فصل: المسألة العاشرة: في تفاريع التسمية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه؟ ولهذا السبب نقل أن عليًا رضي الله عنه كان مذهبه الجهر ب {بسم الله الرحمن الرحيم} في جميع الصلوات، وأقول إن هذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي لا تزول ألبتة بسبب كلمات المخالفين.
الحجة الرابعة: ما رواه الشافعي بإسناده، أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم، ولم يقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم}، ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار.
يا معاوية، سرقت منا الصلاة، أين بسم الرحمن الرحيم؟ وأين التكبير عند الركوع والسجود؟ ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير، قال الشافعي: إن معاوية كان سلطانًا عظيم القوة شديد الشوكة فلولا أن الجهر بالتسمية كان كالأمر المتقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار وإلا لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية.
الحجة الخامسة: روى البيهقي في السنن الكبير عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر في الصلاة ب {بسم الله الرحمن الرحيم}، ثم إن الشيخ البيهقي روى الجهر عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وأما أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر، ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى، والدليل عليه قوله عليه السلام: اللهم أدر الحق مع علي حيث دار.
الحجة السادسة: إن قوله {بسم الله الرحمن الرحيم} يتعلق بفعل لابد من إضماره، والتقدير بإعانة اسم الله اشرعوا في الطاعات، أو ما يجري مجرى هذا المضمر، ولا شك أن استماع هذه الكلمة ينبه العقل على أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، وينبه العقل على أنه لا يتم شيء من الخيرات والبركات إلا إذا وقع الابتداء فيه بذكر الله، ومن المعلوم أن المقصود من جميع العبادات والطاعات حصول هذه المعاني في العقول، فإذا كان استماع هذه الكلمة يفيد هذه الخيرات الرفيعة والبركات العالية دخل هذا القائل تحت قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [آل عمران: 110] لأن هذا القائل بسبب إظهار هذه الكلمة أمر بما هو أحسن أنواع الأمر بالمعروف، وهو الرجوع إلى الله بالكلية والاستعانة بالله في كل الخيرات، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل أن يقول إنه بدعة.
واحتج المخالف بوجوه وحجج: الحجة الأولى: روى البخاري بإسناده عن أنس أنه قال صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكر وعمر وعثمان، وكانوا يستفتحون القراءة ب {الحمد لله رب العالمين}، وروى مسلم هذا الخبر في صحيحه، وفيه أنهم لا يذكرون {بسم الله الرحمن الرحيم} وفي رواية أخرى ولم أسمع أحدًا منهم قال {بسم الله الرحمن الرحيم} وفي رواية رابعة فلم يجهر أحد منهم ب {بسم الله الرحمن الرحيم}.
الحجة الثانية: ما روى عبد الله بن المغفل أنه قال: سمعني أبي وأنا أقول {بسم الله الرحمن الرحيم} فقال: يا بني إياك والحدث في الإسلام، فقد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكر، وخلف عمر، وعثمان، فابتدؤا القراءة ب {الحمد لله رب العالمين}، فإذا صليت فقل: {الحمد لله رب العالمين}، وأقول: إن أنسًا وابن المغفل خصصا عدم ذكر {بسم الله الرحمن الرحيم} بالخلفاء الثلاثة، ولم يذكرا عليًا، وذلك يدل على إطباق الكل على أن عليًا كان يجهر ب {بسم الله الرحمن الرحيم}.
الحجة الثالثة: قوله تعالى: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] و{بسم الله الرحمن الرحيم} ذكر الله، فوجب إخفاؤه، وهذه الحجة استنبطها الفقهاء واعتمادهم على الكلامين الأولين.
والجواب عن خبر أنس من وجوه: الأول: قال الشيخ أبو حامد الإسفرايني: روى عن أنس في هذا الباب ست روايات، أما الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات: إحداها: قوله صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون الصلاة ب {الحمد لله رب العالمين}.
وثانيتها قوله: أنهم ما كانوا يذكرون {بسم الله الرحمن الرحيم}.
وثالثتها قوله: لم أسمع أحدًا منهم قال {بسم الله الرحمن الرحيم}، فهذه الروايات الثلاث تقوي قول الحنفية، وثلاث أخرى تناقض قولهم: إحداها: ما ذكرنا أن أنسًا روى أن معاوية لما ترك {بسم الله الرحمن الرحيم} في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار، وقد بينا أن هذا يدل على أن الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم.
وثانيتها: روى أبو قلابة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ب {بسم الله الرحمن الرحيم}.
وثالثتها: أنه سئل عن الجهر ب {بسم الله الرحمن الرحيم} والإسرار به فقال: لا أدري هذه المسألة فثبت أن الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب، فبقيت متعارضة فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل، وأيضًا ففيها تهمة أخرى، وهي أن عليًا عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلما وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر، سعيًا في إبطال آثار علي عليه السلام، فلعل أنسًا خاف منهم فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه، ونحن وإن شككنا في شيء فإنا لا نشك أنه مهما وقع التعارض بين قول أنس وابن المغفل وبين قول علي بن أبي طالب عليه السلام الذي بقي عليه طول عمره فإن الأخذ بقول علي أولى، فهذا جواب قاطع في المسألة.
ثم نقول: هب أنه حصل التعارض بين دلائلكم ودلائلنا، إلا أن الترجيح معنا، وبيانه من وجوه: الأول: أن راوي أخباركم أنس وابن المغفل، وراوي قولنا علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة، وهؤلاء كانوا أكثر علمًا وقربًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنس وابن المغفل.
والثاني: أن مذهب أبي حنيفة أن خبر الواحد إذا ورد على خلاف القياس لم يقبل، ولهذا السبب فإنه لم يقبل خبر المصراة مع أنه لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأن القياس يخالفه إذا ثبت هذا فنقول قد بينا أن صريح العقل ناطق بإن إظهار هذه الكلمة أولى من إخفائها، فلأي سبب رجح قول أنس وقول ابن المغفل على هذا البيان الجلي البديهي؟ والثالث: أن من المعلوم بالضرورة أن النبي عليه السلام كان يقدم الأكابر على الأصاغر، والعلماء على غير العلماء، والأشراف على الأعراب، ولا شك أن عليًا وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالًا في العلم والشرف وعلو الدرجة من أنس وابن المغفل، والغالب على الظن أن عليًا وابن عباس وابن عمر كانوا يقفون بالقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أنس وابن المغفل يقفان بالعبد منه، وأيضًا أنه عليه السلام ما كان يبالغ في الجهر امتثالًا لقوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] وأيضًا فالإنسان أول ما يشرع في القراءة إنما يشرع فيها بصوت ضعيف ثم لا يزال يقوى صوته ساعة فساعة، فهذه أسباب ظاهرة في أن يكون علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة سمعوا الجهر بالتسمية من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن أنسًا وابن المغفل ما سمعاه.
الرابع: قال الشافعي: لعل المراد من قول أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة ب {الحمد لله رب العالمين} أنه كان يقدم هذه السورة في القراءة على غيرها من السور فقوله {الحمد لله رب العالمين} المراد منه تمام هذه فجعل هذه اللفظة اسمًا لهذه السورة.
الخامس: لعل المراد، من عدم الجهر في حديث ابن المغفل عدم المبالغة في رفع الصوت، كما قال تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110].
السادس: الجهر كيفية ثبوتية، والإخفاء كيفية عدمية، والرواية المثبتة أولى من النافية.
السابع: أن الدلائل العقلية موافقة لنا، وعمل علي بن أبي طالب عليه السلام معنا، ومن اتخذ عليًا إمامًا لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه.
وأما التمسك بقوله تعالى: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] فالجواب أنا نحمل ذلك على مجرد الذكر، أما قوله {بسم الله الرحمن الرحيم} فالمراد منه قراءة كلام الله تعالى على سبيل العبادة والخضوع، فكان الجهر به أولى.

.المسألة العاشرة: في تفاريع التسمية:

وفيه فروع:
فروع أحكام التسمية:
الفرع الأول: قالت الشيعة: السنّة هي الجهر بالتسمية، سواء كانت في الصلاة الجهرية أو السرية، وجمهور الفقهاء يخالفونهم فيه.
الفرع الثاني: الذين قالوا التسمية ليست آية من أوائل السور اختلفوا في سبب إثباتها في المصحف في أول كل سورة وفيه قولان: الأول: أن التسمية ليست من القرآن، وهؤلاء فريقان: منهم من قال إنها كتبت للفصل بين السور، وهذا الفصل قد صار الآن معلومًا فلا حاجة إلى إثبات التسمية، فعلى هذا لو لم تكتب لجاز، ومنهم من قال: إنه يجب إثباتها في المصاحف، ولا يجوز تركها أبدًا.
والقول الثاني: أنها من القرآن، وقد أنزلها الله تعالى، ولكنها آية مستقلة بنفسها، وليست آية من السورة، وهؤلاء أيضًا فريقان: منهم من قال: إن الله تعالى كان ينزلها في أول كل سورة على حدة ومنهم من قال: لا، بل أنزلها مرة واحدة، وأمر بإثباتها في أول كل سورة، والذي يدل على أن الله تعالى أنزلها، وعلى أنها من القرآن ما روي عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعد {بسم الله الرحمن الرحيم} آية فاصلة، وعن إبراهيم بن يزيد قال: قلت لعمرو بن دينار: أن الفضل الرقاشي يزعم أن {بسم الله الرحمن الرحيم} ليس من القرآن، فقال: سبحان الله ما أجرأ هذا الرجلا سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت ابن عباس يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه {بسم الله الرحمن الرحيم} علم أن تلك السورة قد ختمت وفتح غيرها، وعن عبد الله بن المبارك أنه قال: من ترك {بسم الله الرحمن الرحيم} فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية، وروي مثله عن ابن عمر، وأبي هريرة.
الفرع الثالث: القائلون بأن التسمية آية من الفاتحة وأن الفاتحة يجب قراءتها في الصلاة لا شك أنهم يوجبون قراءة التسمية أما الذين لا يقولون به فقد اختلفوا، فقال أبو حنيفة وأتباعه والحسن بن صالح بن جنّي وسفيان الثوري وابن أبي ليلى: يقرأ التسمية سرًا، وقال مالك: لا ينبغي أن يقرأها في المكتوبة لا سرًا ولا جهرًا، وأما في النافلة فإن شاء قرأها وإن شاء ترك.
الفرع الرابع: مذهب الشافعي يقتضي وجوب قراءتها في كل الركعات، أما أبو حنيفة فعنه روايتان روى يعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يقرأها في كل ركعة قبل الفاتحة، وروى أبو يوسف ومحمد والحسن بن زياد ثلاثتهم جميعًا عن أبي حنيفة، أنه قال: إذا قرأها في أول ركعة عند ابتداء القراءة لم يكن عليه أن يقرأها في تلك الصلاة حتى يفرغ منها، قال: وإن قرأها مع كل سورة فحسن.
الفرع الخامس: ظاهر قول أبي حنيفة أنه لما قرأ التسمية في أول الفاتحة فإنه لا يعيدها في أوائل سائر السور، وعند الشافعي أن الأفضل إعادتها في أول كل سورة، لقوله عليه السلام كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر.
الفرع السادس: اختلفوا في أنه هل يجوز للحائض والجنب قراءة {بسم الله الرحمن الرحيم}؟ والصحيح عندنا أنه لا يجوز.
الفرع السابع: أجمع العلماء على أن تسمية الله على الوضوء مندوبة، وعامة العلماء على أنها غير واجبة لقوله صلى الله عليه وسلم: «توضأ كما أمرك الله به»، والتسمية غير مذكورة في آية الوضوء، وقال أهل الظاهر إنها واجبة فلو تركها عمدًا أو سهوًا لم تصح صلاته، وقال إسحاق إن تركها عامدًا لم يجز، وإن تركها ساهيًا جاز.
الفرع الثامن: متروك التسمية عند التذكية هل يحل أكله أم لا؟ المسألة في غاية الشهرة قال الله تعالى: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] وقال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} [الأنعام: 121].
الفرع التاسع: أجمع العلماء على أنه يستحب أن لا يشرع في عمل من الأعمال وإلا ويقول بسم الله فإذا نام قال: بسم الله وإذا قام من مقامه قال: بسم الله وإذا قصد العبادة قال: بسم الله وإذا دخل الدار قال: بسم الله أو خرج منها قال: بسم الله وإذا أكل أو شرب أو أخذ أو أعطى قال: بسم الله ويستحب للقابلة إذا أخذت الولد من الأم أن تقول: بسم الله وهذا أول أحواله من الدنيا وإذا مات وأدخل القبر قيل: بسم الله وهذا آخر أحواله من الدنيا وإذا قام من القبر قال أيضًا: بسم الله وإذا حضر الموقف قال: بسم الله فتتباعد عنه النار ببركة قوله: بسم الله.

.المسألة الحادية عشرة: ترجمة القرآن:

قال الشافعي: ترجمة القرآن لا تكفي في صحة الصلاة لا في حق من يحسن القراءة ولا في حق من لا يحسنها، وقال أبو حنيفة: أنها كافية في حق القادر والعاجز وقال أبو يوسف ومحمد: أنها كافية في حق العاجز وغير كافية في حق القادر، واعلم أن مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة بعيد جدًا ولهذا السبب فإن الفقيه أبا الليث السمرقندي والقاضي أبا زيد الدبوسي صرحا بتركه.