فصل: من فوائد الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أَقُولُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ جِئْتُمْ بِمَا عِنْدَكُمْ مِنْهَا لَمَا كَانَ إِلَّا مُؤَيِّدًا لِلْقُرْآنِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ أَنَّهَا هِيَ حَرَّمَتْ عَلَيْكُمْ مَا حَرَّمْتُ. وَعُلِّلَتْ جُمْلَةُ التَّكَالِيفِ بِأَنَّكُمْ شَعْبٌ غَلِيظُ الرَّقَبَةِ مُتَمَرِّدٌ يُقَاوِمُ الرَّبَّ، كَمَا قَالَ مُوسَى عِنْدَ أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْكُمْ بِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ (اقْرَأِ الْفَصْلَ 31 مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ) وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فُصُولِ التَّوْرَاةِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَّا قَوْلُ الْجَلَالِ وَغَيْرِهِ: إِنَّ يَعْقُوبَ كَانَ بِهِ عِرْقُ النَّسَا- بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ- فَنَذَرَ إِنْ شُفِيَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ الْإِبِلِ، فَهُوَ دَسِيسَةٌ مِنَ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: أنه نَذَرَ أَلَّا يَأْكُلَ هَذَا الْعِرْقَ. وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ يَعْقُوبَ الْتَقَى فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بِالرَّبِّ فِي الطَّرِيقِ فَتَصَارَعَا إِلَى الصَّبَاحِ، وَكَادَ يَعْقُوبُ يَغْلِبُهُ، وَلَكِنِ اعْتَرَاهُ عِرْقُ النَّسَا. إِلَخْ مَا حَرَّفُوهُ. أَقُولُ: وَتَتِمَّةُ الْعِبَارَةِ- كَمَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ- (32: 25) وَلَمَّا رأى أنه لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ضَرَبَ حُقَّ فَخِذِهِ فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخِذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ [26] وَقَالَ أَطْلِقْنِي لِأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ. فَقَالَ لَا أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي [27] فَقَالَ لَهُ مَا اسْمُكَ. فَقَالَ: يَعْقُوبُ [28] فَقَالَ لَا يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ إسرائيل. لِأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْتَ [29] وَسَأَلَ يَعْقُوبُ وَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِاسْمِكَ. فَقَالَ: لِمَاذَا تَسْأَلُ عَنِ اسْمِي؟ وَبَارَكَهُ هُنَاكَ [30] فَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ فنيئيلَ. قَائِلًا لِأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهًا لِوَجْهٍ وَنَجَّيْتُ نَفْسِي [31] وَأَشْرَقَتْ لَهُ الشَّمْسُ إِذْ عَبَرَ فُنُوئِيلَ وَهُوَ يَخْمَعُ عَلَى فَخِذِهِ [32] لِذَلِكَ لَا يَأْكُلُ بَنُو إسرائيل عِرْقَ النَّسَا الَّذِي عَلَى حُقِّ الْفَخِذِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ لِأَنَّهُ ضُرِبَ حُقُّ فَخِذِ يَعْقُوبَ عَلَى عِرْقِ النَّسَا. اهـ.
وَلَيْسَ فِيهِ أنه نَذَرَ شَيْئًا وَلَا حَرَّمَ شَيْئًا. وَقِيلَ: إِنَّ مَا حَرَّمَهُ يَعْقُوبُ هُوَ زَائِدَتَا الْكَبِدِ وَالْكُلْيَتَيْنِ وَالشَّحْمِ إِلَّا مَا كَانَ عَلَى الظَّهْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَرَّمَ لُحُومَ الْأَنْعَامِ كُلَّهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْإسرائيليَّاتِ، وَصِحَّةُ السَّنَدِ فِي بَعْضِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ غَيْرِهِ- كَمَا زَعَمَ الْحَاكِمُ- لَا يَمْنَعُ أن يكون مَصْدَرُهَا إسرائيليًّا. وَالْأَقْرَبُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَلاسيما عِنْدَ الْمُطَّلِعِ عَلَى التَّوْرَاةِ، وَلَوْ أُرِيدَ بِإسرائيل يَعْقُوبُ نَفْسُهُ لَمَا كَانَ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلَى قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} لِأَنَّ زَمَنَ يَعْقُوبَ سَابِقٌ عَلَى زَمَنِ نُزُولِ التَّوْرَاةِ سَبْقًا لَا يُشْتَبَهُ فِيهِ فَيُحْتَرَسُ عَنْهُ.
وَالْمُتَبَادِرُ عِنْدِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا حَرَّمَهُ إسرائيل عَلَى نَفْسِهِ مَا امْتَنَعُوا عَنْ أَكْلِهِ وَحَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِحُكْمِ الْعَادَةِ وَالتَّقْلِيدِ لَا بِحُكْمٍ مِنَ اللهِ، كَمَا يُعْهَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَمِنْهُ تَحْرِيمُ الْعَرَبِ لِلْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا حَكَاهُ الْقُرْآنُ عَنْهُمْ فِي سُورَتَيِ الْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ. وَقِيلَ: إِنَّ شُبْهَتَهُمُ الَّتِي دَفَعَتْهَا الْآيَةُ هِيَ إِنْكَارُ النَّسْخِ، فَأَلْزَمَهُمْ بِأَنَّ التَّوْرَاةَ نَفْسَهَا نَسَخَتْ بَعْضَ مَا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَإسرائيل، وَهُوَ إِلْزَامٌ لَا يُمْكِنُهُمُ التَّفَصِّي مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ عَلَى كُلِّ حَالٍ، إِذْ أَخْبَرَهُمْ بِمَا عِنْدَهُمْ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا يَسْقُطُ بَحْثُهُمْ فِي كَوْنِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مِنَ اللهِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: أَنَّ الطَّعَامَ مَا يُطْعَمُ، أَيْ يُتَنَاوَلُ لِأَجْلِ الْغِذَاءِ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ. وَقَدْ يُقَالُ أيضا: طَعِمَ الْمَاءَ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- وَكَانَ يُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى الْخُبْزِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَكَلَ الطَّعَامَ مَأْدُومًا، وَعَلَى الْبُرِّ. وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ إِلَخْ.- مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى غَيْرِهِ حَتْمًا قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [5: 96] وَعَلَى الذَّبَائِحِ أَوْ لِعُمُومِ قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [5: 5] الْآيَةَ. وَالْحِلُّ بِالْكَسْرِ: مَصْدَرُ حَلَّ الشَّيْءُ ضِدَّ حَرُمَ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ حَلِّ الْعُقْدَةِ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ. وَإسرائيل: لَقَبُ نَبِيِّ اللهِ يَعْقُوبَ عليه السلام، وَمَعْنَاهُ الْأَمِيرُ الْمُجَاهِدُ مَعَ اللهِ وَقَدْ عَلِمْتَ مَا عِنْدَهُمْ فِي سَبَبِ إِطْلَاقِهِ عَلَيْهِ مِنْ عِبَارَةِ سِفْرِ التَّكْوِينِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى جَمِيعِ ذُرِّيَّتِهِ كَمَا هُوَ شَائِعٌ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ مِنَ الْأَسْفَارِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى مُوسَى فَمَا دُونَهُمَا.
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الْبَيَانِ وَإِلْزَامِ الْكَاذِبِينَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَالْأَنْبِيَاءِ بِالتَّوْرَاةِ، وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِتْيَانِ بِهَا وَتِلَاوَتِهَا عَلَى الْمَلَأِ، وَامْتِنَاعِهِمْ عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَظْهَرَ أَنَّ اللهَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنَ الطَّعَامِ قَبْلَ التَّوْرَاةِ. وَالْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلُّ حَتَّى يَرِدَ النَّصُّ بِالتَّحْرِيمِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بِتَحْوِيلِهِمُ الْحَقَّ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْ وَجْهِهِ، وَوَضْعِ حُكْمِ اللهِ بِتَحْرِيمِ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
قُلْ صَدَقَ اللهُ فِيمَا أَنْبَأَنِي بِهِ مِنْ عَدَمِ تَحْرِيمِ شَيْءٍ عَلَى إسرائيل قَبْلَ التَّوْرَاةِ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّنِي مُبَلِّغٌ عَنْهُ، إِذْ مَا كَانَ لِي لَوْلَا وَحْيُهُ أَنْ أَعْرِفَ صِدْقَكُمْ مِنْ كَذِبِكُمْ فِيمَا تُحَدِّثُونَ بِهِ عَنْ أَنْبِيَائِكُمْ، وَإِذْ كَانَ الأمر كَذَلِكَ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهَا حَالَ كَوْنِهِ حَنِيفًا لَا غُلُوَّ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَا تَقْصِيرَ، وَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، بَلْ هُوَ الْفِطْرَةُ الْقَوِيمَةُ وَالْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَإِسْلَامِ الْوَجْهِ لَهُ وَحْدَهُ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْخَيْرَ مِنْ غَيْرِهِ تعالى، أَوْ يَخَافُونَ الضُّرَّ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهِ الَّتِي مَضَتْ بِهَا سُنَّتُهُ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي:

قال رحمه الله:
{قُلْ صَدَقَ الله فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
يأمر الحق رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {قُلْ صَدَقَ الله فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}.
ونعرف أن ملة إبراهيم هي التي سمّت كل المؤمنين بالله المسلمين، والدعوة إلى الإيمان بملة إبراهيم هي لأيضاح أن جوهر الإيمان لا يحتمل الخلاف، فركب الإيمان والرسل والأنبياء هو ركب واحد، وكلمة اتبعوا تعني أن هناك مقدما كما أن هناك تابعا.
والملة تشمل المعتقدات والتشريعات العامة، كما أن الشريعة تشمل الأحكام، والدين يكون لبيان العقائد.
وقد عرفنا من قبل أن كلمة {حَنِيفًا} تعني الذي يسير على خط مستقيم، ويتبع منهجا قويما ومستويا ونحن نسمى ملتنا الحنيفية السمحاء ومع ذلك فالحنف هل ميل في الساقين، اليمين مقوسة إلى اليمين، واليسار مقوسة إلى اليسار، فكيف إذن نقول عن الدين الحق الهادي لمنهج الله وشريعته: أنه حنيف؟
لقد قلنا: إن السماء لا تتدخل بإرسال الرسل إلا حين يعم الفساد، وما دام الفساد قد عم فإن الذي يميل منحرفا عن الفساد هو الذي اهتدى إلى الصراط المستقيم، فالحنيف معناه مائل عن الفساد، فالمائل عن المعوج معتدل، {قُلْ صَدَقَ الله فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين}.
{صَدَقَ الله} نعم؛ لأن الصدق هو أن يطابق القول ما وقع فعلا، وحين يتكلم الحق وهو العليم أزلا فما الذي يحدث؟ لابد أن يوافق الواقع ما يقوله سبحانه وتعالى فليس من المعقول أن يتكلم الله كلاما يأتي على لسان رسول، أو على لسان أتباع الرسول، وبعد ذلك يأتي واقع الحياة فينقض قول الحق ويخالفه، إن الحق العليم أزلا يُنزل من الكلام ما هو في صالح الدعوة إلى منهجه.
إذن فحين يطلق الله قضية من قضايا الإيمان فإنه سبحانه عليم أزلا أنها سوف تحدث على وفق ما قال، إن كان الظرف الذي قيلت فيه لا يشجع على استيعابها وفهمها. إن المؤمنين كانوا في أول الأمر مضطهدين، ومرهقين وإن لم يكن للواحد منهم عشيرة تحميه فإنه يهاجر عن البلاد، وإن لم يستطع الهجرة فإنه يُعَذب ويضطهد. وفي هذه الفترة الشديدة القاسية وفي قمة اضطهاد المؤمنين ينزل القول الحق: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45].
وعندما يسمع سيدنا عمر عليه رضوان الله هذا القول يتساءل: أي جمع هذا؟ إن الواقع لا يساعد على هذا، ثم جاءت بدر، وهزم المؤمنون الجمعَ وولوا الدبر، وهذا دليل على أن الله قد أطلق قضية وضمن أنها ستحدث كما قال وكما أخبر، وهذا مطلق الصدق. إن الإنسان يمكنه أن يستبعد الصدق لو أن الذي قال غير الذي خلق، لكن الذي قال ذلك هو الذي خلق ويخلق ويعلم، فمن أين يأتي التناقض؟ وهذا معنى القول الكريم: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
إنه قول حق جاء من عند العليم أزلا، ومن العجيب أن أهل الكتاب من يهود ونصارى يتمسحون في سيدنا إبراهيم، فقال بعضهم: إن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا، وبعضهم قال: إن إبراهيم كان نصرانيا. وكان يجب أن يفهموا أن اليهودية والنصرانية إنما جاءتا من بعد إبراهيم، فكيف يكون يهوديا أو نصرانيا وهذه الملل قد جاءت من بعده؟ لذلك جاء القرآن الكريم قائلا: {يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 65].
وقد أوضح الحق بعد ذلك دين إبراهيم عليه السلام: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67].
فكيف يمكن أن يختلقوا على إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا؟ أنه كلام لا يصدر إلا عن قلة فطنة وغفلة بالغة. وعندما يقول الحق عن إبراهيم: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين} فهل أهل الكتاب مشركون؟ نعم؛ لأنهم حين يؤمنون بالبنوة لعزير، ويؤمنون بالنبوة لعيسى فهذا إشراك بالله، وأيضا كان العرب عبدة الأصنام يقولون: إنهم على ملة إبراهيم؛ لأن شعائر الحج جاء بها إبراهيم عليه السلام، ولهذا ينزه الحق سبحانه سيدنا إبراهيم عن ذلك، ويقول: {قُلْ صَدَقَ الله فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وذلك يدل على أن ملة إبراهيم وما جاء به موافقة لملة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام. ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسرائيل إِلَّا مَا حَرَّمَ إسرائيل عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى الله الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ الله فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)}.
أخرج عبد بن حميد والفريابي والبيهقي في سننه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} قال: العرق. أخذه عرق النسا، فكان يبيت له زقاء يعني صياح، فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل لحمًا فيه عروق، فحرمته اليهود.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير من طريق يوسف بن ماهك عن ابن عباس قال: هل تدري ما حرم إسرائيل على نفسه؟ ان إسرائيل أخذته الأنساء فاضنته، فجعل لله عليه إن عافاه الله أن لا يأكل عرقًا أبدًا. فلذلك تسل اليهود العروق فلا يأكلونها.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في الآية قال: حرم على نفسه العروق. وذلك أنه كان يشتكي عرق النسا، فكأن لا ينام الليل فقال: والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد، وليس مكتوبًا في التوراة وسأل محمد صلى الله عليه وسلم نفرًا من أهل الكتاب فقال: «ما شأن هذا حرامًا؟» فقالوا: هو حرام علينا من قبل الكتاب فقال الله: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل} إلى {إن كنتم صادقين}.
وأخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال جاء اليهود فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: «كان يسكن البدو، فاشتكى عرق النسا، فلم يجد شيئًا يداويه إلا لحوم الإبل وألبأنها، فلذلك حرمها قالوا صدقت».
وأخرج ابن جرير من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه} قال: حرم العروق، ولحوم الإبل، كان به عرق النسا فأكل من لحومها، فبات بليلة يزقو، فحلف أن لا يأكله أبدًا.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي محلز في قوله: {إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} قال: إن إسرائيل هو يعقوب، وكان رجلًا بطيشًا، فلقي ملكًا فعالجه، فصرعه الملك، ثم ضرب على فخذه، فلما رأى يعقوب ما صنع به بطش به فقال: ما أنا بتاركك حتى تسميني اسمًا. فسماه إسرائيل، فلم يزل يوجعه ذلك العرق حتى حرمه من كل دابة.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد في الآية قال: حرم على نفسه لحوم الأنعام.
وأخرج ابن إسحق وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس، أنه كان يقول: الذي حرم إسرائيل على نفسه زائدتا الكبد، والكليتين، والشحم، إلا ما كان على الظهر. فإن ذلك كان يقرب للقربان فتأكله النار.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء {إلا ما حرم إسرائيل} قال: لحوم الإبل وألبأنها.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال: قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: نزلت التوراة، بتحريم الذي حرم إسرائيل، فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} وكذبوا ليس في التوراة، وإنما لم يحرم ذلك إلا تغليظًا لمعصية بني إسرائيل بعد نزول التوراة {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} وقالت اليهود لمحمد صلى الله عليه وسلم: كان موسى يهوديًا على ديننا، وجاءنا في التوراة تحريم الشحوم، وذي الظفر، والسبت. فقال محمد صلى الله عليه وسلم: كذبتم لم يكن موسى يهوديًا، وليس في التوراة إلا الإسلام. يقول الله: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} أفيه ذلك وما جاءهم بها أنبياؤهم بعد موسى، فنزلت في الألواح جملة.
وأخرج عبد بن حميد عن عامر، أن عليًا رضي الله عنه قال في رجل جعل امرأته عليه حرامًا قال: حرمت عليه كما حرم إسرائيل على نفسه لحم الجمل فحرم عليه. قال مسروق: إن إسرائيل كان حرم على نفسه شيئًا كان في علم الله أن سيحرمه، إذا نزل الكتاب فوافق تحريم إسرائيل ما قد علم الله أنه سيرحمه، إذا نزل الكتاب وأنتم تعمدون إلى الشيء قد أحله الله فتحرمونه على أنفسكم ما أبالي إياها حرمت أو قصعة من ثريد. اهـ.

.تفسير الآيات (96- 97):

قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما ألزمهم سبحانه وتعالى بالدليل الذي دل على النسخ أنهم على غير ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأوجب عليهم اتباعها بعد بيان أنها هي ما عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، أخبر عن البيت الذي يخول إليه التوجه في الصلاة، فعابوه على أهل الإسلام أنه أعظم شعائر إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي كفروا بتركها، ولذلك أبلغ في تأكيده فقال سبحانه وتعالى: {إن أول بيت} أي من البيوت الجامعة للعبادة {وضع للناس} أي على العموم متعبدًا واجبًا عليهم قصده وحجه بما أمرهم به على لسان موسى عليه الصلاة والسلام، واستقباله في الصلاة بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولعل بناء وضع، للمفعول إشارة إلى أن وضعه كان قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام {للذي ببكة} أي البلدة التي تدق أعناق الجبابرة، ويزدحم الناس فيها إزدحامًا لا يكون في غيرها مثله ولا قريب منه، فلابد أن يدق هذا النبي الذي أظهرته منها الأعناق من كل من ناواه ويزدحم الناس على الدخول في دينه ازدحامًا لم يعهد مثله فإن فاتكم ذلك ختم في الدارين غاية الخيبة ودام ذلكم وصغاركم؛ حال كونه {مباركًا} أي عظيم الثبات كثير الخيرات في الدين والدنيا {وهدى للعالمين} أي من بني إسرائيل ومن قبلهم ومن بعدهم، فعاب عليهم سبحانه وتعالى في هذه الآية فعلهم من النسخ ما أنكروه على مولاهم.