فصل: من فوائد صاحب المنار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأه الجمهور {تبغون} بتاء الخطاب فهو خطاب لأهل الكتاب جارٍ على طريقة الخطاب في قوله آنفًا: {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة} [آل عمران: 80] وقرأه أبو عَمرو، وحفص، ويعقوب: بياء الغيبة فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة، إعراضًا عن مخاطبتهم إلى مخاطبة المسلمين بالتعجيب من أهل الكتاب.
وكله تفريع ذكر أحوال خلَف أولئك الأمم كيف اتبعوا غير ما أخذ عليهم العهد به.
والاستفهام حينئذ للتعجيب.
ودين الله هو الإسلام لقوله تعالى: {أن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] وإضافته إلى الله لتشريفه على غيره من الأديان، أو لأنّ غيره يومئذ قد نسخ بما هو دين الله.
ومعنى {تبغون} وتطلبون يقال بَغى الأمر يبغيه بُغَاء بضم الباء وبالمد، ويقصر والبُغية بضم الباء وكسرها وهاء في آخره قيل مصدر، وقيل اسم، ويقال ابتغى بمعنى بغى، وهو موضوع للطلب ويتعدّى إلى مفعول واحد.
وقياس مصدره البغي، لكنه لم يسمع البغي إلاّ في معنى الاعتداء والجور، وذَلك فعلُه قاصر، ولعلهم أرادوا التفرقة بين الطلب وبين الاعتداء، فأماتوا المصدر القياسي لبَغَى بمعنى طلب وخصّوه ببغى بمعنى اعتدى وظلم: قال تعالى: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق} [الشورى: 42] ويقال تَبَغّى بمعنى ابتغى.
وجملة {وله أسلَم} حال من اسم الجلالة وتقدم تفسير معنى الإسلام لله عند قوله تعالى: {فقل أسلمتُ وجهي للَّه} [آل عمران: 20].
ومعنى {طوعًا وكرهًا} أنّ من العقلاء من أسلم عن اختيار لظهور الحق له، ومنهم من أسلم بالجبلّة والفطرة كالملائكة، أو الإسلام كرهًا هو الإسلام بعد الامتناع أي أكرهته الأدلة والآيات أو هو إسلام الكافرين عند الموت ورؤية سوء العاقبة، أو هو الإكراه على الإسلام قبل نزول آية لاَ إكراه في الدين.
والكرهُ بفتح الكاف هو الإكراه، والكُره بضم الكاف المكروه.
ومعنى {وإليه ترجعون} أنه يرجعكم إليه ففعل رجع المتعدّي أسند إلى المجهول.
لظهور فاعله، أي يرجعكم الله بعد الموت، وعند القيامة، ومناسبة ذكر هذا، عقب التوبيخ والتحذير، أنّ الربّ الذي لا مفر من حكمه لا يجوز للعاقل أن يعدل عن ديننٍ أمره به، وحقه أن يسلم إليه نفسه مختارًا قبل أن يسلمها اضطرارًا.
وقد دل قوله: {وإليه ترجعون} على المراد من قوله: {وكرهًا}. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ}.
قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ الْآيَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْدِيدُ تَقْرِيرِ الْأَشْيَاءِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، قَطْعًا لِعُذْرِهِمْ وَإِظْهَارًا لِعِنَادِهِمْ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا ذَكَرَهُ اللهُ تعالى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَهُوَ أنه تعالى أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ آتَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ بأنهمْ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ آمَنُوا بِهِ وَنَصَرُوهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَبِلُوا ذَلِكَ. وَحَكَمَ بِأَنَّ مَنْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ مِنَ الْفَاسِقِينَ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا رُجُوعٌ إِلَى أَصْلِ الْمَوْضُوعِ الَّذِي افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِتَقْرِيرِهِ وَهُوَ التَّنْزِيلُ، وَكَوْنُ الدِّينِ عِنْدَ اللهِ وَاحِدًا، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَسَائِرُ النَّبِيِّينَ، وَكَوْنُ اللهِ تعالى مُخْتَارًا فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضَ خَلْقِهِ مِنْ مَزِيَّةٍ أَوْ نُبُوَّةٍ وَقَدْ سَبَقَتْ تِلْكَ الْمَسَائِلُ لِإِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَإِزَالَةِ شُبْهَاتِ مَنْ أَنْكَرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْثَةَ نَبِيٍّ مِنَ الْعَرَبِ وَاسْتَتْبَعَ ذَلِكَ مُحَاجَّتَهُمْ وَبَيَانَ خَطَئِهِمْ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تُقَرِّرُهَا هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْحُجَجِ الْمُوَجَّهَةِ إِلَيْهِمْ لِدَحْضِ مَزَاعِمِهِمْ وَهِيَ أَنَّ اللهَ تعالى أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ وَعَلَى أَتْبَاعِهِمْ بِالتَّبَعِ لَهُمْ بِأَنَّ مَا يُعْطُونَهُ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ- وَإِنْ عَظُمَ أَمْرُهُ- فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَنْ يُرْسَلُ مِنْ بَعْدِهِمْ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ مِنْهُ وَأَنْ يَنْصُرُوهُ. أَيْ فَالْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا بِالنَّظَرِ إِلَى أَصْلِ الْمَوْضُوعِ.
أَمَّا أَخْذُ الْمِيثَاقِ مِنَ الْمَرْءِ، وَهُوَ الْعَهْدُ الْمُوَثَّقُ الْمُؤَكَّدُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَهُوَ الْمُعَاهِدُ (بِكَسْرِ الْهَاءِ) يَلْتَزِمُ لِلْآخِذِ وَهُوَ الْمُعَاهَدُ (بِفَتْحِ الْهَاءِ) أَنْ يَفْعَلَ كَذَا مُؤَكِّدًا ذَلِكَ بِالْيَمِينِ أَوْ بِلَفْظٍ مِنَ الْمُعَاهَدَةِ أَوِ الْمُوَاثَقَةِ. وَفِي قوله: {مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: الْمِيثَاقَ مِنَ النَّبِيِّينَ. فَالنَّبِيُّونَ هُمُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمْ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهُ سَارِيًا عَلَى أَتْبَاعِهِمْ بِالْأَوْلَى، كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ إِضَافَةَ مِيثَاقٍ إِلَى النَّبِيِّينَ عَلَى أَنَّهُمْ أَصْحَابُهُ فَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْمُوثِقِ لَا إِلَى الْمُوثَقِ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ: عَهْدُ اللهِ وَمِيثَاقُ اللهِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِ مَسْكُوتًا عَنْهُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ عَلَى أُمَمِهِمْ، أَوِ الْخِطَابُ لأهل الْكِتَابِ وَالْمَعْنَى: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى قَوْمِكُمْ. أَوِ التَّقْدِيرُ: مِيثَاقَ أُمَمِ النَّبِيِّينَ، وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ مَرْوِيٌّ عَنِ السَّلَفِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِالثَّانِي مِنْ آلِ الْبَيْتِ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ قَالَ: هُوَ عَلَى حَدِّ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [65: 1]. فَالْخِطَابُ فِيهِ لِلنَّبِيِّ وَالْمُرَادُ أَمَتُّهُ عَامَّةً.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَوِ الطَّرِيقَيْنِ فِي تَفْسِيرِ الْعِبَارَةِ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي أُوتِيَتِ الْكِتَابَ إِذَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَنْصُرُوهُ وَجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِمِيثَاقِ اللهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ أَوْ مِيثَاقِهِ عَلَيْهِمْ أَنْفُسِهِمْ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ.
وَاللَّامُ فِي قوله: {لَمَا آتَيْتُكُمْ} لَامُ التَّوْطِئَةِ لِأَخْذِ الْمِيثَاقِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِحْلَافِ أَيْ أَنَّ الْمِيثَاقَ بِمَعْنَى الْقَسَمِ، فَأَخْذُهُ بِمَعْنَى الِاسْتِحْلَافِ وما الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا اللَّامُ هِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِمَعْنَى الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى: مَهْمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ وَاللَّامُ فِي لَتُؤْمِنُنَّ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ وَجَعَلُوا لَتُؤْمِنُنَّ سَادًّا مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ وَجَوَابِ الشَّرْطِ جَمِيعًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً وَالْعَائِدُ حِينَئِذٍ مَحْذُوفٌ أَيْ: لَمَا آتَيْتُكُمُوهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ {لِمَا} بِكَسْرِ اللَّامِ وَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ وما عَلَى هَذِهِ مَوْصُولَةٌ حَتْمًا. وَالْمَعْنَى أنه أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ لِأَجْلِ مَا ذَكَرَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ {آتَيْنَاكُمْ} بِالْإِسْنَادِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ تَفْخِيمًا. وَقوله: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} قَالَ فِيهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَفْظُ رَسُولٍ فِيهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِشْكَالٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِيثَاقَ قَدْ أُخِذَ عَلَى النَّبِيِّينَ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ مَا جَاءَ فِي عَصْرِ أَحَدٍ مِنْهُمْ.
وَكَانَ اللهُ تعالى يَعْلَمُ ذَلِكَ عِنْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ عِلْمَهُ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بأنه مِيثَاقٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَرْضِ أَيْ إِذَا فُرِضَ أَنْ جَاءَكُمْ وَجَبَ عَلَيْكُمُ الإيمان بِهِ وَنَصْرُهُ.
أَقُولُ: وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانَ مَرْتَبَتِهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ النَّبِيِّينَ إِذَا فُرِضَ أَنْ وُجِدَ فِي عَصْرِهِمْ، وَهُوَ أنه يَكُونُ الرَّئِيسَ الْمَتْبُوعَ لَهُمْ؛ فَمَا قَوْلُكُ إِذًا فِي أَتْبَاعِهِمْ لاسيما بَعْدَ زَمَنِهِمْ؟ وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ صلى الله عليه وسلم هَذَا الِاخْتِصَاصُ لِأَنَّ اللهَ تعالى قَضَى فِي سَابِقِ عِلْمِهِ بِأن يكون هُوَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ الَّذِي يَجِيءُ بِالْهُدَى الْأَخِيرِ الْعَامِّ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ الْبَشَرُ بَعْدَهُ إِلَى شَيْءٍ مَعَهُ سِوَى اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ وَاسْتِقْلَالِ أَفْكَارِهِمْ، وَأن يكون مَا قَبْلَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي يَجِيئُونَ بِهَا هِدَايَةً مَوْقُوتَةً خَاصَّةً بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّسُولِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بِحُجَجٍ مِنْهَا حَدِيثُ وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمِيثَاقَ أُخِذَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ أنه لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ مِنْ إِرْسَالِهِمْ وَاحِدًا وَجَبَ أن يكونوا مُتَكَافِلِينَ مُتَنَاصِرِينَ إِذَا جَاءَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ آخَرَ آمَنَ بِهِ وَنَصَرَهُ بِمَا اسْتَطَاعَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أن يكون مُتَّبِعًا لِشَرِيعَتِهِ، كَمَا آمَنَ لُوطٌ لِإِبْرَاهِيمَ وَأَيَّدَ دَعْوَتَهُ إِذْ كَانَ فِي زَمَنِهِ.
وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ حُجَّةٌ عَلَى الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الدِّينَ سَبَبًا لِلْخِلَافِ وَالنِّزَاعِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْكَيْدِ لَهُ فَكَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ فَلَا يَلْقَى مِنْهُمْ إِلَّا الْخِلَافَ وَالشَّحْنَاءَ.
وَسُئِلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ عَنْ إِيمَانِ نَبِيٍّ بِنَبِيٍّ آخَرَ يُبْعَثُ فِي عَصْرِهِ هَلْ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ نَسْخَ الثَّانِي لِشَرِيعَةِ الْأَوَّلِ؟ فَقَالَ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَلَا يُنَافِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَصْدِيقُ دَعْوَتِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى مَنْ يُؤْذِيهِ وَيُنَاوِئُهُ فَإِنْ تَضَمَّنَتْ شَرِيعَةُ الثَّانِي نَسْخَ شَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْأَوَّلُ وَجَبَ التَّسْلِيمُ لَهُ وَإِلَّا صَدَّقَهُ بِالْأُصُولِ الَّتِي هِيَ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ دِينٍ، وَيُؤَدِّي كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ أُمَّتِهِ أَعْمَالَ عِبَادَتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ اخْتِلَافًا وَتَفَرُّقًا فِي الدِّينِ، فَإِنَّ مِثْلَهُ يَأْتِي فِي الشَّرِيعَةِ الْوَاحِدَةِ كَأَنْ يُؤَدِّي شَخْصَانِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ أَوْ غَيْرِهَا بِغَيْرِ مَا يُكَفِّرُ بِهِ الْآخَرُ هَذَا بِالصِّيَامِ وَذَاكَ بِإِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ اخْتِلَافُ حَالِ الشَّخْصَيْنِ فَأَدَّى كُلٌّ وَاحِدٍ مَا سَهُلَ عَلَيْهِ.
أَقُولُ: وَلَنَا أَنْ نَضْرِبَ لِلْمَسْأَلَةِ مِثْلَ عَامِلَيْنِ يُرْسِلُهُمَا الْمَلِكُ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ إِلَى وِلَايَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ مُتَجَاوِرَتَيْنِ فَلَا شَكَّ أنه يَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا تَصْدِيقُ الْآخَرِ وَنَصْرُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَأَنَّهُ يَجِبُ أن يكونا مُتَّفِقَيْنِ فِي الْأُصُولِ الْعَامَّةِ لِلسَّلْطَنَةِ أَوْ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ بِالْقَانُونِ الْأَسَاسِيِّ، وَمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ. وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَ الْوِلَايَتَيْنِ اخْتِلَافٌ فِي طِبَاعِ الْأَهَالِي وَاسْتِعْدَادِهِمْ وَحَالُ الْبِلَادِ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ كَأَنْ تَكُونَ الضَّرَائِبُ قَلِيلَةً فِي إِحْدَاهُمَا كَثِيرَةً فِي الْأُخْرَى، وَكُلٌّ مِنَ الْعَامِلَيْنِ يُؤْمِنُ لِلْآخَرِ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِعَمَلِهِ، وَكَذَلِكَ يُؤْمِنُ كُلٌّ مِنَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الْآخَرُ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي الْأُصُولِ دُونَ جَمِيعِ الْفُرُوعِ. وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُنْسَخَ مَا جَاءَ بِهِ الْأَوَّلُ عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ آخَرَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ. وَأَمَّا إِذَا بُعِثَ الرَّسُولَانِ فِي أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُمَا يُكُونَانِ مُتَّفِقَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَنْسَ مُوسَى وَهَارُونَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، وَأَمَّا مَجِيءُ النَّبِيِّ بَعْدَ النَّبِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ مُعْظَمَ فُرُوعِ شَرْعِهِ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ لَكَ مَعْنَى تَصْدِيقِ نَبِيِّنَا بِالْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَلِمَنْ جَاءُوا بِهَا مِنَ الرُّسُلِ وَأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي أن يكون شَرْعُهُ التَّفْصِيلِيُّ مُوَافِقًا لِشَرَائِعِهِمْ، وَلَا أَنْ يُقِرَّ أَقْوَامَهُمْ عَلَى مَا دَرَجُوا عَلَيْهِ.
قال تعالى لِمَنْ أَخَذَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمِيثَاقَ: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ أَيْ قَبِلْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الإيمان بِالرَّسُولِ الْمُصَدِّقِ لِمَا مَعَكُمْ وَنَصْرِهِ إِصْرِي أَيْ عَهْدِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَيْ فَلْيَشْهَدْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَأَنَا مَعَكُمْ شَاهِدٌ عَلَيْكُمْ جَمِيعًا لَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِي شَيْءٌ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: فَلْيَشْهَدْ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَ: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [7: 172] وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَبَيِّنُوا هَذَا الْمِيثَاقَ لِلنَّاسِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: فَاعْلَمُوا ذَلِكَ عِلْمًا يَقِينًا، كَالْعِلْمِ بِالْمُشَاهَدِ بِالْبَصَرِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ: إِنَّ هَذَا الأمر بِالشَّهَادَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ إِنَّ الْعَهْدَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ تعالى أَمَرَ الْأَنْبِيَاءَ بِأَنْ يَشْهَدُوا عَلَى أُمَمِهِمْ بِذَلِكَ وَهُوَ سبحانه مَعَهُمْ شَهِيدٌ. وَقَالَ أيضا: إِنَّ الْعِبَارَةَ لَيْسَتْ نَصًّا فِي أَنَّ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةَ وَقَعَتْ وَهَذِهِ الْأَقْوَالَ قِيلَتْ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تَقْرِيرُ الْمَعْنَى وَتَوْكِيدُهُ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ.
أَقُولُ: وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ قَرَّ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ وَلَزِمَ قَرَارُهُ مَكَانَهُ، زِيدَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ، فَقِيلَ أَقَرَّ الشَّيْءَ إِذَا أَثْبَتَهُ، وَأَقَرَّ بِهِ إِذَا نَطَقَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ. وَالْأَخْذُ التَّنَاوُلُ، وَفَسَّرْنَاهُ هُنَا بِالْقَبُولِ وَهُوَ غَايَتُهُ؛ لِأَنَّ آخِذَ الشَّيْءِ يَقْبَلُهُ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ كَذَلِكَ فِي التَّنْزِيلِ قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [2: 48].
ثُمَّ قَالَ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [2: 123] فَقَالَ مَرَّةً أنه لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَمَرَّةً لَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ والْإِصْرُ فِي الْأَصْلِ عَقْدُ الشَّيْءِ وَحَبْسُهُ بِقَهْرِهِ، وَالْمَأْصِرُ مَحْبِسُ السَّفِينَةِ، وَفُسِّرَ الْإِصْرُ فِي {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [7: 157] بِمَا يَحْبِسُهُمْ عَنِ الْخَيْرِ وَيُقْعِدُهُمْ عَنْ عَمَلِ الْبِرِّ. وَعَلَى هَذَا قَالَ الرَّاغِبُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا: إِنَّ الْإِصْرَ هُوَ الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ الَّذِي يُثَبِّطُ نَاقَضَهُ عَنِ الثَّوَابِ وَالْخَيْرَاتِ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَقُولَ: هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي يَحْبِسُ صَاحِبَهُ وَيَمْنَعُهُ مِنَ التَّهَاوُنِ فِيمَا الْتَزَمَهُ وَعَاهَدَ عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الشَّهَادَةِ فِي آية: {شَهِدَ اللهُ} [3: 18] إِلَخْ.
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَيْ إِنَّ مِنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْمِيثَاقِ أَنَّ دِينَ اللهِ وَاحِدٌ وَأَنَّ دُعَاتَهُ مُتَّفِقُونَ مُتَّحِدُونَ فَمَنْ تَوَلَّى- بَعْدَ الْمِيثَاقِ عَلَى ذَلِكَ- عَنْ هَذِهِ الْوَحْدَةِ وَاتَّخَذَ الدِّينَ آلَةً لِلتَّفْرِيقِ وَالْعُدْوَانِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالنَّبِيِّ الْمُتَأَخِّرِ الْمُصَدِّقِ لِمَنْ تَقَدَّمَهُ وَلَمْ يَنْصُرْهُ كَأُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يَجْحَدُونَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَيُؤْذُونَهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَيِ الْخَارِجُونَ مِنْ مِيثَاقِ اللهِ النَّاقِضُونَ لِعَهْدِهِ وَلَيْسُوا مِنْ دِينِهِ الْحَقِّ فِي شَيْءٍ. أَقُولُ: وَهَذَا يُؤَكِّدُ أَنَّ الْمِيثَاقَ مَأْخُوذٌ عَلَى الْأُمَمِ.
وَلَمَّا بَيَّنَ سبحانه أَنَّ دِينَهُ وَاحِدٌ وَأَنَّ رُسُلَهُ مُتَّفِقُونَ فِيهِ قَالَ فِي مُنْكِرِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ يَبْغُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ دَاخِلَةٌ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ وَالْفَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى غير عَاطِفَةٌ لِلْجُمْلَةِ بَعْدَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْعَطْفُ وَعَيَّنَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ. وَالْمَعْنَى: أَيَتَوَلَّوْنَ عَنِ الإيمان بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ فَيَبْغُونَ غَيْرَ دِينِ اللهِ الَّذِي هُوَ الإسلام وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْعُقَلَاءِ قَدْ خَضَعُوا لَهُ تعالى وَانْقَادُوا لِأَمْرِهِ طَائِعِينَ وَكَارِهِينَ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي بَيَانِ إِسْلَامِ الطَّوْعِ وَالْكُرْهِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الإسلام هُنَا مُتَعَلِّقٌ بِالتَّكْوِينِ وَالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ لَا بِالتَّكْلِيفِ، أَيْ أنه تعالى هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ وَهُمُ الْخَاضِعُونَ الْمُنْقَادُونَ لِتَصَرُّفِهِ وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَعْنَى الطَّوْعِ وَالْكُرْهِ وَكَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ مَا يَحِلُّ بِالْعُقَلَاءِ مِنْ تَصَارِيفِ الْأَقْدَارِ، مِنْهُ مَا يَصْحَبُهُ اخْتِيَارُهُمْ عَنْ رِضًا وَاغْتِبَاطٍ فَيَكُونُونَ خَاضِعِينَ لَهُ طَوْعًا، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَيَحِلُّ بِهِمْ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [17: 44].
وَيُقَابِلُ هَذَا: أَنَّ الإسلام مُتَعَلِّقٌ بِالتَّكْلِيفِ وَالدِّينَ فَقَطْ. وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يُفَسِّرُ إِسْلَامَ الْكُرْهِ بِمَا يَكُونُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ الْمُلْجِئَةِ إِلَيْهِ. كَمَا قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [31: 32].
وَقَالَ: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [29: 65] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ إِسْلَامَ الْكُرْهِ مَا يَكُونُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْآيَاتِ كَمَا وَقَعَ لِقَوْمِ مُوسَى، وَقِيلَ مَا يَكُونُ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنَ السَّيْفِ، وَقِيلَ مَا يَكُونُ عِنْدَ الْمَوْتِ إِذْ يُشْرِفُ الْكَافِرُ عَلَى الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّهُ إِسْلَامٌ لَا يَنْفَعُهُ.
وَهُنَاكَ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الإسلام أَعَمُّ مِنْ إِسْلَامِ التَّكْلِيفِ وَإِسْلَامِ التَّكْوِينِ فَهُوَ يَشْمَلُ مَا يَكُونُ بِالْفِطْرَةِ وَمَا يَكُونُ بِالِاخْتِيَارِ. وَفِي هَذَا الْمَذْهَبِ وُجُوهٌ قَالَ الْحَسَنُ: الطَّوْعُ لأهل السَّمَاوَاتِ خَاصَّةً، وَأَمَّا أَهْلُ الْأَرْضِ فَبَعْضُهُمْ بِالطَّوْعِ وَبَعْضُهُمْ بِالْكُرْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ كُلَّ الْخَلْقِ مُنْقَادُونَ لِإِلَهِيَّتِهِ طَوْعًا بِدَلِيلِ قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [31: 25] وَمُنْقَادُونَ لِتَكَالِيفِهِ وَإِيجَادِهِ لِلْآلَامِ كُرْهًا. وَقِيلَ: الْمُسْلِمُونَ الصَّالِحُونَ يَنْقَادُونَ لِلَّهِ طَوْعًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَيَنْقَادُونَ لَهُ كُرْهًا فِيمَا يُخَالِفُ طِبَاعَهُمْ مِنَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَالْمَوْتِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَهُمْ يَنْقَادُونَ لِلَّهِ كُرْهًا عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي التَّكْلِيفِ وَالتَّكْوِينِ. وَهَذِهِ وُجُوهٌ ضَعِيفَةٌ كَمَا تَرَى.