من دلالة اللفظ، وهذا الجار- على القول بأنها تبعضية- في محلّ رفع، صفة لِـ {طَائِفَةٌ}، وعلى القول بأنها بيانية تعلق بمحذوف.
وقوله: تقدم أنه يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكون على بابها- من كونها حرفًا لما كان سيقع لوقوع غيره.
قال أبو مُسْلِم الأصبهاني: وَدَّ بمعنى تَمَنَّى، فيستعمل معها لو وأن وربما جُمِع بينهما، فَيُقَالُ: وددت أن لو فعلت، ومصدره الودادة، والاسم منه وُدّ وبمعنى أحَبَّ فيتعدَّى أحَب والمصدر المودة، والاسم منه ود وقد يتداخلانِ في المصدر والاسم.
وقال الراغب: إذا كان بمعنى أحب لا يجوز إدخال لو فيه أبدًا.
وقال الرمانيُّ: إذا كان وَدَّ بمعنى تمنَّى صلُح للحال والاستقبال والماضي، وإذا كان بمعنى الهمة والإرادة لم يصلح للماضي؛ لأن الإرادة لاستدعاء الفعل، وإذا كان للحال والمستقبل جاز وتجوز لَوْ، وإذا كان للماضي لم يجز أنْ لأن أن للمستقبل.
وفيه نظرٌ، لأن أن تُوصَل بالماضي. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله تعالى: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ}.
استئناف مناسبتُه قوله: {فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} إلى قوله: {إن أولى الناس بإبراهيم} [آل عمران: 64- 68] إلخ.
والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود خاصة، ولذلك عُبّر عنهم بطائفة من أهل الكتاب لئلاّ يتوهم أنهم أهل الكتاب الذين كانت المحاجة مَعهم في الآيات السابقة.
والمراد بالطائفة جماعة منهم من قريظة، والنضير، وقَينُقاع، دَعَوا عمَّار بن ياسر، ومعاذَ بن جبل، وحذيفةَ بن اليمان، إلى الرجوع إلى الشرك.
وجملة لو يضلونكم مبينة لمضمون جملة ودّت، على طريقة الإجمال والتفصيل.
فلو شرطية مستعملة في التمنّي مجازًا لأنّ التمنّي من لوازم الشرط الامتناعي.
وجواب الشرط محذوف يدل عليه فعل وَدّت تقديره: لو يضلونكم لحصل مودودهم، والتحقيق أنّ التمنّي عارض من عوارض لَوْ الامتناعية في بعض المقامات.
وليس هو معنى أصليًا من معاني لو.
وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى: {يَودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة} في سورة [البقرة: 96].
وقوله: {لو يضلونكم} أي ودّوا إضلالكم وهو يحتمل أنهم ودّوا أن يجعلوهم على غير هدى في نظر أهل الكتاب: أي يذبذبوهم، ويحتمل أنّ المراد الإضلال في نفس الأمر، وإن كان وُدُّ أهل الكتاب أن يهوّدوهم.
وعلى الوجهين يحتمل قوله تعالى: {وما يضلون إلا أنفسهم} أن يكون معناه: إنهم إذا أضلوا الناس فقد صاروا هم أيضا ضالين؛ لأنّ الإضلال ضلال، وأن يكون معناه: إنهم كانوا من قبل ضالين برضاهم بالبقاء على دين منسوخ وقوله: {وما يشعرون} يناسب الاحتمالين لأنّ العلم بالحالتين دقيق. اهـ.

.قال الطبري:

يعني بقوله جل ثناؤه: {ودّت}، تمنت {طائفة}، يعني جماعة {من أهل الكتاب}، وهم أهل التوراة من اليهود، وأهل الإنجيل من النصارى {لو يضلُّونكم}، يقولون: لو يصدّونكم أيها المؤمنون، عن الإسلام، ويردُّونكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر، فيهلكونكم بذلك.
والإضلال في هذا الموضع، الأهلاكُ، من قول الله عز وجل: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سورة السجدة: 10]، يعني: إذا هلكنا، ومنه قول الأخطل في هجاء جرير:
كُنْتَ القَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْبِدٍ ** قَذَفَ الأتِيُّ بِهِ فَضَلّ ضلالا

يعنى: هلك هلاكًا، وقول نابغة بني ذبيان:
فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ** وَغُودِرَ بِالجَوْلانِ حَزْمٌ ونَائِلُ

يعني مهلكوه.
{وما يضلون إلا أنفسهم}، وما يهلكون- بما يفعلون من محاولتهم صدّكم عن دينكم- أحدًا غير أنفسهم، يعني بـ {أنفسهم}: أتباعهم وأشياعَهم على ملَّتِهم وأديانهم، وإنما أهلكوا أنفسَهم وأتباعهم بما حاولوا من ذلك لاستيجابهم من الله بفعلهم ذلك سخَطه، واستحقاقهم به غَضَبه ولعنته، لكفرهم بالله، ونقضِهم الميثاقَ الذي أخذ الله عليهم في كتابهم، في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، والإقرار بنبوّته.
ثم أخبر جلّ ثناءه عنهم أنهم يفعلون ما يفعلون، من محاولة صدّ المؤمنين عن الهدى إلى الضلالة والردى، على جهل منهم بما اللهُ بهمُ محلٌّ من عقوبته، ومدَّخِر لهم من أليم عذابه، فقال تعالى ذكره: {وما يشعرون} أنهم لا يضلون إلا أنفسهم، بمحاولتهم إضلالكم أيها المؤمنون.
ومعنى قوله: {وما يشعرون}، وما يدرون ولا يعلمون. اهـ.