فصل: فصل في جمع الفاتحة لكل ما يحتاج الإنسان إليه في معرفة المبدأ والوسط والمعاد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} بالرحمن سبقت رحمته غضبه وبالرَّحيم حجب كرمه سخطه الرحمن اسم القدم والرّحيم اسم البقاء والرَّحْمانِ اسم الحقيقة والرّحيم اسم الصفة وقيل الرحمن بالإشراف على أسرار أوليائه والتجلى لارواح انبيائه وقيل الرحمن خاص الاسم خاص الفعل والرّحيم عام الاسم عام الفعل وقيل الرحمن بالنعمة والرحيم بالعصمة وقيل الرحمن بالتجلى والرّحيم بالتدلّى وقيل الرحمن بكشف الانوار والرّحيم بحفظ ودائع الأسرار وقيل الرحمن بذاته والرّحيم بنعوته وصفاته وقال سهل بنسيم روح الله اخترع من ملكه ما شاء رحمة لأنه رحمن رحيم وقال الواسطى الرحمانية تشوق الروح شوقًا والالهية تذوق الحق ذوقًا وقال ابراهيم الخواص من عرفَهَ بأنه الرحمنُ الرّحيم لَزِمه معرفته بالرحمة الثقة به في حياته ومماته والعطف بالرحمة على الخلائق اجمع في الدنيا بالعوافى والارزاق بالمغفرة والرحمة والغفران قال جعفر الصادق الرحمنُ العاطفُ على خلقه السَابق المقدور عليهم والمراقِبُ لهم والرحيم المتعطف لهم في امر المعاشِ والعوافى وقال الجنيد في قوله: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} الرحمة على وجهين رحمة لطفه ورحمةُ عطفه فإشارة باسمه الرّحمن إلى لطفه وإشارة باسمه الرَّحيم إلى عطفه وقال الاستاذ الرحمنُ خاص الاسم عام المعنى والرّحيم عام الاسم خاصّ المعنى فالرحمن بما رَوَّح والرّحيم بما لَوَّحَ فالتَرويح للمباد والتلويح بالانوار والرّحمن بكشف تجليه والرّحيم بلطف توليه والرحمن بما اولى من الايمان والرّحيم بما اسرى من العرفان والرحمن بما اعطى من العرفان والرحيم بما تولّى من الغفران والرحيم بما منّ به من الرضوان والرحمن بما يكرم به من الرضوان والرحيم بما يكرم به من الرّؤية والعيان فالرحمن بما يوافق والرحيم بما يحقق فالتوفيق للمعاملات والتحقيق للمواصلات فالمعاملات للقاصدين والمواصلات للواجدين والرحمن بما يَصْنَعُ لهم والرحيم بما يدفع عنهم والصنع بجمع العناية والدفع بحسن الرعاية إلى هاهنا كلام الاستاذ امّا من اخترعى أن اسم الرحمن محل طلوع انوار العناية والرحيم محل اشراق شمس الكفاية فبالعناية تهدى أهل العرفان إلى مشاهد القدم وبالكفاية يحفظ حقائق إيمانهم أبدًا لوجه بقاء الديموميّة فبالرحمن تأيدهم وبالرحيم ترقّيهم وتحفظهم فالأوّل للعناية والآخر للكفاية تغمرهم بنور الأزلية بين الصفتين حتى يصيروا بالرحمن مشتاقين وبالرّحيم والهِين.
وقال حَمِيد هل يكون من الرحمن لأهل الايمان إلا الأمنَ والامان والرّؤية والعيانَ وقال سهل الرحمن على عباده بالمغفرة والرّضوان والرّحيمُ عليهم بالعوافي والأرزاق.
قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} في اسم المالك رجاء المقبلين وتخويف المهلكين يجازى مقاساة أَكَم فراقِ العاشقين بمشاهدته ونفائس كرامته ويجازى عُموم المحبين بكشف جمالِه وجلاله ويجازى المعاملةَ الصادقين بإدخالهم في جنانه وإسكانهم في جواره وقال ابن عطا يجازى يوم الحساب كل صنفٍ بقصودهم وهمتهم ويجازى العارفين بالقرب منه والنظر إلى وجهه الكريمة ويجازى ارباب المعاملات بالحسنات وقيل مالكِ يوم الكشف والاشهاد ليجازى كل نفسٍ بما تسعى وقال الاستاذ مالك نفوس العابدين فصرفها في خدمته ومالك قلوب العارفين فشرفها ومَالِكِ نفوس القاصدين فيتمها ومالك قلوب الواجدين فهيّمها ومالكِ اشباحِ من عَبَدَه فلاطفها بنواله وافضاله ومالك أرواح من اَحَبّه فكاشفها بنعت جلال ووصف جماله ومالك زمامِ ارباب التوحيد فصرّفهم حيث شاء كما شاء ووفقهم حيث شاء كما شاء على ما يشاء كما شاء لم تكِلْهم إليهم لحظة ولا ملَكهم من امرهم سيئةً ولا خَطْرة افناهم له عنهم.
قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي بمعونتك نعبدك لا بحولنا وقوّتنا وايّاك نستعين بتمام عبوديتك ودوام سَتْرك علينا حتَى نرى فضلك ولا ننظر إلى أعمالنا إيّاك نعبد أي إيّاك نعبد لا برؤية المعاملات وطلب المكافآت وإياك نستعين أي نستعينك بمزيد العناية بنعت العصمة عن القطيعة وأيضا إياك نعبد بالمراقبة وإياك نستعين بكشف المشاهدة وأيضًا إياك نعبد بعلم اليقين وإياك نستعين بحق اليقين وأيضا و{إياك نعبد وإياك نستعين} بالرّؤية وقيل إياك نعبد بقطع العلائق والاغراض وإياك نستعين على ثبات هذا الحال بك ولا بنا وقيل إيّاك نعبد بالعلم وإياك نستعين بالمعرفة وقيل إياك نعبد بأمْرك وإياك نستعين علينا بفضلك قال سهل إياك نعبد بهدايتك وإياك نستعين بكلايتك على عبادتك قال الانطاكيُّ انّما يعبدُ الله على اربع على الرغبة والرّهبة والحياء والمحّبة فأفضلها المحبَّةُ التي تَليها والحيَاء ثم الرَّهبةُ ثم الرَّغبةُ وقال الأستاذ العبادة بستانُ القاصدين ومستروح المريدين ومَرْتَعُ الأنس للمحبين ومرتع البَهْجة للعارفين بها قوة أعينِهم وفيها مسَرَّةُ قلوبهم ومنها راحة ابدانهم.
قوله تعالى: {اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي اهْدِنا مرادك منّا لأن الطريق المستقيمَ ما أراد الحق من الخلق من الصدق والإخلاص في عبوديته وأيضًا ارشِدْنا إلى ما أنت عليه وأيضًا اهْدِنِا انابتك حتى نتّصف بصفاتك وأيضًا اهدنا إلى معرفتك حتى نستريحَ من معاملتنا بنسيم أُنسِك وحقائق حسنك وقيل معنى اهِدِنا أي مِلْ بقلوبنا اليك واقم بهمِّنا بين يديك وكن دليلَنا منك اليك حتى لا تقطعَ عمالك بك وقيل أي ارشدنا طريق المعرفة حتى نستقيم معك بخدمتك وقيل أي ارِنَا طريق الشكر فنفْرحَ ونَطرب بقربك وقيل اهدنا بفناء أوصاف الطريق إلى أوصافك التي لم يزل ولا يزال وقيل اهدنا هدى العيان بعد البيان لنستقيم لك على حسب إرادتك وقيل اهدنا هدى من يكون منك مَبْدأه حتى يكون اليك منتهاه وقيل {اهدنا الصراط المستقيم} بالضِّدية عن الصّراط لئلاّ يكون مربوطًا بالصّراط.
قال الجنيد: إن القوم لما سألوا الهداية عن الحيرة التي وردت عليهم عن اشهاد صفاته الازليّة فسألوا الهداية إلى أوصاف العبوديّة كيلا يستغرقوا في رؤية صفات الازليّة قال بعضهم اليك قصدنا فقومنا وقيل اهدنا بالقوة والتمكين.
وقال الحسين أي اهدِنا طريق المحبة لك والسعى اليك قال الشبلي اهدنا صراط الاولياء والاصفياء وقال بعضهم ارشدنا الذي لا اعوجاج فيه وهوالاسلام وقيل ارشدنا في الدنيا إلى الطاعات وبلغنا في الاخرة الدرجات وقال الاستاذ أي ازل عنّا ظلُماتِ احوالنا لنستضئ بأنوار قدسك عن التفيؤ لظلال طلبنا وارفع عنّا ظلّ جَهْدِنا لنستبصر بنجوم جودك فنجدك بك قال الحسينُ اهدنا إلى طاعتك كما ارشَدَنا إلى علم توحيدك قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه اهدِنا أي ثبتنا على الطريق المستقيم والمنهج القويم.
قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} أي منازل الدينَ انْعَمْتَ عليهم بالمعرفة وحسن الادَبَ في الخدمة وأيضًا أنعمت عليهم باليقين التّام والصدق على الدَّوام واطلاعِهم على مكائد النفس والشيطان وكشف غرائب الصفات وعجائب انوار الذاتِ والاستقامة في جميع الاحوال وبسعادة الهداية إلى القربة بعناية الازلية وهم الانبياء والاولياء والصديقون والمقربون والعارفون والامناءُ والنخباء قال أبو عثمان انعمت عليهم بان عَرّفتَهم مهالك الصّراط ومكائد الشيطانِ وجناية النفس وقال بعضهم أنعمت عليهم في سابق الازل بالسعادة وقال جعفر بن محمد انعمت عليهم بالعلم بك والفهم منك وقيل انعمتُ عليهم بمشاهدة المنعم دون النعمة وقال بعضهم انعمتَ عليهم بالرّضا بقضائك وقَدرك وقيل انعمت عليهم بمخالفة النفس والهوى والاقبال عليك بدوم الوفاء وقال حميد فيما قضيتَه من المضارّ والمسارّ وقال بعضهم انعمت عليهم بالاقبال عليك والفهم عنك ويقال طريق من اَفْنَيْتَهم عنهم طاقتهم بك حتى لم يقفوا في الطريق ولم يسدَّهم عنك خفايا المكر وقيل صراط من انعمت عليهم حتى يُحرسوا من مكائد الشيطان ومغاليط النفوس ومخايل الظنون ويقالُ من طهرتَهم من اثارهم حتى وصلوا اليك بك ويقال صراط من انعمت عليهم بالنظر اليك والاستعانة بك والتبرى من الحول والقوّة وشهود ما سبق لَهُم من السعادة في سابق الاختيار والعلم بتَوَحدك فيما قَضَيْته من المسارّ والمضار ويقال انعمت عليهم بحفظ الأدب في اوقات الخدمة واستشعار نعت الهيبة وقيل صراط من أنعمت عليهم من تأدَّبوا بالخلوة عند غليات بوادي الحقائق حتى لم يخرجوا عن حد العلم فلم يخلوا بشيء من اعد الهيبة ولم يضيعوا من احكام العبودية عند ظهور سلطان الحقيقة وقيل صراط مَن انعمتَ عليهم بل حفظت عليهم آداب الشريعة واحكامَها الشرع وقيل صراط من انعمت عليهم حتى لم يطف شموسُ معارفهم انوارَ ورَعهم ولم يضيعوا من أحكام العبودية عند ظهور سلطان الحقيقة.
قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم} يعني المطرودين عن باب العبودية وقال أبو عثمان الذين غَضَبت عليهم وخذلتهم ولم تحفظ قلوبهم حتى تَهَوَّدوا وتنصَّروا وقال الاستاذ الذين صدْمتهم هوازم الخذلان وأدركتهم مصائب الحرمان قال أبو العباس الدينَورَى وكلتهم إلى حَوْلهم وقوتهم وعرّيتهم من حولك وقوّتك وقيل هم الذّين لَحِقَهم ذُلّ الهوان واصابهم سوء الخسران وشَغَلوا في الحلال باجتلاب الحظوظ وهو في التحقيق مكرر ويحسبون أنهم على شيء وللحق في شقاوَتهم سِرّ {ولا الضالين} عن شهود سابق الاختيار وجَرَيان تصاريف الاقدار: {وَلاَ الضَّالِّينَ} يعني المفلسين عن نفائس المعرفة وأيضا {غير المغضوب عليهم} بالمكر والاستدراج: {وَلاَ الضَّالِّينَ} عن انوار السبل والمنهاج وايضًا: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم} بالحجاب: {وَلاَ الضَّالِّينَ} عن رؤية المآب وأيضًا {غير المغضوب عليهم} بالانفصال {ولا الضالين} عن الوِصَال وقال ابن عطاء غير المخذولين والمطرودين والمنهانين الذين ضلوا عن الطريق الحقّ وقيل: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم} في طريق الهلكى: {وَلاَ الضَّالِّينَ} عن طريق الهدى لاتباع الهوى وأما في قوله آمين أي استدعاء العارفين مزيد القربة مع استقامة المعرفة من رب العالمين والافتقار إلى الله بنعت الانظار لاقتباس الأنوار وأيضا قاصدين إلى الله بمراتب النوعية والرّهبة وقال ابن عطاء أي كذلك فافعل ولا تكلني إلى نفسى طرفة عين وقال جعفر آمين قاصدين نحوك وأنْتَ أعَزُّ من أن تخيبَ قاصِدًا. اهـ.

.فصل في جمع الفاتحة لكل ما يحتاج الإنسان إليه في معرفة المبدأ والوسط والمعاد:

قال فخر الدين الرازي:
اعلم أن قوله الحمد لله إشارة إلى إثبات الصانع المختار، وتقريره: أن المعتمد في إثبات الصانع في القرآن هو الاستدلال بخلقة الإنسان على ذلك، ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال: {رَبّيَ الذي يُحْىِ وَيُمِيتُ} [البقرة: 258]، وقال في موضع آخر: {الذى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78]، وقال موسى عليه السلام: {رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شيء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50]، وقال في موضع آخر: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الأولين} [الشعراء: 26]، وقال تعالى في أول سورة البقرة: {يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] وقال في أول ما أنزله على محمد عليه السلام: {اقرأ باسم رَبّكَ الذي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 1، 2] فهذه الآيات الست تدل على أنه تعالى استدل بخلق الإنسان على وجود الصانع تعالى، وإذا تأملت في القرآن وجدت هذا النوع من الاستدلال فيه كثيرًا جدًا.
واعلم أن هذا الدليل كما أنه في نفسه هو دليل فكذلك هو نفسه إنعام عظيم، فهذه الحالة من حيث إنها تعرف العبد وجود الإله دليل، ومن حيث أنها نفع عظيم وصل من الله إلى العبد إنعام، فلا جرم هو دليل من وجه، وإنعام من وجه، والإنعام متى وقع بقصد الفاعل إلى إيقاعه إنعامًا كان يستحق هو الحمد، وحدوث بدن الإنسان أيضًا كذلك، وذلك لأن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور والإشكال من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع، فحدوث هذه الأعضاء المختلفة يدل على وجود صانع عالم بالمعلومات قادر على كل المقدورات قصد بحكم رحمته وإحسانه خلق هذه الأعضاء على الوجه المطابق لمصالحنا الموافق لمنافعنا، ومتى كان الأمر كذلك كان مستحقًا للحمد والثناء، فقوله: {الحمد للَّهِ} يدل على وجود الصانع، وعلى علمه، وقدرته، ورحمته، وكمال حكمته وعلى كونه مستحقًا للحمد والثناء والتعظيم، فكان قوله الحمد لله دالًا على جملة هذه المعاني، وأما قوله: {رَبّ العالمين} فهو يدل على أن ذلك الإله واحد، وأن كل العالمين ملكه وملكه، وليس في العالم إله سواه، ولا معبود غيره، وأما قوله: {الرحمن الرحيم} فيدل على أن الإله الواحد الذي لا إله سواه موصوف بكمال الرحمة والكرم والفضل والإحسان قبل الموت وعند الموت وبعد الموت، وأما قوله: {مالك يَوْمِ الدين} فيدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يحصل بعد هذا اليوم يوم آخر يظهر فيه تمييز المحسن عن المسيء، ويظهر فيه الانتصاف للمظلومين من الظالمين، ولو لم يحصل هذا البعث والحشر لقدح ذلك في كونه رحمانًا رحيمًا، إذا عرفت هذا ظهر أن قوله: {الحمد للَّهِ} يدل على وجود الصانع المختار، وقوله: {رَبّ العالمين} يدل على وحدانتيه، وقوله: {الرحمن الرحيم} يدل على رحمته في الدنيا والآخرة، وقوله: {مالك يَوْمِ الدين} يدل على كمال حكمته ورحمته بسبب خلق الدار الآخرة.