فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وقوله: {فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون} نهاية لتسجيل كذبهم أي من استمرّ على الكذب على الله، أي فمن افترى منكم بعد أن جعلنا التَّوراة فيصلًا بيننا، إذ لم يبق لهم ما يستطيعون أن يدّعُوه شُبهة لهم في الاختلاق، وجُعل الافتراء على الله لتعلّقه بدين الله.
والفاء للتفريع على الأمر.
والافتراء: الكذب، وهو مرادف الاختلاق.
والافتراء مأخوذ من الفَرْي، وهو قطع الجلد قِطعًا ليُصلح به مثل أن يحْذى النعل ويصنع النطع أو القِربة.
وافترى افتعال من فرى لعلّهُ لإفادة المبالغة في الفَرْي، يقال: افترى الجلد كأنَّه اشتدّ في تقطيعه أو قطعَه تقطيع إفساد، وهو أكثر إطلاق افترى.
فأطلقوا على الأخبار عن شيء بأنه وقَعَ ولَم يقع اسم الافتراء بمعنى الكذب، كأنّ أصله كناية عن الكذب وتلميح، وشاع ذلك حتَّى صار مرادفًا للكذب، ونظيره إطلاق اسم الاختلاق على الكذب، فالافتراء مرادف للكذب، وإردَافه بقوله هنا: {الكذب} تأكيد للافتراء، وتكرّرت نظائر هذا الإرداف في آيات كثيرة.
فانتصب {الكذب} على المفعول المطلق الموكِّد لفعله.
واللام في الكذب لتعريف الجنس فهو كقوله: {أفْتَرَى على الله كَذِبًا أمْ به جِنّة} [سبأ: 8].
والكذب: الخبر المخالف لما هو حاصل في نفس الأمر من غير نظر إلى كون الخَبر موافقًا لاعتقاد المُخبر أو هو على خلاف ما يعتقده، ولكنّه إذا اجتمع في الخبر المخالفة للواقع والمخالفة لاعتقاد المخبِر كان ذلك مذمومًا ومسبَّة؛ وإن كان معتقدًا وقوعه لشبهة أو سوء تأمّل فهو مذموم ولكنّه لا يُحقَّر المخبر به، والأكثر في كلام العرب أن يعنى بالكذب ما هو مذموم.
ثُمّ أعلنَ أن المتعيّن في جانبه الصّدق هو خبَر الله تعالى للجزم بأنهم لا يأتون بالتوراة، وهذا كقوله: {ولن يتمنّوه أبدًا} [البقرة: 95]. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك} تحتمل الإشارة- بذلك- أن تكون إلى ثلاثة أشياء: أحدها: أن تكون إلى التلاوة إذ مضمنها بيان المذهب وقيام الحجة، أي فمن كذب منا على الله تعالى أو نسب إلى كتب الله ما ليس فيها فهو ظالم واضع الشيء غير موضعه، والآخر: أن تكون الإشارة إلىستقرار التحريم في التوراة، لأن معنى الآية: {كل الطعام كان حلًا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} [آل عمران: 93]، ثم حرمته التوراة عليهم عقوبة لهم، {فمن افترى على الله الكذب}، وزاد في المحرمات فهو الظالم، والثالث: أن تكون الإشارة إلى الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه، وقبل نزول التوراة، أي من تسنن بيعقوب وشرع ذلك دون إذن من الله، ومن حرم شيئًا ونسبه إلى ملة إبراهيم فهو الظالم، ويؤيد هذا الاحتمال الأخير، قوله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} [النساء: 160] فنص على أنه كان لهم ظلم في معنى التحليل والتحريم، وكانوا يشددون فشدد الله عليهم، كما فعلوا في أمر البقرة، وبخلاف هذه السيرة جاء الإسلام في قوله صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا»، وقوله: «دين الله يسر». وقوله: «بعثت بالحنيفية». اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
مَنْ يجوز أن تكون شرطيَّةً، أو موصولة، وحمل على لفظها في قوله: {افْتَرَى} فوحَّد الضمير، وعلى معناها فجمع في قوله: {فأولئك هُمُ الظالمون}، والافتراء مأخوذ من الفَرْي، وهو القطع، والظالم هو الذي يضع الشيء في غير مَوْضِعِه.
وقوله: {مِن بَعْدِ ذَلِكَ} أي: من بعد ظهور الحجة، {فأولئك هُمُ الظالمون} المستحقون لعذاب الله.
قوله: {مِنْ بَعْدِ} فيه وجهان:
أحدهما:- وهو الظاهر-: أن يتعلق بـ {افْتَرَى}.
الثاني: قال أبو البقاء: يجوز أن يتعلق بالكذب، يعني: الكذب الواقع من بعد ذلك.
وفي المشار إليه ثلاثة أوجه:
أحدها: استقرار التحريم المذكور في التوراةِ عليهم؛ إذ المعنى: إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، ثم حرم في التوراة؛ عقوبةً لهم.
الثاني: التلاوة، وجاز تذكير اسم الإشارة؛ لأن المراد بها بيان مذهبهم.
الثالث: الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه، وهذه الجملة- أعني: قوله: {فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب}- يجوز أن تكون استئنافيةً، فلا محل لها من الإعراب، ويجوز أن تكون منصوبة المحل؛ نسقًا على قوله: {فَأْتُواْ بالتوراة}، فتندرج في المقول. اهـ.

.تفسير الآية رقم (95):

قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ الله فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما اتضح كذبهم وافتضح تدليسهم- لأنه لما استدل عليهم بكتابهم فلم يأتوا به صار ظاهرًا كالشمس، لا شك فيه ولا لبس، ولم يزدهم ذلك إلا تماديًا في الكذب- أمر سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {قل} أي لأهل الكتاب الذي أنكروا النسخ فأقمت عليهم الحجة من كتابهم {صدق الله} أي الملك الأعظم الذي له الكمال كله في جميع ما أخبر، وتخبر به عن ملة إبراهيم وغيره من بنيه أسلافكم، وتبين أنه ليس على دينكم هو ولا أحد ممن قبل موسى عليه الصلاة والسلام، لأنكم لو كنتم صادقين لأتيتم بالتوراة، نافيًا بذلك أن يكون تأخرهم عن الإتيان بها لعلة يعتلون بها غير ذلك، وإذ قد تبين صدقه تعالى في جميع ما قال وجب اتباعه في كل ما يأمر به، وأعظمه ملة إبراهيم فإنها الجامعة للمحاسن.
ولما ثبت ذلك بهذا الدليل المحكم لزم قطعًا أنه ما كان يهوديًا ولا نصرانيًا ولا مشركًا، وقد أقروا بأن ملته هي الحق وأنهم أتباعه، فتسبب عن ذلك وجوب اتباعه فيما أخبر الله سبحانه وتعالى به فبان كالشمس صدقه، لا فيما افتروه هم من الكذب، فقال سبحانه وتعالى: {فاتبعوا ملة إبراهيم} وهي الإسلام أي الانقياد للدليل، وهو معنى قوله: {حنيفًا} أي تابعًا للحجة إذا تحررت، غير متقيد بمألوف.
ولما كان صلى الله عليه وسلم مفطورًا.
على الإسلام فلم يكن في جبلته شيء من العوج فلم يكن له دين غير الإسلام نفى الكون فقال: {وما كان من المشركين} أي بعزير ولا غيره من الأكابر كالأحبار الذين تقلدونهم مع علمكم بأنهم يدعون إلى ضد ما دعا إليه سبحانه وتعالى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{قُلْ صَدَقَ الله} يحتمل وجوهًا:
أحدها: {قُلْ صَدَقَ} في أن ذلك النوع من الطعام صار حرامًا على إسرائيل وأولاده بعد أن كان حلالًا لهم، فصح القول بالنسخ، وبطلت شبهة اليهود.
وثانيها: {صَدَقَ الله} في قوله إن لحوم الإبل وألبأنها كانت محللة لإبراهيم عليه السلام وإنما حرمت على بني إسرائيل لأن إسرائيل حرمها على نفسه، فثبت أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لما أفتى بحل لحوم الإبل وألبأنها، فقد أفتى بملة إبراهيم.
وثالثها: {صَدَقَ الله} في أن سائر الأطعمة كانت محللة لبني إسرائيل وأنها إنما حرمت على اليهود جزاءً على قبائح أفعالهم.
ثم قال تعالى: {فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا} أي اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صلوات الله عليه من ملة إبراهيم، وسواء قال: ملة إبراهيم حنيفًا، أو قال: ملة إبراهيم الحنيف لأن الحال والصفة سواء في المعنى.
ثم قال: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} أي لم يدع مع الله إلها آخر، ولا عبد سواه، كما فعله بعضهم من عبادة الشمس والقمر، أو كما فعله العرب من عبادة الأوثان، أو كما فعله اليهود من ادعاء أن عزير ابن الله، وكما فعله النصارى من ادعاء أن المسيح ابن الله، والغرض منه بيان أن محمدًا صلوات الله عليه على دين إبراهيم عليه السلام، في الفروع والأصول.
أما في الفروع، فلما ثبت أن الحكم بحله كان إبراهيم قد حكم بحله أيضا، وأما في الأصول فلأن محمدًا صلوات الله وسلامه عليه لا يدعو إلا إلى التوحيد، والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى وما كان إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه إلا على هذا الدين. اهـ.

.قال الألوسي:

{قُلْ صَدَقَ الله} أي ظهر وثبت صدقه في أن كل الطعام كان حلًا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه وقيل: في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم على دين إبراهيم عليه السلام وأن دينه الإسلام، وقيل: في كل ما أخبر به ويدخل ما ذكر دخولًا أوليًا وفيه كما قيل: تعريض بكذبهم الصريح {فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم} وهي دين الإسلام فإنكم غير متبعين ملته كما تزعمون، وقيل: اتبعوا مثل ملته حتى تخلصوا عن اليهودية التي اضطرتكم إلى الكذب على الله والتشديد على أنفسكم، وقيل: اتبعوا ملته في استباحة أكل لحوم الإبل وشرب ألبأنها مما كان حلًا له {حَنِيفًا} أي مائلًا عن سائر الأديان الباطلة إلى دين الحق، أو مستقيمًا على ما شرعه الله تعالى من الدين الحق في حجه ونسكه ومأكله وغير ذلك {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} أي في أمر من أمور دينهم أصلًا وفرعًا وفيه تعريض بشرك أولئك المخاطبين، والجملة تذييل لما قبلها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قل صدق الله} وهو تعريض بكذبهم لأنّ صدق أحد الخبرين المتنافيين يستلزم كذب الآخر، فهو مستعمل في معناه الأصلي والكنائي.
والتَّفريع في قوله: {فاتبعوا ملة إبراهيم جنيفًا} تفريع على {صدق الله} لأنّ اتّباع الصادق فيما أمر به مَنجاة من الخطر. اهـ.

.قال الطبري:

وإنما قال جل ثناؤه: {وما كان من المشركين}، يعني به: وما كان من عَدَدهم وأوليائهم. وذلك أن المشركين بعضهم من بعض في التظاهر على كفرهم. ونصرةِ بعضهم بعضًا. فبرأ الله إبراهيم خليله أن يكون منهم أو من نصرائهم وأهل ولايتهم. وإنما عنى جل ثناؤه بالمشركين، اليهودَ والنصارَى وسائر الأديان، غير الحنيفية. قال: لم يكن إبراهيم من أهل هذه الأديان المشركة، ولكنه كان حنيفًا مسلمًا. اهـ.

.قال ابن عادل:

العامة على إظهار لام {قُلْ} مع الصاد.
وقرأ ابنُ بن تغلب بإدغامها فيها، وكذلك أدغم اللام في السين في قوله: {قُلْ سِيرُواْ} [الأنعام: 11] وسيأتي أن حمزةَ والكسائيِّ وهشامًا أدْغموا اللام في السين في قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ} [يوسف: 18].
قال أبو الفتح: عِلَّةُ ذلك فُشُوُّ هذين الحرفَيْن في الضم، وانتشار الصوت المُنْبَثّ عنهما، فقاربتا بذلك مخرج اللام، فجاز إدغامها فيهما، وهو مأخوذ من كلام سيبويه، فإن سيبويه قال: والإدغام، يعني: إدغام اللام مع الصاد والطاء وأخواتهما، جائز، وليس ككثرته مع الراء؛ لأن هذه الحروفَ تراخين عنها، وهن من الثنايا؛ قال: وجواز الإدغام أنّ آخر مخرج اللام قريب من مخرجها. انتهى.
قال أبو البقاء عبارة تُوَضِّحُ ما تقدم، وهي: لأن الصاد فيها انبساط، وفي اللام انبساط، بحيث يتلاقى طرفاهما، فصارا متقاربين. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد صاحب المنار:

قال رحمه الله:
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسرائيل إِلَّا مَا حَرَّمَ إسرائيل عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ}.
كَانَ الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَعَ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ، وَاسْتَتْبَعَ ذَلِكَ مُحَاجَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ، وَفِي بَعْضِ بِدَعِهِمْ وَمَا اسْتَحْدَثُوا فِي دِينِهِمْ. أَمَّا هَذِهِ الْآيَاتُ فَفِي دَفْعِ شُبْهَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ شُبُهَاتِ الْيَهُودِ عَلَى الإسلام. قَرَّرَهُمَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَكَذَا:
قَالُوا: إِذَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ- كَمَا تَدَّعِي- فَكَيْفَ تَسْتَحِلُّ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ كَلَحْمِ الْإِبِلِ؟ أَمَا وَقَدِ اسْتَبَحْتَ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ فَلَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَدَّعِيَ أنك مُصَدِّقٌ لَهُمْ وَمُوَافِقٌ فِي الدِّينِ، وَلَا أَنْ تَخُصَّ إِبْرَاهِيمَ بِالذِّكْرِ وَتَقُولَ: أنك أَوْلَى النَّاسِ بِهِ. هَذِهِ هِيَ الشُّبْهَةُ الأولى. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللهَ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ تَكُونَ الْبَرَكَةُ فِي نَسْلِ وَلَدِهِ إِسْحَاقَ، وَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْحَاقَ كَانُوا يُعَظِّمُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَيُصَلُّونَ إِلَيْهِ، فَلَوْ كُنْتَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ لَعَظَّمْتَ مَا عَظَّمُوا، وَلَمَا تَحَوَّلْتَ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَعَظَّمْتَ مَكَانًا آخَرَ اتَّخَذْتَهُ مُصَلًّى وَقِبْلَةً- وَهُوَ الْكَعْبَةُ- فَخَالَفْتَ الْجَمِيعَ.
فَقوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسرائيل إِلَّا مَا حَرَّمَ إسرائيل عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} هُوَ جَوَابٌ عَنِ الشُّبْهَةِ الأولى، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَكِنَّ الْجَلَالَ وَكَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يُقَرِّرُونَ الشُّبْهَةَ وَلَا يُبَيِّنُونَ وَجْهَ دَفْعِهَا بَيَانًا مُقْنِعًا، إِذْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى إسرائيل، وَالصَّوَابُ مَا قَصَّهُ اللهُ تعالى عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُوَضِّحُهَا، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ الطَّعَامِ كَانَ حَلَالًا لِبَنِي إسرائيل وَلِإِبْرَاهِيمَ مِنْ قَبْلُ بِالْأَوْلَى، ثُمَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ فِي التَّوْرَاةِ عُقُوبَةً لَهُمْ وَتَأْدِيبًا، كَمَا قَالَ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [4: 160] الْآيَةَ. فَالْمُرَادُ بِإسرائيل شَعْبُ إسرائيل، كَمَا هُوَ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَهُمْ، لَا يَعْقُوبُ نَفْسُهُ. وَمَعْنَى تَحْرِيمِ الشَّعْبِ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ: أنه ارْتَكَبَ الظُّلْمَ وَاجْتَرَحَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ التَّحْرِيمِ، كَمَا صَرَّحَتِ الْآيَةُ. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي الْأَطْعِمَةِ الْحِلَّ، وَكَانَ تَحْرِيمُ مَا حَرُمَ عَلَى إسرائيل تَأْدِيبًا عَلَى جَرَائِمَ أَصَابُوهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ وَأُمَّتُهُ لَمْ يَجْتَرِحُوا تِلْكَ السَّيِّئَاتِ، فَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِمُ الطَّيِّبَاتُ؟ ثُمَّ قَالَ مُبَيِّنًا تَقْرِيرَ الدَّفْعِ وَسَنَدَهُ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ؛ لَا تَخَافُونَ أَنْ تُكَذِّبَكُمْ نُصُوصُهَا.