فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويحتمل أن يريد: لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبرارًا إلاَّ بالإنفاق المضاف إلى سائر أعمالكم، قاله ابن عطية.
وقد تقدّم شرح البرّ في قوله: {أتأمرون الناس بالبر} ولكن فعلنا ما قال الناس في خصوصية هذا الموضع.
و: من، في: مما تحبون، للتبعيض، ويدل على ذلك قراءة عبد الله: حتى تنفقوا بعض ما تحبون.
و: ما، موصولة، والعائد محذوف.
والظاهر: أن المحبة هنا هو ميل النفس وتعلقها التعلق التام بالمنفق، فيكون إخراجه على النفس أشق وأصعب من إخراج ما لا تتعلق به النفس ذلك التعلق، ولذلك فسره الحسن، والضحاك: بأنه محبوب المال، كقوله: {ويطعمون الطعام على حبه} لذلك ما روي عن جماعة أنهم لهذه الآية تصدّقوا بأحب شيء إليهم، فتصدّق أبو طلحة ببير حاء، وتصدق زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها، وابن عمر بالسكر واللوز لأنه كان يحبه، وأبو ذر بفحل خير إبله وببرنس على مقرور، وتلا الآية، والربيع بن خيثم بالسكر لحبه له، وأعتق عمر جارية أعجبته، وابنه عبد الله جارية كانت أعجب شيء إليه.
وقيل: معنى مما تحبون، نفائس المال وطيبه لا رديئه وخبيثه.
وقيل: ما يكون محتاجًا إليه.
وقيل: كل شيء ينفقه المسلم من ماله يطلب به وجه الله.
ولفظة: تحبون، تنبو عن هذه الأقوال، والذي يظهر أن الإنفاق هو في الندب، لأن المزكي لا يجب عليه أن يخرج أشرف أمواله ولا أحبها إليه، وأبعد من ذهب إلى أن هذه الآية منسوخة، لأن الترغيب في الندب لوجه الله لا ينافي الزكاة.
قال بعضهم: وتدل هذه الآية على أن الكلام يصير شعرًا بأشياء، منها: قصد المتكلم إلى أن يكون شعرًا، لأن هذه الآية على وزن بيت الرمل، يسمى المجزؤ والمسبع، وهو:
يا خليليّ أربعا واستخبر ال ** منزل الدارس عن حيّ حلال

رسمًا بعسفان

ولا يجوز أن يقال: إن في القرآن شعرًا. اهـ.

.قال الثعالبي:

قال الغَزَّالِيُّ: قال نافعٌ: كانَ ابْنُ عُمَرَ مريضًا، فاشتهى سَمَكَةً طَرِيَّةً، فحملتْ إلَيْه على رغيفٍ، فقام سائلٌ بالبابِ، فأمر بدفعها إلَيْه، ثم قَالَ: سمعْتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «أَيُّمَا امرئ اشتهى شَهْوَةً، فَرَدَّ شَهْوَتَهُ، وآثَرَ على نَفْسِهِ غَفَرَ الله لَهُ». اهـ من الإِحياء. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار:

قال رحمه الله:
{قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ}.
كَمَا خَتَمَ تعالى آيَةَ دَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الإسلام بِقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [3: 64] جَاءَ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ تَوْلِيَتِهِمْ عَنِ الإسلام يَأْمُرُنَا بِالْإِقْرَارِ بِهِ فَقَالَ مُخَاطِبًا لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ آمَنَّا بِاللهِ} أَيْ آمَنْتُ أَنَا وَمَنْ مَعِي بِوُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَكَمَالِهِ {وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} مِنْ كِتَابِهِ بِالتَّفْصِيلِ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرَ قوله تعالى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [2: 136] إِلَخْ وَقَدْ عُدِّيَ الْإِنْزَالُ هُنَاكَ بِإِلَى الدَّالَّةِ عَلَى الْغَايَةِ وَالِانْتِهَاءِ، وَهُنَا بِعلى الَّتِي لِلِاسْتِعْلَاءِ وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ، كَمَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ رَامِيًا بِالتَّعَسُّفِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ التَّعَدِّيَتَيْنِ بِاخْتِلَافِ الْمَأْمُورِ بِالْقَوْلِ فِي الْآيَتَيْنِ إِذْ هُوَ هُنَاكَ الْمُؤْمِنُونُ وَهَاهُنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِإِلَى وَرَدَتْ فِي خِطَابِ النَّبِيِّ، وَالتَّعْدِيَةَ بِعلى وَرَدَتْ فِي خِطَابِ غَيْرِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى. وَقَدَّمَ الإيمان بِاللهِ عَلَى الإيمان بِإِنْزَالِ الْوَحْيِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَالْوَحْيُ فَرْعٌ لَهُ، إِذْ هُوَ وَحْيُهُ تعالى إِلَى رُسُلِهِ.
{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} أَيْ وَآمَنَّا بِمَا أُنْزِلَ عَلَى هَؤُلَاءِ بِالْإِجْمَالِ أَيْ صَدَّقْنَا بِأَنَّ اللهَ تعالى أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ وَحْيًا لِهِدَايَةِ أَقْوَامِهِمْ، وَأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا فِي أَصْلِهِ وَجَوْهَرِهِ وَالْقَصْدِ مِنْهُ أَخْبَرَنَا اللهُ تعالى فِي مِثْلِ قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [87: 14] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ وَقوله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ} [35: 36، 37] إِلَخْ {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [4: 163] إِلَخْ.
وَأَمَّا عَيْنُ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ فِي أَيْدِي الْأُمَمِ شَيْءٌ يُعْتَمَدُ عَلَى نَقْلِهِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى مِنَ التَّوْرَاةِ لِلْأَوَّلِ وَالْإِنْجِيلِ لِلثَّانِي.
{وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} كَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَقُصَّ اللهُ عَلَيْنَا خَبَرَهُمْ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَصَّهُ عَلَيْنَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْصُصْهُ، فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ نَبِيًّا ظَهَرَ فِي الْهِنْدِ أَوِ الصِّينِ قَبْلَ خَتْمِ النُّبُوَّةِ نُؤْمِنُ بِهِ. وَارْجِعْ إِلَى آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي اسْتِبَانَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّعْبِيرِ بِالْإِنْزَالِ وَالتَّعْبِيرِ بِالْإِتْيَانِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَقَدْ قُدِّمَ الإيمان بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا عَلَى الإيمان بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا مَعَ كَوْنِهِ أُنْزِلَ قَبْلَهُ فِي الزَّمَنِ؛ لِأَنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا هُوَ الْأَصْلُ فِي مَعْرِفَةِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ وَالْمُثْبِتُ لَهُ وَلَا طَرِيقَ لِإِثْبَاتِهِ سِوَاهُ؛ لِانْقِطَاعِ سَنَدِ تِلْكَ وَفَقْدِ بَعْضِهَا وَوُقُوعِ الشَّكِّ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا. فَمَا أَثْبَتَهُ كِتَابُنَا مِنْ نُبُوَّةِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نُؤْمِنُ بِهِ إِجْمَالًا فِيمَا أُجْمِلَ وَتَفْصِيلًا فِيمَا فُصِّلَ، وَمَا أَثْبَتَهُ لَهُمْ مِنَ الْكُتُبِ كَذَلِكَ، نُؤْمِنُ بِأَنَّ أُصُولَ مَا جَاءُوا بِهِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الإيمان بِاللهِ وَإِسْلَامُ الْقُلُوبِ لَهُ وَالْإِيمَانُ بِالْآخِرَةِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مَعَ الْإِخْلَاصِ. فَكَمَا أَنَّ الإيمان بِاللهِ أَصِلٌ لِلْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا كَذَلِكَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا أَصْلٌ لِلْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ فَقُدِّمَ عَلَيْهِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كَمَا يُفَرِّقُ أَهْلُ الْكِتَابِ فَيُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ فِي الدِّينِ، فَنَقُولُ: بَعْضُهُمْ عَلَى حَقٍّ وَبَعْضُهُمْ عَلَى بَاطِلٍ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعًا عَلَى الْحَقِّ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْأُصُولِ وَالْمَقَاصِدِ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْوُلَاةِ الصَّادِقِينَ يُرْسِلُهُمُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ مُتَعَاقِبِينَ لِعِمَارَةِ الْوِلَايَةِ وَإِصْلَاحِ أَهْلِهَا، وَمَا يَكُونُ مِنَ التَّغْيِيرِ فِي بَعْضِ قَوَانِينِهِمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَسْبِ حَالِ الْوِلَايَةِ وَأَهْلِهَا، وَالْمَقْصِدُ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعُمْرَانُ وَالْإِصْلَاحُ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مُنْقَادُونَ بِالرِّضَا وَالْإِخْلَاصِ مُنْصَرِفُونَ عَنْ أَهْوَائِنَا وَشَهَوَاتِنَا فِي الدِّينِ لَا نَتَّخِذُهُ جِنْسِيَّةً لِأَجْلِ حُظُوظِ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا نَبْتَغِي بِهِ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ تعالى بِإِصْلَاحِ النُّفُوسِ وَإِخْلَاصِ الْقُلُوبِ وَالْعُرُوجِ بِالْأَرْوَاحِ، إِلَى سَمَاءِ الْكَرَامَةِ وَالْفَلَاحِ.
افْتَتَحَ الْآيَةَ بِذِكْرِ الإيمان وَخَتَمَهَا بِالإسلام الَّذِي هُوَ فِي كَمَالِهِ ثَمَرَتُهُ وَغَايَتُهُ وَهَذَا هُوَ الإسلام الدِّينِيُّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ؛ وَلِذَلِكَ قَفَّى عَلَيْهِ بِقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} لِأن الدين إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الإسلام الَّذِي بَيَّنَّا مَعْنَاهُ آنِفًا فَمَا هُوَ إِلَّا رُسُومٌ وَتَقَالِيدُ يَتَّخِذُهَا الْقَوْمُ رَابِطَةً لِلْجِنْسِيَّةِ، وَآلَةً لِلْعَصَبِيَّةِ وَوَسِيلَةً لِلْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُ الْقُلُوبَ فَسَادًا، وَالْأَرْوَاحَ إِظْلَامًا. فَلَا يَزِيدُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا عُدْوَانًا، وَفِي الْآخِرَةِ إِلَّا خُسْرَانًا وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أَيْ أنه يَكُونُ هُنَالِكَ خَاسِرًا لِلنَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي جِوَارِ الرَّبِّ الرَّحِيمِ، لِأَنَّهُ خَسِرَ نَفْسَهُ إِذْ لَمْ يُزَكِّهَا بِالإسلام لِلَّهِ، وَإِخْلَاصِ السَّرِيرَةِ لَهُ جَلَّ عُلَاهُ.
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [7: 53] فِي الدِّينِ وَيَزْعُمُونَ أنه مَنَاطُ النَّجَاةِ وَوَسِيلَةُ الْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ؛ إِذْ يَهْوَوْنَ أَنْ يَسْعَدُوا بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَإِنْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِسُلُوكِ سُبُلِ الشَّقَاءِ {قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [39: 14- 15] وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ نَبَّهَ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي خُسْرَانِ الْآخِرَةِ هُوَ خُسْرَانُ النَّفْسِ، وَلَا نَبَّهَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، بَلْ لَمْ يَقُلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَيْئًا لِظُهُورِ مَعْنَاهَا.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ هَاهُنَا إِشْكَالًا وَأَجَابَ عَنْهُ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الإيمان هُوَ الإسلام، وَإِذْ لَوْ كَانَ الإيمان غَيْرَ الإسلام لَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ الإيمان مَقْبُولًا لِقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [49: 14] يَقْتَضِي كَوْنَ الإسلام مُغَايِرًا لِلْإِيمَانِ وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ الأولى عَلَى الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ اهـ. كَلَامُهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ مُبْهَمٌ وَقَدْ أَرَادَ بِالْآيَةِ الأولى الْآيَةَ الَّتِي تُفَسِّرُهَا وَبِالثَّانِيَةِ قَالَتِ الْأَعْرَابُ وَالْمَعْنَى أَنَّ أُولَئِكَ الْأَعْرَابَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ لَمْ يُسْلِمُوا الإسلام الشَّرْعِيَّ وَإِنَّمَا انْقَادُوا لأهلهِ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ يَقْتَضِي اتِّحَادَ الإيمان وَالإسلام، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الثَّانِيَةِ مِنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ مَا نَصُّهُ:
(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) الْمُؤْمِنُ وَالْمُسْلِمُ وَاحِدٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَكَيْفَ يُفْهَمُ ذَلِكَ مَعَ هَذَا؟ نَقُولُ: بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فَرْقٌ، فَالْإِيمَأن لا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْقَلْبِ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِاللِّسَانِ، وَالإسلام أَعَمُّ لَكِنَّ الْعَامَّ فِي صُورَةِ الْخَاصِّ مُتَّحِدٌ مَعَ الْخَاصِّ وَلَا يَكُونُ أَمْرًا آخَرَ غَيْرَهُ. مِثَالُهُ: الْحَيَوَانُ أَعَمُّ مِنَ الْإِنْسَانِ لَكِنَّ الْحَيَوَانَ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ لَيْسَ أَمْرًا يَنْفَكُّ عَنِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَجُوزُ أن يكون ذَلِكَ الْحَيَوَانُ حَيَوَانًا وَلَا يَكُونُ إِنْسَانًا فَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ مُخْتَلِفَانِ فِي الْعُمُومِ مُتَّحِدَانِ فِي الْوُجُودِ، فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ وَالْمُسْلِمُ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [51: 35- 36].
وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَاتَيْنِ مَا نَصُّهُ: وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ بِمَعْنَى الْمُؤْمِنِ ظَاهِرَةٌ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُسْلِمَ أَعَمُّ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَإِطْلَاقُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لَا مَانِعَ مِنْهُ. فَإِذَا سُمِّيَ الْمُؤْمِنُ مُسْلِمًا لَا يَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِ مَفْهُومَيْهِمَا فَكَأَنَّهُ تعالى قَالَ: أَخْرَجْنَا الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا الْأَعَمَّ مِنْهُمْ إِلَّا بَيْتًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ لِغَيْرِهِ: مَنْ فِي الْبَيْتِ مِنَ النَّاسِ؟ فَيَقُولُ لَهُ مَا فِي الْبَيْتِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ أَحَدٌ غَيْرُ زَيْدٍ فَيَكُونُ مُخْبِرًا لَهُ بِخُلُوِّ الْبَيْتِ عَنْ كُلِّ إِنْسَانٍ غَيْرِ زَيْدٍ. اهـ.
أَقُولُ: وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ فِي كَلَامِهِ اضْطِرَابًا وَسَبَبُهُ تَزَاحُمُ الِاصْطِلَاحَاتِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْإِطْلَاقَاتِ اللُّغَوِيَّةِ فِي ذِهْنِهِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ مَفْهُومَيِ الإسلام وَالْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ مُتَبَايِنَانِ فَالإسلام: الدُّخُولُ فِي السِّلْمِ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى ضِدِّ الْحَرْبِ وَعَلَى السَّلَامَةِ وَالْخُلُوصِ وَعَلَى الِانْقِيَادِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ، وَالْإِيمَانُ: التَّصْدِيقُ وَيَكُونُ بِالْقَلْبِ كَأَنْ يَقُولَ امْرُؤٌ قَوْلًا فَتَعْتَقِدَ صِدْقَهُ. وَيَكُونُ بِاللِّسَانِ كَأَنَّ نَقُولَ لَهُ صَدَقْتَ، وَقَدْ أُطْلِقَ كُلٌّ مِنَ الإيمان وَالإسلام فِي الْقُرْآنِ عَلَى إِيمَانٍ خَاصٍّ جُعِلَ هُوَ الْمُنْجِي عِنْدَ اللهِ تعالى وَإِسْلَامٍ خَاصٍّ هُوَ دِينُهُ الْمَقْبُولُ عِنْدَهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ التَّصْدِيقُ الْيَقِينِيُّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ وَكَمَالِهِ وَبِالْوَحْيِ وَالرُّسُلِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ السُّلْطَانُ عَلَى الْإِرَادَةِ وَالْوِجْدَانِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ نَفْيِ دُخُولِ الإيمان فِي قُلُوبِ أُولَئِكَ الْأَعْرَابِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [49: 15] وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ الْإِخْلَاصُ لَهُ تعالى فِي التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ وَالِانْقِيَادِ لِمَا هَدَى إِلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ. وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى دِينُ جَمِيعِ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ لِهِدَايَةِ عِبَادِهِ. فَالْإِيمَانُ وَالإسلام عَلَى هَذَا يَتَوَارَدَانِ عَلَى حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ يَتَنَاوَلُهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارٍ؛ وَلِذَلِكَ عُدَّا شَيْئًا وَاحِدًا فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ آنِفًا وَفِي قَوْلِهِ بَعْدَمَا ذَكَرَ عَنِ إِيمَانِ الْأَعْرَابِ وَإِسْلَامِهِمْ فِي (49: 15) ثُمَّ بَيَانِ حَقِيقَةِ الإيمان الصَّادِقِ {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [49: 16- 17] فَهَذَا هُوَ الإيمان الصَّادِقُ وَالإسلام الصَّحِيحُ وَهُمَا الْمَطْلُوبَأن لاجْلِ السَّعَادَةِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنَ الإيمان وَالإسلام عَلَى مَا يَكُونُ مِنْهُمَا ظَاهِرًا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَنْ يَقِينٍ أَوْ عَنْ جَهْلٍ أَوْ نِفَاقٍ. فَمِنَ الْأَوَّلِ الشِّقُّ الْأَوَّلُ مِنْ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [2: 62] الْآيَةَ فَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ آمَنُوا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِهَذَا الدِّينِ فِي الظَّاهِرِ وَقوله: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ} إِلَخْ هُوَ الإيمان الْحَقِيقِيُّ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ النَّجَاةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ آنِفًا. وَمِنَ الثَّانِي قوله: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} أَيْ دَخَلْنَا فِي السِّلْمِ الَّذِي هُوَ مُسَالَمَةُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ كُنَّا حَرْبًا لَهُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْإِخْلَاصَ وَالِانْقِيَادَ مَعَ الْإِذْعَانِ وَإِلَّا لَمَا نَفَى إِيمَانَ الْقَلْبِ. هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
أَمَّا إِطْلَاقُ الإسلام بِمَعْنَى مَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ الْمَعْرُوفُونَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ عَقَائِدَ وَتَقَالِيدَ وَأَعْمَالٍ فَهُوَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ الدِّينُ مَا عَلَيْهِ الْمُتَدَيِّنُونَ فَالْبُوذِيَّةُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ الْمَعْرُوفُونَ بِالْبُوذِيَّةِ، وَالْيَهُودِيَّةُ مَا عَلَيْهِ الشَّعْبُ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْيَهُودِ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ مَا عَلَيْهِ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّا نَصَارَى وَهَكَذَا. وَهَذَا هُوَ الدِّينُ بِمَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ سَمَاوِيٌّ أَوْ وَضْعِيٌّ فَيَطْرَأُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ حَتَّى يَكُونَ بَعِيدًا عَنْ أَصْلِهِ فِي قَوَاعِدِهِ وَمَقَاصِدِهِ، وَتَكُونُ الْعِبْرَةُ بِمَا عَلَيْهِ أَهْلُهُ لَا بِذَلِكَ الْأَصْلِ الْمَجْهُولِ أَوِ الْمَعْلُومِ، وَتَحَوُّلُ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى جِنْسِيَّةٍ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي صَدَّ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ بَيَانِ رُوحِ دِينِ اللهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ شَرَائِعِهِمْ فِي الْفُرُوعِ وَهُوَ الإسلام، فَالإسلام مَعْنًى بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ فَمَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى دِينِ اللهِ الْمَرْضِيِّ، وَمَنْ خَالَفَهُ كَانَ بَاغِيًا لِغَيْرِ دِينِ اللهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ الْآنَ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يَحْدُثُ لأهلهَا مِنَ التَّقَالِيدِ، فَالإسلام الْحَقِيقِيُّ مُبَايِنٌ لِلْإِسْلَامِ الْعُرْفِيِّ؛ لِذَلِكَ جَرَيْنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى إِنْكَارِ جَعْلِ الإسلام جِنْسِيَّةً عُرْفِيَّةً مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ كَوْنِهِ هِدَايَةً إِلَهِيَّةً. نَعَمْ أنه لَوْ أُقِيمَ عَلَى أَصْلِهِ وَاسْتَتْبَعَ مَعَ ذَلِكَ رَابِطَةَ الْجِنْسِيَّةِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الرَّابِطَةُ إِلَّا رَابِطَةَ خَيْرٍ لأهلهَا غَيْرَ ضَارَّةٍ بِغَيْرِهِمْ لِبِنَائِهَا عَلَى قَوَاعِدِ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَلَكِنَّ جَعْلَ الْجِنْسِيَّةِ هُوَ الْأَصْلُ مُفْسِدٌ لِلدِّينِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ.
{كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
رَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ نَدِمَ فَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ أَرْسِلُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتْ: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إِلَى قوله: {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ قَوْمُهُ فَأَسْلَمَ.
وَأَخْرَجَ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّازِقِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ فَأَسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ كَفَرَ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَنْزَلَ اللهُ: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا} إِلَى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ فَقَالَ الْحَارِثُ: أنك وَاللهِ- مَا عَلِمْتُ- لَصَدُوقٌ وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ لَأَصْدَقُ مِنْكَ، وَإِنَّ اللهَ لَأَصْدَقُ الثَّلَاثَةِ، فَرَجَعَ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. اهـ.
وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي: أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى رَأَوْا نَعْتَ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِمْ وَأَقَرُّوا وَشَهِدُوا أنه حَقٌّ، فَلَمَّا بُعِثَ مِنْ غَيْرِهِمْ حَسَدُوا الْعَرَبَ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْكَرُوهُ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِقْرَارِهِمْ حَسَدًا لِلْعَرَبِ حِينَ بُعِثَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمْ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ وَالْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا رَجَعُوا عَنِ الإسلام وَلَحِقُوا بِقُرَيْشٍ، ثُمَّ كَتَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ: هَلْ لَنَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمْ: قَالَ الْأَلُوسِيُّ: وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَلَى هَذَا وَفِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ:
(1) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَهْطٍ كَانُوا آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا وَلَحِقُوا بِمَكَّةَ ثُمَّ أَخَذُوا يَتَرَبَّصُونَ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونَ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ تَابَ فَاسْتَثْنَى التَّائِبَ مِنْهُمْ بِقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}.
(2) وَعَنْهُ أيضا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَهُودِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ، كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ وَكَانُوا يَشْهَدُونَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ فَلَمَّا بُعِثَ وَجَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ كَفَرُوا بَغْيًا وَحَسَدًا.
(3) نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ وَتَقَدَّمَ خَبَرُهُ.
أَقُولُ: إِنَّ الْآيَاتِ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَذَلِكَ أنه لَمَّا بَيَّنَ حَقِيقَةَ الإسلام وَأَنَّهُ دِينُ اللهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالَّذِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ مِنْ أَحَدٍ ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ بِهِ وَجَزَاءَهُمْ وَأحكامهمْ وَقَدْ رَآهَا أَصْحَابُ أُولَئِكَ الرِّوَايَاتِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا صَادِقَةً عَلَى مَنْ قَالُوا إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ فَذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ. وَأَظْهَرُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ وَأَشَدُّهَا الْتِئَامًا مَعَ السِّيَاقِ رِوَايَةُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَقَالَ: إِنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ مَعَهُمْ.