فصل: (سورة آل عمران: الآيات 69- 71)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَإِنْ تَوَلَّوْا} عن التوحيد {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما. اعترف بأنى أنا الغالب وسلم لي الغلبة. ويجوز أن يكون من باب التعريض، ومعناه: اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره. زعم كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان منهم، وجادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فيه فقيل لهم: إن اليهودية إنما حدثت بعد نزول التوراة، والنصرانية بعد نزول الإنجيل، وبين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبينه وبين عيسى ألفان، فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة متطاولة؟ {أَفَلا تَعْقِلُونَ} حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ} ها للتنبيه، وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره. و{حاجَجْتُمْ} جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى، يعنى أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم جادلتم {فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} مما نطق به التوراة والإنجيل {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم.
وعن الأخفش: ها أنتم هو آأنتم على الاستفهام، فقلبت الهمزة هاء. ومعنى الاستفهام التعجب من حماقتهم. وقيل {هؤُلاءِ} بمعنى الذين و{حاجَجْتُمْ} صلته {وَالله يَعْلَمُ} علم ما حاججتم فيه {وَأَنْتُمْ} جاهلون به ثم أعلمهم بأنه بريء من دينكم وما كان إلا {حَنِيفًا مُسْلِمًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} كما لم يكن منكم.
أو أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيرًا والمسيح {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ} إن أخصهم به وأقربهم منه من الولي وهو القرب {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} في زمانه وبعده {وَهذَا النَّبِيُّ} خصوصا {وَالَّذِينَ آمَنُوا} من أمته.
وقرئ: وهذا النبىَّ، بالنصب عطفًا على الهاء في اتبعوه، أي اتبعوه واتبعوا هذا النبي. وبالجر عطفًا على إبراهيم.

.[سورة آل عمران: الآيات 69- 71]

{وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)}.
{وَدَّتْ طائِفَةٌ} هم اليهود، دعوا حذيفة وعمارًا ومعاذًا إلى اليهودية {وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم، لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم. أو وما يقدرون على إضلال المسلمين، وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم {بِآياتِ الله} بالتوراة والإنجيل. وكفرهم بها: أنهم لا يؤمنون بما نطقت به من صحة نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها. وشهادتهم:
اعترافهم بأنها آيات الله. أو تكفرون بالقرآن ودلائل نبوّة الرسول {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} نعته في الكتابين. أو تكفرون بآيات الله جميعًا وأنتم تعلمون أنها حق. قرئ {تَلْبِسُونَ} بالتشديد.
وقرأ يحيى بن وثاب {تَلْبِسُونَ} بفتح الباء أي تلبسون الحق مع الباطل. كقوله: «كلابس ثوبي زور». وقوله:
إذَا هُوَ بِالْمَجْدِ ارْتَدَى وَتَأَزَّرَا

.[سورة آل عمران: الآيات 72- 74]

{وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى الله أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَالله واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)}.
وَجْهَ النَّهارِ أوّله. قال:
مَنْ كانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ ** فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ

والمعنى: أظهروا الإيمان بما أنزل على المسلمين في أوّل النهار وَاكْفُرُوا به في آخره لعلهم يشكون في دينهم ويقولون: ما رجعوا وهم أهل كتاب وعلم إلا لأمر قد تبين لهم فيرجعون برجوعكم. وقيل: تواطأ اثنا عشر من أحبار يهود خيبر وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أوّل النهار من غير اعتقاد، واكفروا به آخر النهار وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدًا ليس بذلك المنعوت وظهر لنا كذبه وبطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه في دينهم. وقيل: هذا في شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة قال كعب بن الأشرف لأصحابه: آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلوا إليها في أوّل النهار، ثم اكفروا به في آخره وصلوا إلى الصخرة، ولعلهم يقولون: هم أعلم منا وقد رجعوا فيرجعون وَلا تُؤْمِنُوا متعلق بقوله: {أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ} وما بينهما اعتراض. أى: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم. أرادوا: أسرّوا تصديقكم بأنّ المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ عطف على أن يؤتى. والضمير في يحاجوكم لأحد لأنه في معنى الجمع، بمعنى: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم، أنّ المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة. فإن قلت: فما معنى الاعتراض؟ قلت:
معناه أنّ الهدى هدى الله، من شاء أن يلطف به حتى يسلم، أو يزيد ثباته على الإسلام، كان ذلك، ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين، وكذلك قوله تعالى قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يريد الهداية والتوفيق. أو يتمَّ الكلام عند قوله: {إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} على معنى: ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار إلا لمن تبع دينكم:
إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم لأن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم، ولأن إسلامهم كان أغيظ لهم. وقوله: {أَنْ يُؤْتى} معناه لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتموه، لا لشيء آخر، يعنى أن ما بكم من الحسد والبغي- أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب- دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم، والدليل عليه قراءة ابن كثير: أأن يؤتى أحد بزيادة همزة الاستفهام للتقرير والتوبيخ، بمعنى: إلا أن يؤتى أحد. فإن قلت: فما معنى قوله أو يحاجوكم على هذا؟ قلت: معناه دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولما يتصل به عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم. ويجوز أن يكون {هُدَى الله} بدلا من الهدى، و{أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ} خبر إن، على معنى: قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم حتى يحاجوكم عند ربكم فيقرعوا باطلكم بحقهم ويدحضوا حجتكم. وقرئ: إن يؤتى أحد، على إن النافية، وهو متصل بكلام أهل الكتاب. أي ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقولوا لهم: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم، يعنى ما يؤتون مثله فلا يحاجونكم. ويجوز أن ينتصب {أَنْ يُؤْتى} بفعل مضمر يدل عليه قوله: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} كأنه قيل: قل إن الهدى هدى الله، فلا تنكروا ان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم لأن قولهم: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} إنكار لأن يؤتى أحد مثل ما أوتوا. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال أبو حيان:
وتضمنت هذه الآيات من البديع: التجنيس المماثل، والتكرار في: آمنوا وآمنوا، وفي الهدى، هدى الله وفي: يؤتى وأوتيتم، وفي: أن أفضل، وذو الفضل.
والتكرار أيضا في: اسم الله، في أربعة مواضع.
والطباق: في آمنوا واكفروا، وفي وجه النهار وفي آخره، والإختصاص.
في: وجه النهار، لأنه وقت اجتماعهم بالمؤمنين يراؤونهم، وآخره لأنه وقت خلوتهم بأمثالهم من الكفار، والحذف في مواضع. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد صاحب المنار:

قال رحمه الله:
{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}.
جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَعْدَ دَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الإسلام الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَالْأَنْبِيَاءُ لِبَيَانِ حَالِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْيَهُودَ دَعَوْا مُعَاذًا وَحُذَيْفَةَ وَعَمَّارًا إِلَى دِينِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} الْآيَةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى إِضْلَالِ الْمُؤْمِنِينَ سَوَاءٌ دَعَوْا بَعْضَ الصَّحَابَةِ إِلَى دِينِهِمْ أَوْ لَا، وَلَيْسَ الْإِضْلَالُ خَاصًّا بِالدَّعْوَةِ، بَلْ كَانُوا يُلْقُونَ ضُرُوبًا مِنَ الشَّكِّ فِي النُّفُوسِ لِيَصُدُّوهَا عَنِ الإسلام، مِنْ أَغْرَبِهَا مَا فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ (72) وَكَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مُسْتَمِرًّا وَهُوَ مَا لابد مِنْهُ فِي وَقْتِ الدَّعْوَةِ، وَقَدْ قال تعالى فِي بَيَانِ حَالِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْمُضِلَّةِ: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ } قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ بِتَوَجُّهِهِمْ إِلَى الْإِضْلَالِ وَاشْتِغَالِهِمْ بِهِ يَنْصَرِفُونَ عَنِ النَّظَرِ فِي طُرُقِ الْهِدَايَةِ وَمَا أُوتِيَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى كَوْنِهِ نَبِيًّا هَادِيًا، فَهُمْ يَعْبَثُونَ بِعُقُولِهِمْ وَيُفْسِدُونَ فِطْرَتَهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْ قَالَ إِنَّ مَعْنَى إِضْلَالِ أَنْفُسِهِمْ هُوَ كَوْنُ عَاقِبَتِهِ شَرًّا عَلَيْهِمْ وَوَبَالًا فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُحَاجَّةِ وَبَيَانِ اعْوِجَاجِ طَرِيقَةِ الْمُضِلِّينَ، وَأَمَّا الْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْإِضْلَالِ فَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ، وَهُوَ لَا يُفِيدُ هُنَا فِي الِاحْتِجَاجِ لِأَنَّهُ إِنْذَارٌ لِغَيْرِ مُؤْمِنٍ بِالنَّذِيرِ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
أَقُولُ: وَقَدْ أَوْرَدَ الرَّازِيُّ نَحْوَ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَوَجْهًا ثَالِثًا هُوَ: أَنَّهُمْ لَمَّا اجْتَهَدُوا فِي إِضْلَالِ الْمُؤْمِنِينَ- ثُمَّ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ- صَارُوا خَائِبِينَ خَاسِرِينَ، حَيْثُ اعْتَقَدُوا شَيْئًا وَلَاحَ لَهُمْ أَنَّ الأمر بِخِلَافِ مَا تَصَوَّرُوهُ. وَلَكِنْ يُنَافِي هَذَا قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} وَهُمْ قَدْ شَعَرُوا بِخَيْبَتِهِمْ فِي الْإِضْلَالِ، وَلَكِنَّهُمْ لِانْهِمَاكِهِمْ فِيهِ لَمْ يَشْعُرُوا بأنه كَانَ صَارِفًا لَهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْهُدَى؛ لِأَنَّ الْمُنْهَمِكَ فِي الشَّيْءِ لَا يَكَادُ يَفْطِنُ لِعَوَاقِبِهِ وَآثَارِهِ.
ثُمَّ أنه تعالى نَادَاهُمْ مُبَيِّنًا لَهُمْ حَقِيقَةَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ لَعَلَّهُمْ يَلْتَفِتُونَ إِلَى أَنْفُسِهِمُ الَّتِي شُغِلُوا عَنْهَا بِمُحَاوَلَةِ إِضْلَالِ غَيْرِهِمْ فَقَالَ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} ذَهَبَ الرَّازِيُّ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُوَجَّهَةٌ إِلَى الطَّائِفَةِ الْعَارِفَةِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَا قَبْلَهَا مُوَجَّهٌ إِلَى غَيْرِ الْعَارِفِينَ بِذَلِكَ، فَآيَاتُ اللهِ عَلَى هَذَا هِيَ الْبِشَارَاتُ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ وَمِثْلُهَا بِشَارَاتُ الْإِنْجِيلِ، وَاللَّفْظُ عَامٌّ يَشْمَلُ مَا فِي الْكِتَابَيْنِ، وَالْكُفْرُ بِهَا عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْعَمَلِ بِهَا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْآيَاتُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَقِّيَّةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ كَانُوا يَشْهَدُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعْنًى وَحِسًّا، وَفِي الِاسْتِفْهَامِ مِنَ التَّوْبِيخِ لَهُمْ وَالنَّعْيِ عَلَيْهِمْ مَا يَلِيقُ بِمَنْ يُكَابِرُ الْوُجُودَ وَيَجْحَدُ الْمَشْهُورَ.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} أَيْ تَخْلِطُونَ الْحَقَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَهُوَ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ وَعَمَلُ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ وَالْبِشَارَةِ بِنَبِيٍّ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، لِمَ تَخْلِطُونَ هَذَا بِالْبَاطِلِ الَّذِي أَلْحَقَهُ بِهِ أَحْبَارُكُمْ وَرُهْبَانُكُمْ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ وَالْآرَاءِ، وَتَجْعَلُونَ كُلَّ ذَلِكَ دِينًا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَيُحْسَبُ أنه مِنْ عِنْدِ اللهِ كَمَا قال تعالى فِي آيَةٍ أُخْرَى تَأْتِي: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ} [3: 78] فَلُبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ مَا ذُكِرَ، وَقِيلَ هُوَ خَاصٌّ بِالْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ. وَقوله: {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} خَاصٌّ بِالْبِشَارَةِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا عَامٌّ أيضا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُمُونَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، فَيَجْعَلُونَ الْكِتَابَ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا، وَيَأْكُلُونَ بِذَلِكَ السُّحْتَ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَغَيْرِهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى.
وَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى الْحَشْوِيَّةِ الْمُقَلِّدِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَخْلِطُونَ الْحَقَّ الْمُنَزَّلَ بِآرَاءِ النَّاسِ وَيَجْعَلُونَ كُلَّ ذَلِكَ دِينًا سَمَاوِيًّا وَشَرْعًا إِلَهِيًّا.
ثُمَّ قال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الصَّيْفِ وَعَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَالَوْا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ غُدْوَةً وَنَكْفُرُ بِهِ عَشِيَّةً حَتَّى نُلَبِّسَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَصْنَعُونَ كَمَا نَصْنَعُ فَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِمْ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إِلَى قوله: {وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
أَقُولُ: وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أنه قَالَ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ لِبَعْضٍ: أَعْطُوهُمُ الرِّضَا بِدِينِهِمْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُصَدِّقُوكُمْ، وَيَعْلَمُوا أَنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمْ فِيهِ مَا تَكْرَهُونَ، وَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ وَأَخْرَجَ أيضا عَنِ السُّدِّيِّ أنه قَالَ فِيهَا: كَانَ أَحْبَارُ قُرًى عَرَبِيَّةٍ اثْنَيْ عَشَرَ حَبْرًا فَقَالُوا لِبَعْضِهِمْ: ادْخُلُوا فِي دِينِ مُحَمَّدٍ أَوَّلَ النَّهَارِ وَقُولُوا: نَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا حَقٌّ صَادِقٌ، فَإِذَا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ فَاكْفُرُوا وَقُولُوا: إِنَّا رَجَعْنَا إِلَى عُلَمَائِنَا وَأَحْبَارِنَا فَسَأَلْنَاهُمْ فَحَدَّثُونَا أَنَّ مُحَمَّدًا كَاذِبٌ، وَأَنْتُمْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَقَدْ رَجَعْنَا إِلَى دِينِنَا فَهُوَ أَعْجَبُ إِلَيْنَا مِنْ دِينِكُمْ، لَعَلَّهُمْ يَشُكُّونَ فَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا مَعَنَا أَوَّلَ النَّهَارِ فَمَا بَالُهُمْ؟ فَأَخْبَرَ اللهُ- عَزَّ وَجَلَّ- رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَ حَدِّ الْقَوْلِ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يَهُودٌ صَلَّتْ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَكَفَرُوا آخِرَ النَّهَارِ مَكْرًا مِنْهُمْ لِيُرُوا النَّاسَ أَنْ قَدْ بَدَتْ لَهُمْ مِنْهُ الضَّلَالَةُ بَعْدَ أَنْ كَانُوا اتَّبِعُوهُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا النَّوْعُ الَّذِي تَحْكِيهِ الْآيَةُ مِنْ صَدِّ الْيَهُودِ عَنِ الإسلام مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ طَبِيعِيَّةٍ فِي الْبَشَرِ، وَهِيَ أَنَّ مِنْ عَلَامَةِ الْحَقِّ أَلَّا يَرْجِعَ عَنْهُ مَنْ يَعْرِفُهُ، وَقَدْ فَقِهَ هَذَا هِرَقْلُ صَاحِبُ الرُّومِ فَكَانَ مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ أَبَا سُفْيَانَ مِنْ شُئُونِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَمَا دَعَاهُ إِلَى الإسلام: هَلْ يَرْجِعُ عَنْهُ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا. وَقَدْ أَرَادَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَنْ تَغُشَّ النَّاسَ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ لِيَقُولُوا: لَوْلَا أَنْ ظَهَرَ لِهَؤُلَاءِ بُطْلَانُ الإسلام لَمَا رَجَعُوا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلُوا فِيهِ، وَاطَّلَعُوا عَلَى بَاطِنِهِ وَخَوَافِيهِ؛ إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْسَانُ الْحَقَّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، وَيَرْغَبَ عَنْهُ بَعْدَ الرَّغْبَةِ فِيهِ بِغَيْرِ سَبَبٍ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الإسلام بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ رَغْبَةً لَا حِيلَةً وَمَكِيدَةً كَمَا كَادَ هَؤُلَاءِ. فَمَاذَا تَقُولُ فِي هَؤُلَاءِ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ رَغْبَةً فِيهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لَهُ لِاعْتِقَادِهِ أنه حَقٌّ فِي نَفْسِهِ، فَإِذَا بَدَا لَهُ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ يَحْتَسِبُ وَخَابَ ظَنُّهُ فِي الْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهُ يَتْرُكُ ذَلِكَ الشَّيْءَ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا أَمَرَ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ إِلَّا لِتَخْوِيفِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يُدَبِّرُونَ الْمَكَايِدَ لِإِرْجَاعِ النَّاسِ عَنِ الإسلام بِالتَّشْكِيكِ فِيهِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَكَايِدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ فِي نُفُوسِ الْأَقْوِيَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَوَصَلُوا فِيهِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، فَإِنَّهَا قَدْ تَخْدَعُ الضُّعَفَاءَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي الإسلام لِتَفْضِيلِهِ عَلَى الْوَثَنِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَ أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ بالإيمان، كَالَّذِينِ كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ؛ وَبِهَذَا يَتَّفِقُ الْحَدِيثُ الأمر بِذَلِكَ مَعَ الْآيَاتِ النَّافِيَةِ لِلْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ وَالْمُنْكِرَةِ لَهُ- فِيمَا أَرَى- وَقَدْ أَفْتَيْتُ بِذَلِكَ كَمَا يَظْهَرُ لِي وَاللهُ أَعْلَمُ.