فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويجوزُ أن لا يُراد مفعول، أي: كنتم من أهل التعليم، وهو نظير: أطعم الخبزَ، المقصود الأهم إطعام الخُبْز من غير نظرٍ إلى مَنْ يُطْعمُه، فالتضعيف فيه للتعدية.
وقد رجح جماعة هذه القراءة على قراءة نافع، بأنها أبلغ؛ وذلك أن كل مُعَلِّم عالم، وليس كُلُّ عالمٍ معلمًا، فالوصْف بالتعليم أبلغ، وبأن قبله ذِكْرَ الربانيين، والرباني يقتضي أن يَعْلَم، ويُعَلَّمَ غيرَه، لا أن يقتصر بالعلم على نفسه.
ورجح بعضُهم الأولى بأنه لم يُذْكَر إلا مفعول واحدٌ، والأصل عدم الحذف- والتخفيف مُسوَّغ لذلك، بخلاف التشديد، فإنه لابد من تقدير مفعول. وأيضا فهو أوفق لِـ {تَدْرُسُونَ}. والقراءتان متواترتان، فلا ينبغي ترجيحُ إحداهما على الأخْرى.
وقرأ الحسن ومجاهدٌ {تَعَلَّمُونَ}- بفتح التاء والعين، واللام مشددة- من تعلم، والأصل تتعلمون- بتاءين- فحُذِفَتْ إحداهما.
قوله: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} كالذي قبله، والعامة على {تَدْرُسُونَ} بفتح التاء، وضم الراء- من الدرس، وهو مناسب {تَعْلَمُونَ} من علم- ثلاثيًا.
قال بعضهم: كان حق من يقرأ {تُعَلِّمون}- بالتشديد- أن يقرأ {تُدَرِّسُونَ}- بالتشديد وليس بلازمٍ؛ إذ المعنى: صرتم تُعَلِّمون غيرَكم، ثم تُدَرِّسُونَ، وبما كنتم تدرسون عليهم- أي: تتلونه عليهم، كقوله: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس} [الإسراء: 6].
قال أبو حَيْوَةَ- في إحدى الرواتين عنه- {تَدْرِسُونَ}- بكسر الراء- وهي لغة ضعيفة، يقال: دَرَس العلم يدرسه- بكسر العين في المضارع- وهما لغتان في مضارع درس وقرأ هو- أيضا- في رواية {تُدَرِّسُونَ} من درَّس- بالتشديد- وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون التضعيف فيه للتكثير موافقًا لقراءة {تَعْلَمُونَ} بالتخفيف.
الثاني: أن التضعيف للتعدية، ويكون المفعولان محذوفين؛ لغهم المعنى، والتقدير: تُدَرِّسُونَ غيركم العلم، أي: تحملونهم على الدرس. وقُرِئَ {تُدْرِسُونَ} من أدرس- كيكرمون من أكرم- على أن أفعل بمعنى فعل- بالتشديد- فأدرس ودرّس واحد كأكرم وكرّم، وأنزل ونزّل.
والدرس: التكرار والإدمان على الشيء. ومنه: درس زيد الكتاب والقرآن، يدرُسه ويدرِسه، أي: كرر عليه، ويقال درست الكتاب، أي: تناولت أثره بالحفظ، ولما كان ذلك بمداومة القرآن عبر عن إدامة القرآن بالدرس. ودَرَس المنزلُ: ذهب أثرُه، وطلَلٌ عافٍ ودارس بمعنًى. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري:

أي ليس من صفة مَنْ اختراناه للنبوة واصطفيناه للولاية أن يدعو الخلق إلى نفسه، أو يقول بإثبات نفسه وحظِّه، لأن اختياره سبحانه إياهم للنبوة يتضمن عصمتهم عَمَّا لا يجوز، فتجويز ذلك في وصفهم مُنافٍ لحالهم، وإنما دعاء الرسل والأولياء- للخلق- إلى الله سبحانه وتعالى، وهو معنى قوله تعالى: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} أي إنما أشار بهم على الخلق بأن يكونوا ربانيين، والربَّاني منسوبٌ إلى الرب كما يقال فلان دقياني ولحياني... وبابه.
وهم العلماء بالله الحلماء في الله القائمون بفنائهم عن غير الله، المستهلكة حظوظهم، المستغرِقون في حقائق وجوده عن إحساسهم بأحوال أنفسهم، ينطقون بالله ويسمعون بالله، وينظرون بالله، فهم بالله مَحْوٌ عمَّا سوى الله. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور:

قال رحمه الله:
وقوله: {ما كان لبشر} نفي لاستحقاق أحد لذلك القول واللام فيه للاستحقاق.
وأصل هذا التركيب في الكلام ما كان فُلان فاعلًا كذا، فلما أريدت المبالغة في النفي عدل عن نفي الفعل إلى نفي المصدر الدال على الجنس، وجعل نفي الجنس عن الشخص بواسطة نفي الاستحقاق إذ لا طريقة لِحمل اسم ذات على اسم ذات إلاّ بواسطة بعض الحروف، فصار التركيب: ما كان له أن يفعل، ويقال أيضا: ليس له أن يفعل، ومثل ذلك في الإثبات كقوله تعالى: {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى} [طه: 118].
فمعنى الآية: ليس قولُ: {كونوا عبادًا لي} حقًا لبشر أيِّ بشر كان.
وهذه اللام هي أصل لام الجحود التي في نحو: {وما كان الله ليعذّبهم} [الأنفال: 33]، فتراكيب لام الجحود كلّها من قبيل قلب مثل هذا التركيب لقصد المبالغة في النفي، بحيث ينفى أن يكون وجود المسند إليه مجعولًا لأجل فِعْل كذا، أي فهو بريء منه بأصل الخلقة ولذلك سميت جحودًا.
والمنفي في ظاهر هذه الآية إيتاء الحكم والنبوءة، ولكن قد علم أنّ مصبّ النفي هو المعطوف من قوله: {ثم يقول للناس كونوا عبادًا لي} أي ما كان له أن يقول كونوا عبادًا لي إذا آتاه الله الكتاب إلخ.
والعباد جمع عبد كالعبيد، وقال ابن عطية: الذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع عبد لا يقصد معه التحقير، والعبيد يقصد منه، ولذلك قال تعالى: {يا عبادي} وسمّت العرب طوائف من العرب سكنوا الحِيرة ودخلوا تحت حكم كِسرى بالعباد، وقيل لأنهم تنصّروا فسموْهم بالعباد، بخلاف جمعه على عَبيد كقولهم: هم عبيد العَصا، وقال حمزةُ بنُ المطلب هل أنتم إلاّ عبيدٌ لأبي ومنه قول الله تعالى: {وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت: 46]؛ لأنّه مكان تشفيق وإعْلام بقلة مقدرتهم وأنه تعالى ليس بظلاّم لهم مع ذلك، ولما كان لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك آنس بها في قوله تعالى: {قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} [الزمر: 53] فهذا النوع من النظر يُسلك به سُبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن على الطريقة العربية السلبية. أهـ.
وقال ابن عاشور:
وقوله: {من دون الله} قيد قصد منه تشنيع القول بأن يكونوا عبادًا للقائل بأنّ ذلك يقتضي أنهم انسلخوا عن العبودية لله تعالى إلى عبودية البشر، لأنّ حقيقة العبودية لا تقبل التجزئة لمعبودين، فإنّ النصارى لما جعلوا عيسى ربًّا لهم، وجعلوه ابنًا للَّه، قد لزمهم أنهم انخلعوا عن عبودية الله فلا جدوى لقولهم: نحن عبد الله وعبيدُ عيسى، فلذلك جعلت مقالتُهم مقتضية أنّ عيسى أمرهم بأن يكونوا عبادًا له دون الله، والمعنى أن لامِر بأن يكون الناس عبادًا له هو آمر بانصرافهم عن عبادة الله.
{ولكن كونوا ربانيين} أي ولكن يقول كونوا ربانيين أي كونوا منسوبين للربّ، وهو الله تعالى، لأنّ النسب إلى الشيء إنما يَكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه.
ومعنى ذلك أن يكونوا مخلصين لله دون غيره.
والربّاني نسبة إلى الرب على غير قياس كما يقال اللِّحياني لعظيم اللحية، والشَّعراني لكثير الشعرَ.
وقوله: {بما كنتم تعلمون الكتاب} أي لأنّ علمكم الكتاب من شأنه أن يصدّكم عن إشراك العبادة، فإنّ فائدة العلم العمل. اهـ.

.من فوائد الشعراوي:

قال رحمه الله:
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ الله}.
ونحن نعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين ينزل منهجه، فهو ينزله في كتاب، ويقتضي ذلك أن يصطفي سبحانه إنسانا للرسالة، أي أن الرسول يجيء بمنهج ويطبقه على نفسه ويبلغه للناس، الرسول مصطفى من الله ويختلف في مهمته عن النبي، فالنبي أيضا مصطفى ليطبق المنهج، وهكذا حتى لا يسمع الناس المنهج ككلام فقط ولكن يرونه تطبيقا أيضا، إذن فالرسول واسطة تبليغية ونموذج سلوكي والنبي ليس واسطة تبليغية، بل هو نموذج سلوكي فقط.
إن الحق سبحانه وتعالى يرسل النبي ويرسل الرسول، ولذلك تأتي الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52].
هكذا نعرف أن الرسول والنبي كليهما مرسل من عند الله، الرسول مرسل للبلاغ والأسوة، والنبي مرسل للأسوة فقط، لأن هناك بعضا من الأزمنة يكون المنهج موجودا، ولكن حمل النفس على المنهج، هو المفتقد، ومثال ذلك عصرنا الحاضر ان المنهج موجود وكلنا نعلم ما الحلال وما الحرام، لكن خيبة هذا الزمان تأتي من ناحية عدم حمل أنفسنا على المنهج، لذلك فنحن نحتاج إلى أسوة سلوكية، هكذا عرفنا الكتاب، والنبوة، فما هو الحكم إذن؟
لقد جاء الحق بكلمة: الحكم هنا ليدلنا على أنه ليس من الضروري أن توجد الحكمة الإيمانية في الرسول أو النبي فقط، بل قد تكون الحكمة من نصيب إنسان من الرعية الإيمانية، وتكون القضية الإيمانية ناضجة في ذهنه، فيقولها لأن الحكمة تقتضي هذا. ألم يذكر الله لنا وصية لقمأن لابنه؟ إن وصية لقمأن لابنه هي المنهج الديني، وعلى ذلك فمن الممكن أن يأتي إنسان دون رسالة أو نبوة، ولكن المنهج الإيماني ينقدح في ذهنه، فيعظ به ويطبقه، وهذا إيذان من الله على أن المنهج يمكن لأي عقل حين يستقبله أن يقتنع به، فيعمل به ويبلغه.
ولابد لنا أن نؤكد أن من يهبه الله الحكمة في الدعوة لمنهج الله وتطبيق هذا المنهج، لن يضيف للمنهج شيئا، وبحكم صدقة مع الله فهو لن يدعي أنه مبعوث من الله للناس، أنه يكتفي بالدعوة لله وبأن، يكون أسوة حسنة.
لكن لماذا جاءت هذه الآية؟ لقد جاءت هذه الآية بعد جدال نصارى نجران مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأثناء الجدال انضمت إليهم جماعة من اليهود، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- بماذا تؤمن وتأمر؟ فأبلغهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوامر المنهج ونواهيه، وأصول العبادة، ولأن تلك الجماعة كانوا من أهل الكتاب، بعضهم من نصارى نجران والبعض الآخر من يهود المدينة، وكانوا يزيفون أوامر تعبدية ليست من عند الله، ويريدون من الناس طاعة هذه الأوامر، لذلك لم يفطنوا إلى الفارق بين منهج رسول الله صلى الله عليه السلام وأوامره، وبين ما زيفوه هم من أوامر، فمحمد صلى الله عليه وسلم يطلب من الناس عبادة الله على ضوء المنهج الذي أنزله عليه الحق سبحانه، أما هم فيطلبون طاعة الناس في أوامر من تزييفهم.
والطاعة- كما نعلم- هي لله وحده في أصول كل الأديان، فإذا ما جاء إنسان بأمر ليس من الله، وطلب من الناس أن يطيعوه فيه، فهذا معناه أن ذلك الإنسان يطلب أن يعبده الناس- والعياذ بالله- لأن طاعة البشر في غير أوامر الله هي شرك بالله. ولهذا تشابهت المواقف على هذا البعض من أهل الكتاب، وظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منهم طاعتهم لأوامره هو، كما كانوا يطلبون من الناس بعد تحريفهم للمنهج وقالوا: أتريد أن نعبدك ونتخذك إلها؟
إنهم لم يفطنوا إلى الفارق بين الرسول الأمين على منهج الله، وبين رؤسائهم الذين خالفوا الأحكام واستبدلوها بغيرها، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب منهم طاعته لذاته هو، ولكنه قد طلب منهم الطاعة للمنهج الذي جاء به رسولا وقدوة، واستنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوه.
وأنزل الله سبحانه قوله الحق: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ الله} [آل عمران: 79].
لقد بلغت بهم الغفلة والشرك أنهم ظنوا أن الله لم يختر رسولا أمينا على المنهج، وظنوا بالله ظن السوء، أو أنهم ظنوا أن الرسول سيحرف المنهج كما حرفوه هم، فتحولوا عن عبادة الله إلى عبادة من بعثه الله رسولا، ولذلك جاء القول الفصل {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ الله}.
وقد ينصرف المعنى أيضا إلى أن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يُجِلُّونَه صلى الله عليه وسلم وكل مؤمن مطلوب منه أن يُجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يعظمه، ومن فرط حب بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: أنسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، ألا نسجد لك؟
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب السجود له من أحد، والحق سبحانه هو الذي كلف عباده المؤمنين بتكريم رسوله فقال: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ الله الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
إن المطلوب هو التعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أن نعطي له أشياء لا تكون إلا لله.
إن تعظيم المسلمين لرسول الله وتكريمهم له هو أن نجعل دعاءه مختلفًا عن دعاء بعضنا بعضا.
والحق في هذه الآية التي نحن في مجال الخواطر عنها وحولها يقول: {وَلَاكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}.
إن لكن هنا للاستدراك، مثلما قلنا من قبل: إن بلى تنقض القضية التي قبلها وتثبت بعدها قضية مخالفة لها. إن الحق يستدرك هنا لنفهم أنه ليس لأحد من البشر أن يقول: {كونوا عبادا لي} بعد أن أعطاه الله الكتاب والحكم والنبوة، والقضية التي يتم الاستدراك من أجلها وإثباتها هي: {كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ} وكلمة رباني، وكلمة رب، وكلمة ربيون، وكلمة ربان، وكل المادة المكونة من الراء والباء تدل على التربية، والولاية، وتعهد المربي، وتدور حول هذا المعنى. أليس ربان السفينة هو الذي يقود السفينة؟
وكلمة الرب توضح المتولي للتربية، إذن فما معنى كلمة رباني؟ أنك إذا أردت أن تنسب إلى رب تقول: ربّي. وإذا أردنا المبالغة في النسبة نضيف لها ألفا ونونا فنقول: رباني ولذلك نجد في التعبيرات المعاصرة من يريدون أن ينسبوا أمرا إلى العلم فيقولون: علماني وفي ذلك مبالغة في النسبة إلى العلم. والفرق بين علمي وعلماني هو أن العلماني يزعم لنفسه أن كل أموره تمشي على العلم المادي، ونجد أن في علماني ألفًا ونونًا زائدين لتأكيد النسبة إلى العلم.
وقد يقول قائل: ولماذا نؤكد الانتساب إلى الله بكلمة رباني؟
ونقول: لأن الكلمة مأخوذة من كلمة رب، وتؤدي إلى معان: منها أن كل ما عنده من حصيلة البلاغ لابد أن يكون صادرا ومنسوبا إلى الرب؛ لأنه لم يأت بشيء من عنده، أي أنه يأخذ من الله ولا يأخذ من أحد آخر أبدا؛ فهو رباني الأخذ.
وتؤدي الكلمة إلى معنى آخر: أنه حين يقول ويتكلم فإنه يكون متصفا بخلق أنزله رب يربي الناس ليبلغوا الغاية المقصودة منهم، فهو عندما ينقل ما عنده للناس يكون مربيا، ويدبر الأمر للفلاح والصلاح.
يقول الحق سبحانه: {بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} إن العلم هو تلقي النص المنهجي. والدراسة هي البحث الفكري في النص المنهجي.
لذلك فنحن في الريف نقول: ندرس القمح أي أننا ندرس القمح بألة حادة كالنورج حتى تنفصل حبوب القمح عن التبن وتكون نتيجة الدراس هي استخلاص النافع.
إذن ففيه فرق بين {تعلمون} أي تعلمون غيركم المنهج الصادر من الله وذلك خاضع لتلقي النص، وبين {مَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} أي تعملون أفكاركم في الفهم عن النص.
إن الفهم عن النص يحتاج إلى مدارسة، ومعنى المدارسة هو أخذ وعطاء، ويقال: دارسه أي أن واحد قد قام بتبادل التدريس مع آخر، ويقال أيضا: تدارسنا أي أنني قلت ما عندي وأنت قد قلت ما عندك حتى يمكن أن نستخلص ونستنبط الحكم الذي يوجد في النص.
وقد يأتي النص محكما، وقد يأتي النص محتملا لأكثر من معنى.
وما دمت قد تعلمت، فلابد أنك تعرفت على النصوص المحكمة للمنهج. وما دمت قد تدارست، فلابد أنك قد فهمت من النصوص المحتملة حين مدارستك لأهل الذكر حُسْن استقبال المنهج؛ لذلك يجب أن تكون ربانيًا في الأمرين معًا.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا}. اهـ.